يعيش الإنسان خائفا على صحته وعلى عمله (في بلاد العمل)؛ لأن فيهما الخوف على نفسه وعائلته وكرامتهما. عندما أكلم صديقا في ديار الله لأطمئن عليه، يقول: «الحمد لله، إنني أعمل». حدثت قبل فترة صديقا في ولاية ماريلاند، فقال: «لقد تجاوزت الثورة التكنولوجية، لم تستطع أن تلغيني. أنا الوحيد في المكتب الذي لا يعرفها، ومع ذلك صامد ومقبول».
قلت له ذكرتني «باللوديين». حركة مذعورة في القرن التاسع عشر ظن أصحابها أن الثورة الصناعية سوف تلغي أشغال الناس وتقطع أرزاقهم، لأنها سوف تحل الآلة محل البشر. وهكذا راح اللوديون في بريطانيا يحطمون المصانع ويكسرون الآلات ويعتدون على حراسها. ووجد عدد كبير من الحائكين وعمال الخياطة أنفسهم بلا مورد. واتسمت الحركة بالعنف والإرهاب. لكن الوضع تغير برمته عندما حملت الثورة الصناعية الازدهار ووسعت فرص العمل، وأدت إلى قيام طبقة جديدة من ذوي الدخول المريحة. انتهت الحركة اللودية من تلقاء نفسها نحو 1820. نعرف صديقة أخرى ممن تجاوزوا عاصفة الثورة التكنولوجية. لم نكن نتوقع أنها سوف تعمل ذات يوم. فوجئت وأنا أسأل عنها، تقول فرحة: «إنني أعمل». الباقي قصة حزينة من قصص الزواج والطلاق في أميركا. تداعى المنزل الجميل، فتداعى كل شيء. وهجم المرض على الابن والابنة. تمنيت لو أنني لم أتصل بعد كل هذه السنين، لكن صوتها كان مليئا بالشجاعة: «على الأقل أنا أعمل، لقد هزمت ثورة بيل غيتس وستيف جوبس معا». من لا يعمل في الغرب لا يعش. حضارة قائمة على النجاح الكبير والفشل المريع. لاحظت في فلوريدا أن عدد المشردين الذين ينامون على أبواب المباني أكثر منه في نيويورك، فلما سألت قيل إنهم يأتون إلى هنا لأنهم يفضلون الحزن في الدفء. هل سمعوا أغنية شارل ازنافور: البؤس أقل عقابا في الشمس؟ الثورة التقنية تطرد الكثير من الناس، خارج المكاتب، وأحيانا خارج البيوت. وأحمد الله أن أصدقائي ليسوا بينهم. لا تعني أرقام البطالة شيئا في العالم العربي. فنحن لسنا مجتمعا عاملا في أي حال. لكنها في المجتمعات العاملة مريعة ومفزعة ومثل السيف فوق الرؤوس. وصديقتنا التي هزمت بيل غيتس وستيف جوبس تقول إن رعبها الأكثر هو أن تصل إلى المكتب ذات يوم وتجد في انتظارها قرارا بالفصل. كيف ستبلغ ابنها وابنتها بذلك؟
(((منقول)))