شعر الخوارج
هلال ناجي
في خواتيم عام 1963 نشر الدكتور إحسان عباس الطبعة الأولى من كتابه " شعر الخوارج " ، وكان صنيعه هذا جليل الفائدة، إذ وضع للمرة الأولى شعر الخوارج الثوري الزهدي مجموعا في متناول الباحثين والدارسين، بعد أن بذلك جهدا ضخما في تقريه في شتى المظان مخطوطة ومطبوعة، حتى استوى له هذا المجموع النفيس فصدره " بنظرة في شعر الخوارج " .
ولقد كان أدب الخوارج وشعرهم موضع عناية عدد من جلة الباحثين على رأسهم الدكتورة سهير القلماوي في كتابها " أدب الخوارج " وأفرد له باحثون آخرون فصولا من كتبهم كالأستاذ أحمد الشايب في كتابه " الشعر السياسي في العصر الأموي " . وتناول الدكتور زكي المحاسني " شعر الحرب عند الخوارج " فعقد له فصلا لشعر الخوارج وآخر لشعرائهم في كتابه " الفرق الإسلامية في الشعر الأموي " كذلك عقد الأستاذ عزمي الصالحي فصلا صغيرا لشعر الطرماح المذهبي والسياسي في كتابه " الطرماح بن حكيم الطائي " .
وفي أواخر عام 1974 نشر الدكتور إحسان عباس طبعة ثانية من كتابة " شعر الخوارج " بعد أن أضاف إليه شعرا كثيرا من مصادر وقف عليها بعد صدور طبعته الأولى. كما إنه أعاد ترتيب القصائد على أساس زمني كذلك زود طبعته الثانية هذه بملاحظ تاريخية جديدة، ووضع تخريج القصائد واختلاف الروايات والتعريف بالأعلام في الحواشي، ولم يفرد لها مكانا خاصا كما فعل في الطبعة الأولى. وكان موفقا في هذا التغيير. وبتواضع نبيل وبخلق العالم الجليل ختم مقدمة طبعته الثانية هذه بقوله: " وأنا أحس بعد كل هذا الجهد بالموقف الضيق الذي يضع فيه جامع الشعر نفسه، إذ قد تفوته ؟ رغم الاستقصاء الكثير ؟ أبيات ومقطعات وقصائد، لم يوفق إلى الإطلاع عليها في المظان التي اعتمدها " .
وقد رأيت خدمة لشعر الخوارج عامة ولكتاب " شعر الخوارج " خاصة، إن أقدم باقة من شعرهم لم أرها في الطبعة الثانية، عسى أن يكون في استدراكها ونشرها خدمة للباحثين والدارسين.
(1/5)
نظرة في شعر الخوارج
1 - ؟ تمهيد:
هذا لوم من الشعر زهدي ثوري جامح، يكبر الإنسان الخارجي إكبارا شديدا، لأن كل إنسان ذهب في سبيل العقيدة يعد شهيدا، فهو المثل الأعلى في نظر أصحابه بعد استشهاده، وهو الذي يستحق الرثاء والبكاء، مثلما أن الجماعة الخارجية هي العصبة المثالية التي تمثل الحق، فهي إذن تستحق المدح والثناء؛ ومن ثم كان موضوع هذا الشعر هو الإنسان ؟ الإنسان الخارجي على وجه التحديد، والمحرك الداخلي فيه هو روح التقوى المتطرفة، فهو لذلك أدب قوي يزيد من قوته شدة التلازم بين المذهب الأدبي والحياة العملية، ويقترن فيه الصدقان: الصدق الفني والصدق الاجتماعي.
وقد ترك فيه موضوع الموت لونا حزينا ونغمة حزينة ولكنه لم يسلمه إلى يأس مطلق، لأن هذا الموت نفسه كان عند ذلك الشعر نوعا من الأمل، إذ لم يعد الموت إلا دخول الجنة أو لقاء الأخوان والأحباب الأبرار الأتقياء الذين تقدموا على الطريق.
