صديق مشارك
تاريخ التسجيل: April-2013
الجنس: ذكر
المشاركات: 102 المواضيع: 46
التقييم: 23
مزاجي: سبورتي
آخر نشاط: 30/June/2015
عمارة الحداثة في بغداد .. سنـــــوات التـــــأسيــــس وروح المكـــــــان
عمارة الحداثة في بغداد .. سنـــــوات التـــــأسيــــس وروح المكـــــــان
المدى الثقافي
عقدت مؤخراً، في العاصمة العراقية مابين 16-18 نيسان الجاري، ندوة "عمارة الحداثة في بغداد: من لو كوربوزيه الى العراقيين الرواد"، نظمت الندوة التي أقيمت ضمن فعاليات "بغداد عاصمة الثقافة العربية" كل من: وزارة الثقافة، جامعة بغداد، السفارة الفرنسية بالعراق، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، ومكتب يونسكو للعراق. أقيمت الندوة في جامعة بغداد. أدناه نص ورقة د. خالد السلطاني، المقدمة للندوة (الجزء الأول):
أسعدتم نهاراً
أود ابتداء أن اشكر منظمي ندوة "عمارة الحداثة في بغداد: من لو كوربوزيه الى المعماريين العراقيين الرواد".
أرحب بكم جميعاً ، واقدر عالياً اهتمامكم في موضوع حديثي، وهو موضوع محبب وأثير لدي ، فمنذ عقود حاولت وأثناء عملي أستاذا في كلية الهندسة / جامعة بغـداد أن أثير الانتباه نحو العمارة العراقية ورموزها، منظماً ندوات ولقاءات لتكريس هذا الانتباه، وتبيان خصائص وسمات العمارة العراقية الحديثة، وتسجيل منجزاتها؛ كما حاولت أن أوجه طلابي، وهم خريجي مدرسة العمارة البغدادية، الى ضرورة الاهتمام المهني بأهمية موضوع عمارة الحداثة، أثناء إعداد اطاريحهم في مراحل الدراسات العليا. وباختصار، فان موضوع عمارة الحداثة في بغداد والعراق عموماً، هو مشروعي المهني والشخصي لسنين عديدة. وبالتالي فانه لسرور كبير لي ان أتكلم عن هذا الموضوع أمامكم.
وفي كل الأحوال، ما هو، وماذا يعني مفهوم عمارة الحداثة في بغداد؟
بعيـداً عن الغور في تقصي مفردات هذا المفهوم، فان عمارة الحداثة في بغداد – هو ذلك النشاط البنائـي الذي بدأ يظهر جليـاً في المشهد المعماري البغدادي والعراقي، اعتباراً من عشرينات القرن الماضي، أي بالتساوق مع تأسيس الدواـة العراقية في أوائل خريف 1921، وكان ظهوره متسماً بالجدة والاختلاف، وحتى القطيعة عن سياق الممارسة البنائية السابقة لـه.
لم يقتصر المفهوم الموضوعي لعمارة الحداثة في بغداد، على ما تم تحقيـقه من منجزات بنائية ملموسة وواقعية، وإنما شمل أيضا ما تمٌ تداوله من أفكار ومخططات ومواضيع بنائيـة لم يتم انجازها. وإذ يعرف احد الألمان <التاريخ> كونـه "حاصل الممكنات التي تحققت"؛ فان تاريخ عمارة الحداثة البغدادية والعراقية عموماً، ووفقاً لهذا المفهوم، لا يعني "فقط" حاصل ممكنات المبانـي التي تحققـت" ، بـل يعني كذلك "حاصل ممكنات المبانـي التي لـم تحـقق، وكان يمكن لـها ان تتحـقق"؛ انـه لا يعنـي مـا"كان" فحسـب ، بل أيضا ما "كان ينـبغي أن يكـون .." !
