الأدلة القانونية في المقابر الجماعية وعدم العبث بها
الدكتور قاسم خضير عباس
باحث قانوني دولي وجنائي
المستشار القانوني لوزارة شؤون المحافظات العراقية
-تم حذف االبريد بواسطة الادارة _برجاء الالتزام بقوانين المنتديات مع الشكر _الادارة -
عملية العبث بالمقابر الجماعية تؤدي حتماً إلى ضياع كثير من الأدلة الثبوتية التي تدين مجرمي الإبادة العرقية والتطهير الطائفي في ظل النظام البائد ، وهذا العمل غير جائز شرعاً وقانوناً فقد حرم الإسلام بكل مذاهبه من سنة وشيعة العبث بالقبور ونبشها ، كما أن القوانين العراقية النافذة تمنع ذلك إذا لم يكن هناك مسوغ قانوني أو أمر من محكمة .
إن الأدلة القانونية مهمة جدا للنطق بالحكم من قبل القاضي ، ولذا فهي مفيدة جدا للقاضي سواء كان في المحكمة الجنائية العراقية المختصة أو في المحاكم العادية للنطق بالحكم على مجرمي المقابر الجماعية ، فبواسطة الأدلة القانونية الثبوتية يجري إثبات الدعاوى بحق المجرمين المدانين بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ، وهذه الأدلة تحقق للقاضي وقاضي التحقيق علماً مكتسباً بحجم الجريمة المرتكبة وهولها ، فيكون القاضي بعد قيام هذه الأدلة لديه علم وكأنه شاهد الواقعة ووقف على ظاهرها فلا يسعه إلا الحكم بما علم من هذا الطريق .
وهكذا فإن مبدأ الإثبات القانوني يقتضي تحديد الأدلة التي تقدم لاقناع القاضي وقاضي التحقيق في المحكمة الجنائية العراقية المختصة بجرائم الابادة الجماعية ، وتحديد قوة كل دليل في المقابر الجماعية ، ومذهب الإثبات القانوني يقدم على أن القانون يعين طرقاً خاصة للاثبات تختلف باختلاف الوقائع والتصرفات المراد اثباتها ويبين لكل طريق قيمته ، ولذا لا بد من الحفاظ على هذه الأدلة القانونية الثبوتية في المقابر الجماعية ، وعدم العبث بها ، وعدم بعثرتها لكي لا تضيع قيمة هذه الأدلة الهامة التي يستطيع القاضي بواسطتها أن يدلي بحكمه وفق القوانين العراقية النافذة وقانون أصول المحاكمات الجزائية النافذ وقانون المحكمة العراقية الجنائية المختصة بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي .
إنّ الحفاظ على أدلة الجريمة شئ مفروغ منه ، وقد أكد قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 على ذلك في موضوع ( التحري عن الجرائم وجمع الأدلة والتحقيق الابتدائي ) ، فبعد أن أقر القانون المذكور في ( المواد / 39 - 40 – 41 ) على تعيين أعضاء الضبط القضائي ومواصفاتهم ، وعملهم ، تحدث عن ضرورة اتخاذ جميع الوسائل للحفاظ على أدلة الجريمة ، وقد أكدت ( المادة / 42 ) من القانون المذكور على : ( أعضاء الضبط القضائي أن يتخذوا جميع الوسائل التي تكفل المحافظة على أدلة الجريمة ) .
ولذا فمن المفيد أن يتحرك أعضاء الضبط القضائي في هذا الجانب ، حيث نص عليهم في ( المادة/ 39 ) وهم :
1- ضباط الشرطة ومأمورو المراكز والمفوضون .
2- مختار القرية والمحلة .
3- الأشخاص المكلفون بخدمة عامة الممنوحون سلطة التحري عن الجرائم ، واتخاذ الاجراءات بشأنها في حدود ما خولوا به بمقتضى القوانين النافذة .