(1/9)
2 - ؟ الوحدات الثلاث في الشعر الخارجي:
ومن ثم سيطرت على هذا الشعر وحدات ثلاث: وحدة الغايات، ووحدة الخصائص، ووحدة التيارات النفسية:
أ)أما وحدة الغايات فتمثل النقطة التي تلقي عندها أحلام كل واحد من أولئك الشراة وهي الاستشهاد في سبيل الله، أو طلب الموت ويمثلها قول البهلول:
من كان يكره أن يلقى منيته ... فالموت أشهى إلى قلبي من العسل
فلا التقدم في الهيجاء يعجلني ... ولا الحذار ينجيني من الأجل ب)وأما وحدة الخصائص فهي مجموعة الصفات السامية التي يمكن أن تقال في كل خارجي صادق العقيدة، ولذلك تشابه هؤلاء في الصورة العامة الكبرى، وأصبح الشعر المقول في وصف الشاري لا يميز إلا باختلاف الأسماء لأنه لا فرق بين أبي بلال ومطر وصالح بن مسرح وداود بن النعمان والخطار، فكل واحد فيهم يمكن أن يقال فيه ما يقال في الآخرين؛ وهذه الخصائص تتمثل في كل فرد على حدة كما تتمثل في الجماعة:
متأهبون لكل صالحة ... ناهون من لاقوا عن المنكر
صمت إذا حضروا مجالسهم ... من غير ما عي بهم يزري
متأهون كأن جمر غضا ... للموت بين ضلوعهم يسري
لا ليلهم ليل فيلبسهم ... فيه غواشي النوم بالسكر
إلا كرى خلسا وآونة ... حذر العقاب فهم على ذعر وتتمثل في النثر كما تتمثل في الشعر؛ يقول أو حمزة في خطبته: " شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر، فنظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على
(1/10)
أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة خوفا منها، كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم، واستقلوا ذلك في جنب الله " .
ويجدر بي أن أشير إلى أن هذه تتنازعها الفرق الإسلامية جميعا لأنها " المثال " الذي يرمز إلى المؤمن؛ يقول الحسن البصري وهو يرسم صورة المؤمن عند أهل السنة: " إن المؤمن قوم ذلل، ذلت والله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل وأنهم لأصحاء القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، والله ما حزنهم حزن الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وأن من لا يعتز بعز الله يقطع نفسه على الدنيا حسرات، هذا نهارهم فكيف ليلهم؛ خير ليل: صفوا أقدامهم وأجروا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله ؟ جل ثناؤه ؟ في فكاك رقابهم " . ويقول شاعر المعتزلة مصورا أصحاب واصل بن عطاء :
تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم ... على عمة معروفة في المعاشر
وسيماهم معروفة في وجوهم ... وظاهر قول قي مثال الضمائر
وفي قص هداب واحفاء شارب ... وكور على شيب يضيء لناظر ويقول الشاعر في وصف العلويين :
نهاركم مكابدة وصوم ... وليلتكم صلاة واقتراء
(1/11)
وليتم بالقرآن وبالتزكي ... فأسرع فيكم ذاك البلاء وهذه الأمثلة تدل على مدى المشاركة بين مختلف الفئات الإسلامية في تصورها للغاية المثالية في حياة الإنسان، وفي هذه الصفات خصائص زهدية قوية، وهي تمثل صفات " الحاكم الزاهد " المثالي، الذي يستطيع أن يحقق الخير ويصون الحقوق ويرعى الأمانات ويقيم العدل، وإذا كان الرسول في الماضي حقيقة سادت العصر الأموي، أو عصر الثورة الخارجية.
ج؟)وأما وحدة التيارات النفسية فتتمثل في الاتفاق على معاني التلوم النفسي عند أدنى شعور بالتقصير في جانب الوحدتين السابقتين: وحدة الغاية ووحدة الخصائص؛ يقول الشاعر الخارجي:
ولقد مضوا وأنا الحبيب إليهم ... وهم لدى أحبة أبرار
قدر يخلفني ويمضيهم به ... يا لهف كيف يفوتني المقدار ويقول شاعر آخر:
إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ... أشكو إلى الله خلاني لأنصاري وإذا كانت هذه الوحدات قد تركت طابعا من الصدق العميق في الشعر الخارجي فإنها أيضا عملت على خلق التشابه والتكرار فيه، وكان ضيق النطاق الذي فرضه الزهد على الشاعر يزيد من ذلك التكرار والتشابه، فإذا أراد الشاعر الخارجي ؟ وهو زاهد في الدنيا ليس له من هم سوى الجهاد في سبيل معتقده ؟ أن يتحدث عما يحتاجه من دنياه، لم يتذكر سوى آلة الحرب التي تمكنه من القيام بواجبه، وفي هذا يستوي حال الشعراء المجاهدين، ولهذا كان ما يقوله عطية بن سمر الليثي:
(1/12)
وحسبي من الدنيا دلاص حصينة ... ومغفرها يوما وصدر قناة
وأجرد محبوك السراة مقلص ... شديد أعاليه وعشر شراة مشابها لما يقوله عمرو القنا:
فحسبي من الدنيا دلاص حصينة ... وأجرد خوار العنان نجيب
معي كل أواه برى الصوم جسمه ... ففي الجسم منه نهكة وشحوب وليس بين ما يريده الشاعران من آلة هذه الدنيا فرق إلا في التفصيلات الجزئية، ويكاد التعبيران عن هذه الحاجة يتفقان في طبيعة الصياغة.