فهذا التاريخ يغطي جميع المنشآت المبنيـة وكذلك المشاريع التي لم تنفذ وظلت رسومها تخطيطات أوليه Sketches لعمائر مصمّمة ورقياً. انه يشمل انجاز البنائيين، والأسطوات الحرفيين والمعماريين العراقيين، جنباً الى جنب أفكارهم وطموحاتهم وحتى إدعـاءاتهم، ومـا أكثرها في المشهـد المعـماري العـراقي! أي إن هـذا المفـهوم يدمــج في طياتـه المتحـقق، المعرفي (الابستـمولـوجـي) Epistemology، وحتى الوجداني. لكننـي، ولضيق الوقت، سأقوم بعملية اختزال واسعة لهذا المفهوم محددا مرحلتين أساسيتين في مسار عمارة الحداثة في بغداد، دعيتها سنوات التأسيس وروح المكان، وهمـا :
المرحلـة الأولى – التي تمتد من العشرينات وحتى بدايـة الأربعينات .
والمرحلـة الثـانية – تبدأ من الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الخمسينات .
إن هاتين المرحلتين هما أساس عمارة الحداثة في بغداد و في العراق ، واستند التطور اللاحق لمسار العمارة في بغداد وفي عموم الـبلاد على منجزات تينيـك المرحلتين.
المـرحلـة الأولى:
يمكن القول ان ما شهدته المرحلة الأولى في مسار عمارة الحداثة البغدادية كان بمثابـة صدمة؛ صدمة حضارية سريعة ومفاجئة، نظراً لما تم انجازه مقارنةً بما كان سائداً قبل تلك المرحلة. فالمتغيرات شاملة وكثيرة وجذرية. ليس في نوعية العمارة، وإنما في جميع ما يمكن ان نسميه بالأعمال "اللوجستية" التي تخص البناء والتعمير ، والتي أسهمت بدورها في تسريع ظهور المتحقق وتكريسه .
فلأول مرة تنظم هيئات إدارية معنية بالتصميم والإشراف، ولأول مرة تظهر وظيفة جديدة هي المعمـار –ليس المعمار: البناء أو الاسطة، كما كان يدعى سابقاً – وانما المعمار بصفته مهندساً وخريجاً من مدرسة معمارية عالية، كما ان ظهور مواد جديدة وكذلك تنظيم إنتاج المواد الإنشائية المعروفة وفق ضوابط ومقاييس حديثة أفضى هو الآخر الى تسريع عملية ظهور المنجز المعماري الجديد بصورة واضحة ومكتملة؛ ولاننسى توق النخبة المتعلمة الجديدة وقتذاك ونزوعها نحو العيش في احياء مصممة، تتلائم مع تطلعاتها في القطع مع الماضي والحرص على استثمار فوائد التكنولوجيا المتاحة .
وتجدر الإشارة الى تأسيس "دائرة الأشغال العموميـة" Public Work Department (P.W.D)- التي اضطلعت بدور ريادي ومهم في تكريس مهام التغيير والانتقال بالبنيان من الزمـن السابق الى رحـاب الحداثـة المعمارية؛ كما تجدر الإشارة الى دور مديرها العام الميجر "جيمس مولسون ولسـون" (1887-1965) James Mollison Wilson وزميله الميجر "ميسـن" Mason اللذان لهما الفضل في تصميم وتنفيذ مبان عديدة اعتبرت آنذاك محطات مهمة في بناء وتأسيس عمارة الحداثة في بغداد والعراق بوجه عام. ومع تنظيم دائرة الأشغال العمومية في البلاد ، تم إحراز خطوة أخرى غير مسبوقة في تاريخ عمارة الحداثة العراقية - وهي استحداث دائرة "معمـار الحكومـة" Government Architect، وهى دائرة تعنى بالإشراف وإجازة جميع تصاميم المباني المهمة في الدولة، وظل هذا المنصب قائماً حتى تـمٌ إلغائه في بداية الأربعينات، وهو أمر يؤسف لـه؛ لجهة زوال جهة مسوؤلة كانت معنّية في توافر الحد الأدنى من الشروط المهنية في التصاميم المقترحة.
