الجاحظ و اكلة لحوم البشر
في تراث جميع الامم هناك قصص و اخبار عن اكلة لحوم البشر ، بعضها مارستها بعض الشعوب كجزء من غذائها اليومي او طقوسها الدينية و البعض الاخر ، و هو العام الاغلب ، لحوادث فردية قام بها بعض الاشخاص و لأسباب شتى ، و لعل العرب ليسوا استثناءا عن بقية الامم فقد تناقلت كتب التراث قصصا من هذا النوع لعل اقدمها ما ورد في كتاب البخلاء للجاحظ
صورة مرسومة لأحدى القبائل الوحشية التي تقوم بتقطيع اجساد ضحاياها استعدادا لشوي لحومهم و اكلهم
لم تخلوا كتب التراث العربية من ذكر اكل لحوم البشر ، فتضمنت مخطوطات التواريخ و الجغرافيا العربية التي وصلت الى ايدينا اشارات عن امم و قبائل وحشية في اصقاع نائية من الارض مارست هذه العادة و كذلك عن مجاعات حدثت في مدن عربية و اجنبية فأضطر اهلها لتذوق لحوم بني جنسهم من الموتى و الاحياء بعد ان نفذت كل مصادر الغذاء الاخرى ، و لعل اشهر القصص في هذا المجال هي قصة السندباد البحري حيث انه يقع هو و اصحابه اسيرا لدى قبيلة وحشية تقوم بأطعامهم اشهى الاكلات لكي يسمنوا فيأكلوهم و لكن السندباد يرفض تناول الطعام ثم يتمكن من الهرب لاحقا .. الخ (راجع كتاب الف ليلة و ليلة للتفاصيل) ، و الكثير من الباحثين يؤكدون ان حكايات السندباد هي ليست محض خيال بل هي مستوحاة من قصص حقيقية كان يتداولها البحارة العرب الذين كانت سفنهم تمخر عباب المحيط الهندي و تصل الى الصين و تمر خلال هذه الرحلة الطويلة بعشرات الجزر المنعزلة و النائية و المأهولة بقبائل وحشية تمارس صيد رؤوس الغرباء ممن يرميهم حظهم العاثر الى هذه الشواطيء الدموية و اكل لحومهم للحصول على المزيد من القوة و الطاقة الخارقة حسب معتقداتهم ، و هو امر اكده و وثقه المستكشفون الاوربيون عند وصولهم الى هذه الاصقاع في القرن السادس عشر الميلادي.
و لعل واحدا من اوضح و اقدم المصادر العربية حول اكل لحوم البشر هو كتاب "البخلاء" للجاحظ (781-868 ميلادية) الذي ينقل لنا نوادر البخلاء و حيلهم و طرقهم في جمع المال و تكديسه و الامساك عن انفاق حتى القليل منه ، و رغم ان الكتاب مختص بنقل قصص البخل و البخلاء الا انه يعطينا لمحة قصيرة و سريعة عن بعض اكلة لحوم البشر العرب ، و هي حوادث فردية بالطبع حيث كانت العرب تذم هذا الامر و تقبحه كما ذكر الجاحظ في كتابه :
"و تهجا أسد بأكل الكلاب، وبأكل لحوم الناس. والعرب إذا وجدت رجلاً من القبيلة قد أتى قبيحاً، ألزمت ذلك
القبيلة كلها. كما تمدح القبيلة بفعل جميل، وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها"
و يعطينا الجاحظ امثلة عن هذه الحوادث فيقول في باب الطعام المذموم عند العرب:
" و تهجى أسد وهذيل والعنبر وباهلة بأكل لحوم الناس .