ولدى كل شاعر خارجي متأثر صورة واحدة لهذه الحياة الدنيا الفانية، فهو يريد أن يبيع الذي يفنى بما يبقى، وهم في هذه النظرة مشتركون، وليس في التعبير عنها أي تفاوت كبير، يقول أحدهم:
حتى أبيع الذي يفنى بآخرة ... تبقى على دين مرداس وطواف ويقول أبو بلال نفسه:
إني وزنت الذي يبقى بعاجلة ... تفنى وشيكا فلا والله ما اتزنا ويقول الرهين المرادي:
إني لبائع ما يفنى لباقية ... إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا وهكذا نجد أننا لو رصدنا أكثر الحاجات التي يعبر عنها هذا الشعر لوجدناها محدودة مشتركة بين شعراء الخوارج، وهذا هو ما يجعل التكرار سمة بارزة في ذلك الشعر. على أن هذا التكرار لا ينقص من درجة الصدق والإخلاص في هذا الشعر، لأنه ليس تكرارا بالتقليد، أو استدعاء لنموذج شعري غالب.
3 - الصراع مع الزمن وضروب الخذلان:
إذن تتمثل الروح الدينية في هذا الشعر، في الحماسة للعقيدة، ولكنها تتجلى أيضا في السعي لتقصير المسافة بين الله والإنسان، وهذا ما يظهر في تلك الأشعار
(1/13)
التي تدور حول استطالة الحياة ومحاولة التخلص منها لأن ذلك يحقق شيئين: اللحاق بالله واللحاق بالإخوان والأصحاب، وفي حدة الثورة على الوضع السيء يكمن الأمل في التخلص من هذه الحياة عند الخوارج، أي أن الموت عندهم هو الدين الحقيقي، ولذلك كان الشاعر الخارجي في صراع كبير مع الزمن، وسبيله للانتصار عليه هو الموت ؟ موقف معكوس إذا نحن آمنا بالحياة الدنيا. قارن صراع الخوارج مع الزمن بصراع أتقياء أهل السنة له، تجد أن أتقياء أهل السنة يؤمنون أن الصبر هو طريق النصر، وقارنه مع الصوفية تجد أن هؤلاء يؤمنون بأن المسافة انتصار متوج بالموت؛ بالاتحاد أو الفناء، أما الخوارج فيرون أن تقصير المسافة انتصار متوج بالموت؛ ومن أجل هذا التهافت على نار الموت ؟ طواعية واختيارا ؟ نجد لديهم تلك النغمة القوية التي تصور استطالة الحياة أي التبرم بانتصار الزمن، إذ يقول الحويرث الراسبي:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... هبلت دعيني قد مللت من العمر
ومن عيشة لا خير فيها دنيئة ... مذممة عند الكرام ذوي الصبر
سأركب حوباء الأمور لعلني ... ألاقي الذي لاقى المحرق في القصر وفي مثل هذا الموقف يكمن صراع حاد بين ميل للبقاء وميل للحاق بالإخوان الذاهبين، وهو صراع طبيعي في الموقف الإنساني، ومن صدق الخوارج أنهم لا يخدعون أنفسهم في مثل هذا الموقف وإنما يصورون تعلقهم بالحياة، من خلال تصويرهم للملل الذي اعتراهم من ابتعاد الموت، يقول زياد الأعسم في تصوير هذا الملل:
أقيم على الدنيا كأني لا أرى ... زوالا لها وأحسب العيش باقيا ويقول قطري:
إلى كم تغاريني السيوف ولا أرى ... مغاراتها تدعو إلي حماميا
(1/14)
وفي الذروة من هذا المعنى قول عمران:
أفي كل عام مررضة ثم نقهة ... وينعى ولا ينعى متى ذا إلى متى!! وتقول امرأة من الخوارج:
أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد سئمت دهنه وغسله ... ألا فتى يحمل عني ثقله ... هنالك إذن هذه الغاية التي نستطيع أن نسميها " غتية الموت " ، وهي التي تكيف الحياة عند الخوارج وتوجه الشعر والأدب عامة، وقد ثارت عليها النزعة الإنسانية ثورات، مرة بتصوير جمال الحياة، ومرة باللجوء مجالسة الأمراء الذين يعدهم الخوارج ظالمين، مثلما فعل سميرة بن الجعد حين أخذ يجالس الحجاج فكتب إليه قطري يقول:
فراجع أبا جعد ولا تك مغضبا ... على ظلمة أعشت جميع النواظر
وتب توبة تهدي إليك شهادة ... فانك ذو ذنب ولست بكافر ومن أوضح صور الخذلان ما عبرت عنه امرأة في مقارنة عقدتها بين لذة الحياة الجنسية وصعوبة القتال، ثم انهت ذلك بقولها ؟ وهي ترتد عما أخذت فيه - :
مروا بنا نرجع إلى ديننا ... فكل دين غيره باطل
وملة الضحاك متروكة ... لا يجتبيها أحد عاقل كذلك نجد من صور الخذلان التذمر من التنقل استعدادا للمعركة في قول بعضهم:
ألا ليست شعري هل أبيتن ليلة ... بعيدا من اسم الله والبركات
(1/15)
فقد كان أصحاب هذا الشاعر كلما أرادوا النقلة من مكان إلى آخر قالوا: ارحلوا على اسم الله وبركاته، وقد يكون عذر هذا الشاعر أنه كان مريضا، وربما حمل قوله على محمل من يريد مواجهة المعركة الحاسمة، وعندئذ لا يعد قوله خذلانا.