يُعد توسع بغداد وامتدادها خارج سورها القديم؛ بمثابة خطوة مهمة وجريئة في ظهور وتكريس الجديد المعماري في آن واحد ، ففي نهاية العشرينات امتدت بغـداد شمالاً وجنوباً: في الشمال نحو العيواضية، وفي الجنوب الى البتاوين؛ وامتازت مجمل المنشآت في هاتين المحلتين بخصائص وسمات حديثة ومختلفة عن مباني الأحياء القديمة التي كونت بمجموعها نسيج مدينة بغـداد مثل محلات : البارودية والحيدرخانة وجديد حسن باشا والعاقولية والفضل ، وحمام المالح والمهدية وخان لاوند ، وقنبر علي والتورات والقشل ، وصبابيغ الآل ورأس القرية والمربعة والطاطران والدهانه والصدرية وغيرها من المحلات في منطقة الرصافة ، ومثلها محلات منطقة الكرخ : كخضر الياس وست نفيسة وسوق حمادة والشواكة والشيخ صندل والكريمات والصالحية والشيخ معروف وعلاوي الحلة والتكارته.
كما انطوت هذه الفترة ايضاً على البدء في تشريع جملة من القوانين أهمها قانون الطرق والأبنية لسنة 1935، الذي كان له دور كبير في إرساء المتغيرات الجذرية والحاسمة التي طرأت على العمارة، كما تم إعداد أول تصميم أساسي لمدينة بغداد عام 1936، وهو حدث تخطيطي مهم في تاريخ المدينة، والذي بموجبه تمٌ شق شارع " غـازي " والتوصية بإنشاء جسرين ثابتين هما: جسر المأمون (الشهداء لاحقاً) وجسر الملك فيـصل (الأحرار فيما بعد ) ؛ اللذان اكتملا عام 1939 .
امتازت هذه المرحلة أيضا بظهور المهندس المعماري العراقي لأول مرة ، وذلك بوصول " احمد مختار إبراهيم " سنة 1936 كأول مهندس معمار محترف ومؤهل أكاديميا وخريج مدرسة العمارة في ليفربول بانكلترا ؛ وتبعه بقية المعماريين امثال "حازم نامـق" و "جعفر عـلاوي" و "عبد الله إحسان كـامل" و "مدحت علي مظلـوم" و "سـامي قيـردار" و "محمـد مكـيه" وغيرهـم . لقد تـمٌ انجاز مبان مهمة في هذه المرحلة : مبان ذات لغة معمارية مغايرة، وان اتسمت بالطابع الكلاسيكي لكنها ظلٌت محتفظة على درجة عالية من الرصانة المهنية والحـذاقـة البنائية Workmanship .
ويعتبر مبنى جامعة "آل البيت " في الأعظمية أهمها وأقدمها على الإطلاق . إذ أوكل ال ولسـون عام 1922 إعداد تصاميم هذه الجامعة التي قدر لها ان تكون أول جامعة تعليمية في البلاد وثاني جامعة في البلاد العربية بعد جامعة القاهرة. وعلى الرغم من ان مخططات مباني الجامعة لم تنفذ بالكامل ، الا ان المقباس الضخم المختار لها وتعدّد مبانيها وشعبها يدل دلالة واضحة على مدى طموح مؤسس الدولة العراقية ومدى تطلعات معمارها الأول . لم ينفذ من تلك المخططات سوى مبنى واحد هو مبنى (الكلية الدينية ) – وهي إحدى الكليات الست، المؤلفة للجسم الأكاديمي للجامعة .