قال الشاعر في هذيل :
وأنتم أكلتم سحفة ابن مخدم زماناً فما يأمنكم أحد بعد
تداعوا له من بين خمس وأربع وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد
وقال حسان فيهم :
إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له فأت الرجيع وسل عن دار لحيان
قوم تواصوا بأكل الجار بينهم فالشاة والكلب والإنسان سيان
وهجا شاعر بلعنبر، وهو يريد ثوب بن شحمة. وفيه حديث :
عجلتم ما صدكم علاجي من العنوق ومن النعاج
حتى أكلتم طفلة كالعاج
ولما عير ثوب بن شحمة بأكل الفتى العنبري لحم المرأة سكت إلى أن نزل هو من الجبل فقال :
يا بنت عمى ما أدراك ما حسبي إذ لا تجن خبيث الزاد أضلاع
إني لذو مرة تخشى بوادره عند الصباح بنصل السيف قراع
فهجا ثوب بن شحمة بأكل لحوم المرأة. وكان ثوب هذا أكرم نفساً عندهم من أن يطعم طعاماً خبيثاً، ولو مات
عندهم جوعاً. وله قصص. ولقد أسر حاتماً الطائي، وظل عنده زماناً .
وقال الشاعر يهجوا بأهلة بمثل ذلك :
إن عفاقا أكلته باهله تمششوا عظامه وكاهله
وأصبحت أم عفاق ثاكله
وهجيت بذلك أسد جميعاً، بسبب رملة بنت فائد بن حبيب بن خالد بن نضلة، حين أكلها زوجها وأخوها ابو أرب.
وقد زعموا أن ذاك إنما كان منهما من طريق الغيظ والغيرة.
فقال ابن دارة ينعى ذلك عليهم:
أفي أن رويتم واحتلبتم شكيكم فخرتم، وفيم الفقعسي من الفخر؟
ورملة كانت زوجة لفريقكم وأخت فريق، وهي مخزية الذكر
أبا أرب كيف القرابة بينكم وإخوانكم من لحم أكفالها العجر؟
وقال:
عدمت نساء بعد رملة فائد بني فقعس تأتيكم بأمان
وباتت عروسا ثم أصبح لحمها جلا في قدور بينكم وجفان
وقال البراء بن ربيعي، أخو مضرس بن ربعي يعير صلتاً - وهو أخوه - فقال:
يا صلت إن محل بيتك منتن فارحل فإن العود غير صليب
وإذا دعاك إلى المعاقل فائد فاذكر مكان صدارها المسلوب
والآن فادع أبا رجال، إنها شنعاء لاحقة بأم حبيب
وأبو رجال هذا عمها.
وقال في ذلك معروف الدبيري:
إذا ما ضفت ليلا قفعسيا فلا تطعم له أبداً طعاما
فإن اللحم إنسان فدعه وخير الزاد ما منع الحراما
وهذا الباب يكثر ويطول. وفيما ذكرنا دليل على ما قصدنا إليه من تصنيف الحالات. فإن أردته مجموعاً فاطلبه في
كتاب الشعوبية، فإنه هناك مستقصى. " انتهى / البخلاء ص 114
و هكذا نرى ان الجاحظ قد وثق لأقدم حوادث اكل لحوم البشر عند العرب ، و هي حوادث فردية كانت مكروهة و مذمومة الى درجة ان تعير و تذم القبيلة بأكملها اذا اقدم احد افرادها على هذا الفعل الشنيع ، على العكس من اقوام و امم اخرى كان اكل لحوم الناس عندها امرا طبيعيا فذكر المؤرخون على سبيل المثال بأنه كان امرا عاديا في الصين في العصور الوسطى و ان اللحم البشري كان يعلق في متاجر القصابة الى جنب اللحم الحيواني ، كما اسهب المؤرخون الاسبان حول شيوع هذه العادة عند قبائل الهنود الحمر في البحر الكاريبي و التي منها اشتقت مصطلح او كلمة " Cannibalism " الانكليزية و تعني الاكل للحم بني جنسه ، و هناك ايضا الكثير من الاخبار و النصوص المتعلقة بحوادث من هذا النوع و في مختلف الحضارات و العصور ابتداءا من انسان النياندرتال و انتهاءا بعصرنا الحالي حيث تطالعنا الاخبار بين حين و اخر بوقوع جرائم من هذا النوع
منقوووووووووول