ولا ريب في أن أكبر صور الخذلان إنما تتم في الارتداد عن المذهب، كما فعل حصين بن حفصة السعدي الذي فارق قطري بن الفجاءة، وعاد إلى صفوف المهلب وقال يثني عليه ويذم قطريا:
فلما أبى إلا اللجاج بقتلنا ... نظرت وكان المستجار المهلب
عفو عن الذنب العظيم كأنه ... لمن ليس يرجو العفو عن ذنبه أب وهذا يشبه موقف بعض الخوارج الذين كانوا يقدمهم الحجاج للقتل، فيمدحونه بشعر يكون سببا لخلاصهم أو يعلنون توبتهم وارتدادهم عن مذهبهم.
وقد أثارت تنقلات قطري أما جيوش المهلب صورا من الخذلان بين الخوارج، وسموا هذا التنقل هربا، وأنحوا باللائمة على قطري من أجله، فقال أحدهم:
هربنا نريد الخفض من غير علة ... وللحرب نار لا تفل ومخلب
فقولا لأصحاب القران نصيحة ... دعوا الظن إن الظن بالناس يكذب وقال آخر:
أيا قطري الخير إن كنت هاربا ... ستلحقنا عارا وأنت مهاجر
فحتى متى هذا الفرار مخافة ... وأنت ولي والمهلب كافر غير أننا أن نتوقف قليلا عندما يمكن أن نسميه " عقدة المهلب " في نفوس الخوارج، وقبل كل شيء لا مجال لنفي ما مني به الخوارج على يد المهلب من إنهزامات وإخفاق، ولكن صورة المهلب أصبحت لديهم مخيفة، وأصبحوا ؟ إن صحت نسبة كل هذا الشعر إليهم ؟ لا يتورعون عن الإقرار بذلك الخوف
(1/16)
فهذا عبيدة بن هلال يقول:
ليس لنا في الأرض منه مهرب ... ولا السماء أين أين المذهب ... ويصرح قطري بخوفه من المهلب ويقول في بعض ما نسب إليه:
ولكن منينا بالمهلب إنه ... شجى قاتل في داخل الحلق منشب ويقول في موضع آخر:
ألم ترنا والله بالغ أمره ... ومن غالب الأقدار لا شك يغلب
رجعنا إلى الأهواز والخيل عكف ... على الخير، ما لم ترمنا بالمهلب ويقول أيضا:
إن شجانا في الوغى المهلب ... إن الشعر والفروسية يبيحان تقدير المهلب والاعتراف بشجاعته وقدرته، كما فعل قطري في إنصاف المغيرة بن المهلب حين أثنى على شجاعته في النزال، ولكن هل تبيح الحرب بث الخوف في نفوس الأصحاب من المهلب، وهل من المعقول أن يكون كل هذا الشعر الذي يوحي بالتخاذل أمامه، واستساغة الهرب من وجهه، قد صدر عن الشعراء الخوارج؛ إنني أرى في هذا الشعر والقصص المرفق به ملحمة أزدية، من عمل القصاص ؛ بل أعتقد أن كثيرا من صور الخذلان التي نسبت إلى الخوارج إنما هي مزورة عليهم؛ إن كلمة " خارجي "
(1/17)
تعني أحيانا أي خارج على السلطان، دون أن يكون هذا الخارج من الشراة، وأظن أن الأخبار التي تتحدث عن مواقف بعض الخوارج بين يدي الحجاج إنما تشير إلى هذا النوع الثاني من الخارجين لا إلى أبناء المذهب الخارجي؛ فإذا أخذنا بهذين التقديرين لم نقبل كثيرا من ذلك الشعر الذي يمثل ألوانا من الخذلان ونفينا نسبته إلى الخوارج ؟ الشراة ؟؛ ليس معنى هذا أن لحظات الضعف لا وجود لها في حياة الناس ؟ أيا كان انتماؤهم ؟ وإنما تغلب هذه اللحظات على أناس خرجوا طلبا للاستشهاد هو الشيء الذي أتردد في قبوله.