واعـد ، شخصياً ، هذا المبنى الذي اكتمل عام 1924 بلغته المعمارية الرصينة وتفاصيله المدروسة وأناقتها ، وأسلوب إنشاء وطرق تنظيم البناء فيه ، أعده ، من المباني البارزة في هذه الحقبة لما له من تأثير قوي وعميق على مختلف المعالجات المعمارية للأبنية المهمة التي شيدت بعده .
وفي هذه الفترة تٌم انجاز مبنى الكلية الطبية في بغداد (1930) . وفي عام 1931 تٌم افتتاح مبنى الميناء الجوي في الكرخ / مطار المثنى لاحقاً ، كما تم تنفيذ مباني الضريح الملكي في بغداد 1934-1937 ، ومبنى المعرض الزراعي الصناعي (1932) في باب المعظم (الذي شغلته طويلا وزارة الخارجية)، وبناية كلية الهندسة (1936) ومعهد الفنون الجميلة في الكسرة (1936) ومكتبة الأوقاف في باب المعظم (1931) <التي أزيلت لاحقاً>؛ ومقر وزارة الدفاع في القلعة عام 1935، وقصر الزهور في الحارثية (1933) والمستشفى الملكي (1934 )، ودار المعلمين الابتدائية في الأعظمية (1935)، والنادي الاولمبي على ساحة عنتر (1939) وكلية فيصل في الأعظمية (1937)، وغيرها من المباني.
كما تجدر الإشارة الى المقاربات الحداثية في تصاميم البيت السكني التي طغت على عمارة بيوت العشرينات والثلاثينات ، مبتعدة تماماً عن المفهوم الشائع لعمارة البيت السكني التقليدي ، إذ أصبح البيت الحديث أكثر اتساعاً وانفتاحاً على الخارج بنوافذه وشرفاته العديدة وامتلاكه لحدائق جانبية وأمامية وخلفية ، كما اتسّم الأسلوب الإنشائي لهذا البيت على قدر كبير من المهنية البنائية والتجديد .
وشاعت في هذه الفترة أسلوب بناء البيت السكني وفقاً لما عرف "بالبيانات المصورة " (الكاتلوغات) Catalogues ، وهو أسلوب لقي انتشاراً واسعاً من قبل مكاتب بنائية تعنى بتقديم أنواع مختلفة من التصاميم المعمارية المنشورة في هذه ( الكاتلوغات ). ويترك للزبون حرية اختيار التصميم الذي يناسبه. وأكثر تصاميم هذه (الدفاتر المصورة) هي تصاميم شائعة في بلاد الشام وفلسطين وبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط الأخرى كتركيا واليونان وايطاليا وحتى فرنسا . وتتسم تصاميم هذه البيوت التي كانت تتبع الأسلوب التولـيفي على استخدامات كثافة زخرفية واضحة، وتوظيف واسع لمفردات معمارية قد تكون غريبة عن تقاليد المنطقة العمرانية المحلية، لكنها (اي تلك البيوت) ظلت بلغتها التصميمية الجديدة، تمثل نموذجا معماريا حداثياً، طمح كثر من البغداديين، ان يكون المنزل المستقبلي، الذي يأملون في العيش به. رغم القطيعة التامة التي انطوت عمارة تلك البيوت مع ما كان شائعا ومعروفا. ونرى ذلك جلياً في بيوت الشخصيات الحكومية ودور النخبـة التي شيدت على عجل في مناطق خارج سور بغداد، كبيوت السويدي والظاهر في الكرخ وبيت نصرت الفارسي في الأعظمية وبيت نوري السعيد ( الذي شغلته السفارة المصرية طويلا ومن ثم كلية الفنون الجميلة لاحقاً ) وبيت كامل الجادرجي في شارع طه، ومحمد حديد في البتاوين وبيت عبد العزيز القصاب في كرادة مريم وهاشم الوتري في العلوية وبيت ارشد العمري في بارك السعدون وبيت الشوربجي في الوزيرية وبيت لاوي في السعدون، غير ذلك من البيوتات الأخرى.
مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون