أنهت الحملة الصليبية الأولى التى بدأت عام 1096 بأنتصار الصلبيين، فأحتلوا آسيا الصغرى و فلسطين و القدس. ولكن القدس حررت ثانية عام 1187 بأيدى المسلمين. فأرسل البابا مبعوثه إلى ممالك أوروبا مناشداً تجهيز حملة صلبية جديدة ضد المسلمين. فأستجاب لطلب البابا ثلاثة من ملوك أوروبا هم : ريتشارد الاول ملك إنجلترا ( 1189 - 1199 )، و فيليب الثانى ملك فرنسا، و فريدريك بارباروسا ملك ألمانيا، و أعدوا عدتهم للتوجه إلى القدس. وكان بطل هذه الحملة الملك الإنجليزى ريتشارد الأول الملقب بقلب الاسد لشجاعته التى أبداها فى المعارك.
أظهر ريتشارد حماسته لفكرة أحتلال الأرض المقدسة من أصحابها المسلمين، و أخذ يستعد من أجل مهمته الكبرى، فجمع الأموال عن طريق بيع أملاك التاج و فرض الضرائب. وفى صيف 1190 خرج ريتشارد على رأس جيش قوى بأتجاه الشرق. فأحتل جزيرة قبرص ووصل فى 8 حزيران ( يونيه ) عام 1191 أمام أبواب عكا، وهى مدينة منيعة على ساحل فلسطين.
وكان فريدريك بارباروسا قد غرق فى الطريق، أما الملك الفرنسى و سائر الأمراء الأوروبيين فكانوا يفرضون الحصار حول حصن المسلمين. وبعد حصار دام 5 أسابيع سقطت عكا، ثم حاصر ريتشارد مدينة القدس التى أمتنعت عليه لبسالة الجيوش الإسلامية.
و بينما كان ريتشارد منهمكاً بحصار القدس كان أخوه جون يخطط للإستلاء على العرش فىى بريطانيا. لذلك وقع ريتشارد هدنة لمدة ثلاث سنوات مع صلاح الدين و عاد إلى وطنه. وقد تحطمت سفينته وسط البحر الادرياتيك، فواصل رحلته براً بعدما تنكر بلباسه. إلا أن دوق النمسا، أحد أعدائه، تعرف إليه و تعقبه، فأسره و سلمه إلى هنرى السادس إمبراطور ألمانيا.
وقد طالب الإمبراطور بمائة ألف جنيه فدية لملك إنجلترا. وعلى الرغم من ضخامة المبلغ فإن الشعب الإنجليزى جمعه. وبذلك أسترد ريتشارد حريته عام 1194، ووصل إلى لندن حيث أستقبل بأبتهاج.
لم يبق ريتشارد طويلاً فى بلده، فقد قام فيليب الثانى ملك فرنسا بغزو نورمانديا التى كانت إحدى ممتلكات إنجلترا. لذلك هب ريتشارد للدفاع عنها و للإشراف على بناء واحدة من أفخم قلاع ذلك العصر : " شاتو غايار "، وقد كانت متحكمة بوادى السين.
و يقال أن فيليب أعلن : " سأحطمها حتى ولو كانت أسوارها مصنوعة من الصلب ". فكان رد ريتشارد : " سأدافع عنها حتى ولو كانت أسوارها مصنوعة من الزبد ". وبعد حرب أستمرت ثلاث سنوات لم يكن بإمكان أى منهما الإدعاء بأنه قد وصل فى المعركة إلى نتيجة مرضية.
وشاء القدر أن يدبر حادثاً غير ذى بال يقصى ريتشارد بعيداً عن حملة النورماندى. فقد عثر أحد أتباعه، الفيكونت أوف ليموج، على مدالية ذهبية فى حقل بالقرب من حصن " شالو ". وسمع ريتشارد أن هذه الميدالية ذات قيمة كبيرة جداً، وبصفته أميراً على الفيكونت، طالبه ريتشارد بتسليم الميدالية. ولكن الفيكونت رفض، فصمم الملك على محاصرة هذا الحصن، غذا بسهم يصيبه فى كتفه قريباً من عنقه، وكان كافياً للقضاء عليه. و أيقن ريتشارد أن ساعته قد دنت، فتلقى الصلاة الأخيرة و فارق الحياة، و لم يكن قد تجاوز الثانية و الاربعيين من عمره.
دفنت رفات ريتشارد فى " فونتيفرولت "، أما قلبه دفن فى مدينة " روان ". وشاء القدر ألا يقضى هذا الملك فى وطنه إلا أشهراً قليلة فى زيارتين سريعتين. و بالرغم من أن حكمه أستمر عشر سنوات فقد كتب له أن يظل خارج بلده حتى بعد موته.