4 - ؟ عمران بحطان بين شعراء الخوارج:
وفي عمران بن حطان تتبدى حقيقة هذا الشعر الذي انصهرت فيه جميع العواطف الدينية ؟ انصهرت دون أن تموت ؟؛ فعمران يتميز عن قطري بن الفجاءة، لأن قطريا ارتطم بالذات حتى أصبحت محورا لشعوره، فإذا ناجى نفسه أو تحدث عن الحرب أو عن الموت والإقدام فما ذلك إلا لكي يصور ذاته ويفتخر بما فعل، كما في قوله:
لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفا لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي ... اكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام فالشاعر يحبب القتال إلى الناس وينفرهم من الإحجام، ولكنه يدير الكلام حول نفسه ليفخر بفروسيته وشجاعته، وهكذا هو قطري في كل أشعاره لا يستطيع أن يخفي حقيقة شعوره بإنسانيته وتفردها، وإن كان يقر للأبطال من أعدائه ببطولتهم، ولا يحالول أن يخفي علاقته بحب الحياة أحيانا، كما في قوله:
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم
(1/18)
من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقم وعمران يتميز عن الطرماح، بل إن من غير الإنصاف أن نقابل بين الشاعرين، لأن الطرماح شارك في المنازعات القبلية وأسرف في العصبية كما أسرف في هجاء القبائل الأخرى وفي الفخر بنفسه؛ وبين حين وآخر كانت تستيقظ في صدره بعض المشاعر الزهدية، إلا أن كلبه على المال يباعد بينه وبين الزهد الدقيق، فهو من أجل ذلك كله لا يمثل الروح الخارجية تمثيلا وافيا.
أما عمران فيمثل حقيقة الزهد الخارجي لأن الصراع في نفسه أقوى منه في نفوس الشعراء الآخرين من الخوارج، ولأن النزعة الإنسانية في شعره ليست تيارا سطحيا كما هي عند قطري، بل هي تيار عميق لابد لرؤيته من التغلغل في أعماق نفسه.
وتصفه لنا المصادر بأنه كان أفوه آدم طويلا، وتزيد إحدى الروايات أنه كان دميما، ولعل هذا الوصف الأخير إنما ذكر ليلتئم مع قصة تتحدث عن تحوله إلى المذهب الخارجي بتأثير امرأة جميلة تدعى " جمرة " ، يقال إنها كانت ابنه عمه، ومجمل هذه الرواية أن عمران كان في مبدأ أمره منصرفا إلى طلب العلم مشمرا في تحصيله، ولم يكن ينتمي إلى المذهب الخارجي، ولكنه حين رأى جمرة أخذ بجمالها وأحبها، وكانت خارجية، فسعى ليردها عن مذهبها، وبدلا من أن ينجح في ذلك نجحت هي في تحويله إلى مذهب الخوارج.
ولكن هناك رواية أخرى تقول شيئا آخر غير الذي قالته الرواية السابقة؛ تقول إن جمرة كانت زوجا لرجل اسمه سويد بن منجوف، وكانت خارجية فسمعت بعمران وعبادته ونسكه فأرسلت إليه تطلب أن يخلصها من زوجها لتتزوج من عمران لأن رأيها رأيه ودينها دينه، فأقبل عمران ومعه نفر من الخوارج على سويد وكلموه في أمرها فطلقها وتزوجها عمران، وقيل لسويد، أطلقت جمرة خوفا من الخوارج؟ فقال: لا، ولكني لا أحب أن يكون عندي من يكرهني.
(1/19)
وأنا أرى أن الروايتين تكمل إحداهما الأخرى: كلتاهما تثبت أن جمرة خارجية، وأن عمران بن حطان أحبها، أو أنها هي التي أحبته، ولكن الفرق بينهما إن إحداهما تزعم أن عمران لم يكن خارجيا، وتذهب الثانية إلى أنه كان على مذهب الخوارج قبل أن يعرف جمرة، وأنه لم يتحول بتأثير منها، وأنه لم يعتنق في سبيلها مذهبا جديدا.
