الخسوف والكسوف

( وأما الكسوف والخسوف للشمس والقمر, فهي ذات معنىً متشابهٍ أو متقاربٍ وهو ضعف النور بعد كمال التوهج والبهجة. غير أنَّ أسبابه مختلفةٌ, وموضوعاته متعددةٌ، ودرجاته كثيرةٌ، لا حاجة إلى استقصائها. وإنما نعطي فيما يلي بعض الأمثلة لها.
والمعنى المعنويُّ للخسوف والكسوف كالطبيعيِّ قد يكون جزئياً, وقد يكون كلياً يذهب بالنور كله، أعوذ بالله، كما قد يكون كالطبيعيِّ مؤقتاً، وقد يكون دائماً. ولا يزول إلا برحمةٍ مجددة، وفضلٍ إضافيٍّ منه سبحانه وتعالى.
فمن أمثلة ذلك: نور العقل وهو العلم وقد ورد: [العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء . وقد يراد بالقلب هنا العقل. فقد يصاب بالنقص القليل أو المؤقت لبعض الأسباب, كالنسيان أو الإشتغال بغير الحقل الذي يختصُّ به الفرد, أو غير ذلك.
كما أنَّ من أمثلة ذلك نور القلب، وهو الإيمان, فقد يصاب بالنقص لبعض الأسباب، ومن أهمها الغفلة من ناحية, والذنوب من ناحيةٍ أخرى. وأهمُّ أسبابه, أو هو جماع أسبابه: حبُّ الدنيا. وقد ورد: [اللهمَّ أخرج حبَّ الدنيا من قلبي].
فهذه نماذجُ موجزةٌ عن الكسوف والخسوف المعنويين.
بقي الإلماع إلى أنَّ هذه الأمور هل يراد بها الشرُّ لأهل الأرض، أم لا. وقد كانت بعض المجتمعات القديمة تتشائم فعلاً من حصول ذلك. فهل الأمر كذلك؟.

يمكن التكلم عن ذلك على مستويين:

أحدهما: بالنسبة إلى الكسوف والخسوف الطبيعيين.

وثانيهما: للمعنويين.

المستوى الأول:
إنه بالرغم من أنَّ مقتضى الأسباب الطبيعية هو كونهما حادثين كونيين اعتياديين، كسائر ما يحصل في الفضاء من حوادث. إلا أننا بعد الإعتراف بالحكمة الإلهية، من الصعب أن نتصور أيَّ حادثٍ خالياً من الحكمة، بل إنَّ جميع ما يحصل على الإطلاق خاضعٌ لها، داخلٌ تحت نظامها.
وما ندركه من الحكمة للخسوف والكسوف ليس كونهما نذير الخراب والدمار الشامل، طبقاً لتشاؤم بعض الناس منهما, ولا كونهما لأجل تأبين بعض الموتى والحزن عليه، فقد ورد: [إنَّ الشمس والقمر خلقان من خلق الله لا ينكسفان لموت أحد].
وإنما الذي ندركه من ذلك هو كون ذلك تنبيهاً للناس على أحد طريقتين:

الطريقة الأولى:
إنَّ الله تعالى يريد تنبيه عباده عن الغفلة، ويحبُّ منهم التوجه والتذكر والإلتجاء إليه سبحانه، عن طريق صنع مثل هذه الحوادث النادرة في الكون نسبياً، مع أمرهم بصلاة الآيات ونحو ذلك.

الطريقة الثانية:
إنَّ الله تعالى يريد أن ينبه الناس على ذنوبهم وعيوبهم, فإنَّ نقصان النور من الشمس أو القمر، رمزٌ عن نقصان الطاعة أو نقصان الإيمان. وكأنَّ حال الناس قد أصبح كحال الشمس أو القمر في النقصان, وأنه ينبغي تدارك حالهم بالتوبة والإنابة والإستغفار.
وأما إذا لم ينتبهوا ولم يستغفروا، إذن يوشك أن يحلَّ بهم البلاء والعذاب. وهنا نصل إلى حدود تلك الفكرة القائلة: بأنَّ الكسوف والخسوف نذير العذاب. وإنما هما رمزٌ له أو للذنوب الموجبة له كما قلنا. والعذاب نفسه إنما يكون على الذنوب وترك التوبة والإستغفار.
ومن أجل هذا يحصل الكسوف والخسوف لأجل التنبيه على الذنوب، حتى تحصل التوبة فلا يحصل البلاء وهو المطلوب للحكمة الإلهية. وإنما يكونان نذيراً فعلياً له، فيما إذا علمنا أنَّ البشر لن تحصل منهم التوبة ولا الإستغفار. إذن، فهذا التنبيه الرقيق لن يفيد بهم وسوف يحيق بهم البلاء كما يستحقون.

المستوى الثاني:
في الكسوف والخسوف المعنويين. وهل يراد بهما الإلماع إلى البلاء أم لا؟.
وينبغي أن نلتفت أولاً إلى أنَّ أغلب تطبيقات ومصاديق ذلك شخصية أو فردية, وليست معروفةً للغالب من الناس. ومعه فالتنبيه لهما , غالباً ما يكون للفرد لا للمجتمع.
وبينما كان الخسوف والكسوف الطبيعيان، تنبيهاً على ذنوبٍ موجودة، فإنَّ هذين الخسوفين بأنفسهما ذنوبٌ، لأنها تعود إلى اختيار المكلف في إيجاد النقص في نفسه من كثرة ذنوبه أو من قلة عمله, ما لم يكن الأمر خارجاً عن الإختيار في أحيانٍ قليلة، كما لو حصل النسيان نتيجةً للمرض ونحوه.
اللهمَّ إلا أن يقال: إنَّ كلَّ عارضٍ يسيء الإنسان، حتى المرض ونحوه، إنما هي عقوباتٌ على ذنوبٍ سابقةٍ، فيعود الأمر إلى اختيار المكلف، لأنه كان مستطيعاً لترك الذنوب واجتناب العقوبات، غير أنَّ هذه القاعدة غالبيةٌ وليست عامةً، كما هو معلومٌ لمن يفكر، وليس هنا محلُّ تفصيله.).



المصدر : كتاب فقه الاخلاق ج 1 / السيد الشهيد محمد الصدر "قدس"