هل كان تعلق عمران بجمرة عائقا له عن طلب الاستشهاد؟ هل هو الذي حبب إليه القعود وجعله يستسهل كل شيء إلا الموت لأنه يحرمه من جمرة؟ مثل هذا قد ينسجم مع الرواية الأولى، وكان يمكن أن يفسر هذه الظاهرة في حياته، كما يفسر ظاهرة الفرار من مكان إلى آخر؛ ولكن وجود الرواية الثانية يجعلنا نرجح أن الشاعر لم يجنح إلى الأخذ بمبدأ القعود إلا عندما كبرت سنه؛ وأيا كان الأمر فهذا لا ينفي أن عمران كان يحب الحياة حبا جارفا كامنا في أعماق نفسه، وأنه كان يعبر أحيانا عن هذا الحب بمثل قوله:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... إلي جرى دمع من العين غاسق وكان الزوجان غير المتكافئين في جمال الخلقة أو في الدمامة يشعران بالفوارق بينهما، فكانت الزوجة تعابث زوجها وتقول له أحيانا: أنا وأنت في الجنة لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت مثلك فصبرت؛ وفي سبيل التدليل على ذلك الشكر كان عمران شديد التعليق بجمرة، واكثر ما كان يفتنه فيها ؟ حسب زعم إحدى الروايات ؟ ذلك الخال الذي كان يزين وجهها، وعمران يستجمله فيقبله؛ ومن الحق أن هذا الحب أثمر الوفاء، فحين توفي عمران عن زوجه خطبها آخر فأبت أن تتزوجه، وعمدت إلى الخال الذي كان يحبه عمران فقطعته وقالت: والله لا ينظر إليه أحد بعد عمران.
تلك رواية لا تعدو أن تكون ضربا من القصص التي تروى عن العشاق العذريين، ولها مشابه في أخبارهم؛ وشبيه بها رواية أخرى تعيد قصة سويد بن منجوف، زوج جمرة الأول، فتقول إنه هو الرجل الذي عاد إليها يخطبها بعد
(1/20)
وفاة عمران (رغم أنه سرحها من قبل لأنه لم يشأ أن يساكن من لا يحبه) فقالت له جمرة: مكانك حتى أخرج إليك، ودخلت مخدعها ثم خرجت وهي تلبس مطرفا كان لعمران، وقد لاثت على رأسها عمامة، فلما سألها سويد لم فعلت ذلك قالت: إني سمعت خليلي أبا شهاب يقول:
وتلبس يوما عرسه من ثيابه ... إذا قيل هذا يا فلانة خاطب فأحببت أن أصدق قول أبي شهاب بلبسي هذا من ثيابه؛ ثم أمرته بالإنصراف لأنها لا تريد زوجا بعد عمران.
وليس لقصتين من قيمة كبيرة إلا في دلالتهما معا على مدى العلاقة الطيبة التي قامت بين الزوجين، وهي علاقة يؤكدها الشعر نفسه، فالشاعر الذي لم يكن يستجيز المدح، يمدح زوجه ؟ دون أن يكذب، بخلات صدق فيها:
يا جمر إني على ما كان من خلقي ... مئن بخلات صدق كلها فيك
الله يعلم أني لم أقل كذبا ... في ما أقول وأني لا أزكيك فأما قصة تعرض جمرة لمن يخطبها بعد وفاة عمران، فربما كانت قضية السن تحول دون أخذها على علاتها، غير أنها تؤكد ما كان لدى جمرة أيضا من حب ممتزج بالوفاء.
ولكن هذا الحب لم يكن يمنع جمرة من أن تنتقد زوجها إذا حاد عن مبدأه، حتى أصبحت في حياته موجها كبيرا؛ وإذا كان الشعراء الآخرون من الزهاد يلتفتون إلى نفوسهم ويناجونها ويعرضون عليها آلامهم، فإن جمرة في شعر عمران حلت محل النفس، فإليها يجهر الشاعر بحيرته، وإليها يفزع حين يشعر بمآسي الحياة من حوله، وإليها يتحدث بآرائه وعقديته، وبين يديها يبكي إخوانه الذي كانت تبتلعهم الحروب. ولو عرفنا عن طفولة عمران شيئا واضحا لاستطعنا أن نفسر هذا التعلق، وربما لم نتردد حينئذ في أن نقول: إنه وجد في جمرة أما جديدة، تحققت على يديها عودته إلى الطفولة. فلم تكن جمرة رقيبا قاسيا وإنما
(1/21)
(1/16)
فهذا عبيدة بن هلال يقول:
ليس لنا في الأرض منه مهرب ... ولا السماء أين أين المذهب ... ويصرح قطري بخوفه من المهلب ويقول في بعض ما نسب إليه:
ولكن منينا بالمهلب إنه ... شجى قاتل في داخل الحلق منشب ويقول في موضع آخر:
كيف أواسيك والأحداث مقبلة ... فيها لكل امرئ عن غيره شغل تجد أن جمرة هي نفس عمران، فليس الأمل كما يتصوره قد طمح بها وإنما طمح بنفسه، وهو يحاول أن ينجو من هذا الصراع القاتل الذي وضع العيش والموت على طرفي نقيض؛ وخفض العيش في ظل الزوجة المحبوبة العاقلة المخلصة لا ينغصه إلا الموت، وأهم ما يعييه عن مواساتها يوم يصبح كل إنسان مشغولا بنفسه. إلا أن الشاعر عاد يطمئن هذه النفس بأن الموت نفسه سيموت:
لا يعجز الموت شيء دون خالقه ... والموت فإن إذا ما ناله الأجل وقد عجب الأقدمون كيف اهتدى هذا البدوي الساذج إلى أن يميت الموت ؟ كلمة قال مثلها من بعد الشاعر الإنجليزي دن Donne حين صرخ ذات مرة: " أيها الموت! إنك ميت لا محالة " Death، thou shalt die،
ومرة أخرى تقف جمرة والموت متقابلين في نفس عمران فيثير هذا التقابل نغمة من أشجى النغمات في الشعر الخارجي سكب فيها عمران حزنه وتفجعه مخاطبا زوجه:
إن كنت كارهة للموت فارتحلي ... ثم اطلبي أهل أرض لا يموتونا
فلست واجدة أرضا بها بشر ... إلا يروحون أفواجا ويغدونا
يا جمر قد مات مرداس وإخوته ... إلا يروحون أفواجا ويغدونا
يا جمر لو سلمت نفس مطهرة ... من حادث لم يزل يا جمر يعيينا
إذن لدامت بمرداس سلامته ... وما نعاه بذات الغصن ناعونا وهذه الصيحة المتألمة المنبعثة من أعماق القلب تصور لنا كيف تتنازع عواطف
(1/22)
عمران حقيقتان: حقيقة الصديق ؟ الإمام ؟ المثل الأعلى وهو مرداس، وحقيقة المرأة الجميلة التي يزين وجودها الحياة في عينيه؛ ومرة أخرى نرى أن الكاره للموت ليس هو جمرة وإنما نفس عمران، ولكنا نعرف أن مقتل مرداس كان من أكبرالأحداث التي أثرت في نفسه، حتى ليخبرنا أنه بغضه في الحياة وحبب إليه الخروج:
لقد زاد الحياة إلي بغضا ... وحبا للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرى العوالي
ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبال وقد تغير كل شيء بعد ذهاب مرداس، وأصبح عمران ينكر بعده كل ما قد كان يعرفه. " ما الناس بعدك يا مرداس بالناس " .
وكان هذا الذي يتنازع عمران من التفات إلى جمرة والتفات إلى مرداس يكسب شعره أسى بالغا، ويؤثر في نظرته إلى وجود فيمنحها عمقا فلسفيا لا يوجد عند غيره من شعراء الخوارج. ومن جراء هذا الصراع استطاع أن يعبر تعبيرا عميقا عن حب الحياة حين صور تعلق الخلق بها حتى العراة الجائعون الذين هم أحق الناس باليأس من أمرها:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على أنهم فيها عراة وجوع ويقول في قصيدة أخرى:
أرانا لا نمل العيش فيها ... وأولعنا بحرص وانتظار
ولا تبقى ولا نبقى عليها ... ولا بالأمر نأخذ بالخيار
(1/23)
وهكذا يظهر لنا عمران شاعراص متأملا، تجري في شعره بعض الملاحظ النفسية الدقيقة عن حياة الناس وعلاقاتهم، وبهذا العمق في النظرة إلى الحياة والموت وفهم الطبيعة الإنسانية قل أن نجد لعمران مثيلا لا بين شعراء الزهد فحسب بل بين شعراء عصره عامة، وهو في مراثيه لمرداس وتحليله لشخصية الخارجي المثالي، وفي استطالة الحياة، ووقفته من الصراع بين البقاء والفناء أصدق من يمثل الزهد الثوري والشعر الخارجي؛ وبالجملة لست أرى الآمدي مبالغا كثيرا حين قال فيه: إنه أشعر الناس في الزهد ، فإذا لم يكن من الحق أن نميزه بهذه المبالغة العصور ؟ حتى عصر الآمدي ؟ فليكن ذلك منصرفا إليه في عصره وحده.
5 - ؟ نقد الحياة في الشعر الخارجي:
إلى هذا الحد تحدثت عن التلازم بين العقيدة الخارجية والشعر الخارجي والآثار الموجبة والسالبة التي نجمت عن هذا التلازم، ويقتضيني المقام أن أقول كلمة في اضطلاع ذلك الشعر بنقد الحياة عامة، ومهاجمة عيوب المجتمع وعيوب الدولة. فمن صور ذلك النقد الثورة على الحرص والجشع وحشد الأموال، وهذا يتبين في قول الطرماح:
عجبا ما عجبت للجامع المال يباهي به ويرتفده ... ويضيع الذي يصيره الله إليه فليس يعتقده ... يوم لا ينفع المخول ذا الثروة خلانه ولا ولده ... يوم يؤتى به وخصماه وسط الجن والإنس رجله ويده ... وفي قول عمران:
حتى متى تسقى النفوس بكاسها ... ريب المنون وأنت لاه ترتع
فتزودن ليوم فقرك دائبا ... واجمع لنفسك لا لغيرك تجمع
(1/24)
ولكن نقد الأغنياء في شعر الخوارج قليل، وأعتقد أن قلته لا تعود لضياع معظم ذلك الشعر بقدر ما تعود إلى طبيعة الجماعة الخارجية نفسها، من حيث أنها لم تشك التفاوت بين الغنى والفقر، وكان التعاطف بين أفرادها يؤكد معنى الرضى ويجعلها أقل شعورا بالحاجة للثورة على الغنى. كذلك يقول شاعر الخوارج:
متراحمين ذوو يسارهم ... يتعطفون على ذوي الفقر
وذوو خصاصتهم كأنهم ... من صدق عفتهم ذوو وفر
متجميلن بطيب خيمهم ... لا يهلعون لنبوة الدهر
فكذلك مثريهم ومقترهم ... اكرم بمقترهم وبالمثري فإذا كان في الشعر الخارجي نقد لذوي الثراء فهو موجه إلى خارج محيط الدائرة الخارجية.
ولكن شعر الخوارج كان عنيفا في محاربة العيوب الاجتماعية الأخرى من نفاق وكبر وتملق، لأن زهاد الخوارج كانوا على شعور تام بمظاهر التناقض في المجتمع من حولهم، وكانت صلابتهم في المحافظة على المبدأ تظهر الفرق بينهم وبين الآخرين، فالجند الإسلامي ؟ في سبيل الرزق ؟ قد يحارب اليوم مع ابن الزبير ويرى أنه أمير المؤمنين فإذا عرض لهم ذكر عبد الملك شتموه وعابوه، وبعد يوم من مقتل ابن الزبير يصبح الجند في صف الدولة. وقد امتحن الخوارج أولئك الجنود وهم مرابطون يحاربون اسم ابن الزبير دون أن يعلموا بمقتله وسألوهم عنه وعن عبد الملك فأنثوا على الأول وعابوا الثاني، وفي اليوم الثاني علم الجند بمقتل صاحبهم وأن تبعتهم انتقلت إلى عبد الملك فجاء الخوارج يهزأون بهم ويسألونهم رأيهم في الخليفة الجديد فما يحيرون جوابا . وهذه الحياة الآلية غريبة في نظر المتحمسين الذين يموتون من أجل العقيدة، وهي النقيصة الكبرى التي كان يبصرها
(1/25)
الخوارج في مجتمع أعدائهم. وكان مما أثار عمران إلى نقد هذه الناحية أنه سمع بعض الجند يقولون: وما لنا لا نقاتل الخوارج؟ أليست أعطياتنا دارة؟ فقال عمران يتهكم بهذه الحال :
فلو بعثت بعض اليهود عليهم ... يؤمهم أو بعض من قد تنصرا
لقالوا رضينا أن أقمت عطاءنا ... وأجريت ذاك الفرض من بر كسكرا وعند عمران أيضا ثورة على التملق الذي تفشى في طبقات الشعراء ودفع بهم إلى الكذب من أجل المال، إذ يقول في من يمدح لينال العطاء:
أيها المادح العباد ليعطى ... إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسم العواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه ... وتسمي البخيل باسم الجواد أما في نقد السياسة عامة فنسمع مثل قول عمران:
حتى متى لا نرى عدلا نعيش به ... ولا نرى لدعاة الحق أعوانا ومقل قول أبي بلال مرداس بن أدية:
وقد أظهر الجور الولاة وأجمعوا ... على ظلم أهل الحق بالغدر والكفر ولا بد لنا من أن نفترض أن شعر الخوارج أثار نقدا اجتماعيا عند غيرهم من الفئات لأنه زاد من حدة الشعور بالنقائض الاجتماعية، وهذه ظاهرة متكاملة تحتاج دراسة مستقلة. وعلى الجملة يتبين لنا من مراجعة شعر الخوارج أن الموضوعات الشعرية التقليدية فيه قد أصيبت بالاستحالة، فاستحل المدح في سبيل الرزق ثناء على الشراة أنفسهم، واقتصر الرثاء على الأخوان والأصدقاء الذين ضحوا بأنفسهم