و يتحرك هؤلاء للقيام بالحفاظ على الأدلة الثبوتية في المقابر الجماعية وتنفيذ (المادة / 40 - أ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تحدد قيامهم بأعمالهم كل في حدود اختصاصه تحت إشراف الادعاء العام وطبقاً لأحكام القانون . كما يخضعون وفق ( المادة / 40 - ب ) لرقابة حاكم التحقيق وله أن يطلب من الجهة التابعين لها النظر في أمر من تقع منه مخالفة لواجباته أو تقصير في عمله ومحاكمته انضباطياً .
علماً أن ( المادة 7/ تاسعاً ) من قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة بالجرائم ضد الانسانية رقم (1) لسنة 2003 تؤكد بأنه : ( يحق لقاضي التحقيق جمع أدلة الإثبات من أي مصدر يراه مناسباً ) .
وحتماً أن الأدلة الثبوتية في المقابر الجماعية تفيد قاضي التحقيق كثيراً . ومن المفيد ذكره بأن الفصل الثالث من قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة قد حدد في ( المادة / 10) ولاية المحكمة على جرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وانتهاكات القوانين العراقية .
وهكذا فمن المفيد الاسراع بعملية جمع الادلة من المقابر الجماعية والحفاظ على المقابر من العبث بها ونبشها واحصاء عددها وجمع المعلومات الدقيقة عن الضحايا فيها وكيفية دفنهم والاستعانة بخبراء في علم الانتروبولوجيا الجنائية للكشف عن هوية الضحايا ومعرفة شخصياتهم .
إن الاسراع في التحري عن المقابر الجماعية والحفاظ عليها وجمع الادلة حولها شي مفيد لحكام التحقيق في تحقيقهم الابتدائي عن جرائم الابادة الجماعية والجرائم المنصوص عليها في المواد (10- 14) من قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة .
إن العبث بالمقابر الجماعية يضيع كثيراً من هذه الأدلة الثبوتية للجرائم البشعة التي ارتكبت وبالتالي ذهاب الأدلة التي تدين مجرمي النظام البائد ، خصوصاً وأن المواد ( 308-316) من قانون أصول المحاكمات الجزائية تتحدث عن ضرورة الاعتناء بالادلة الثبوتية والأشياء المضبوطة لخدمة التحقيق والنطق بالحكم من قبل القضاة .
ومن الملاحظ أن المادة (312) من أصول المحاكمات الجزائية تتحدث عن عدم اتلاف حتى المخطوطات أو المطبوعات ونحوها إلا بعد انقضاء الدعوى الجزائية عن جميع المتهمين .
استخدام المنهج العلمي للبحث عن الأدلة الجنائية في المقابر الجماعية :
إن استخدام المنهج العلمي في البحث عن الادلة الجنائية يؤدي الى الوصول الى أدلة ثبوتية على بشاعة الجرائم المرتكبة في المقابر الجماعية ، ومن البديهي أن المعاينة الجنائية للمقابر الجماعية ليست هي الملاحظة فقط لأنها في جميع احوالها تكون تمثلاً للجريمة أو تمثيلاً لها بعد أن وقعت وهذا يقتضي الحفاظ على كيان المقبرة وعدم العبث بها .
فالواقع أن أقصى ما يلاحظه أعضاء الضبط وحكام التحقيق والمكلفون بالتحقيق هو الوسائل التي استخدمت في احداث الجريمة ، ويمكن لهؤلاء أن يستفيدوا من المنهج العلمي والوسائل العلمية التي يحاولون بها أن يضبطوا واقع الجرائم التي ارتكبت في المقابر الجماعية ، وذلك عن طريق بيان العلاقة بين الجريمة وبين العوامل الأخرى التي ادت الى وقوعها وملابساتها ، وسوف نتناول أهم هذه الطرق :
أولاً : الإحصاء :
الاحصاء طريقة من طرق البحث العلمي تتولى ترجمة ظاهرة معينة على أرقام ، وهو بهذا المعنى يعد من أقدم الطرق التي استخدمت في دراسة الظواهر الاجرامية ويمكن بواسطته أن نعرف الجرائم البشعة التي ارتكبت في المقابر الجماعية وكذلك حجم جرائم الابادة الانسانية ، وقد قدم عالم الرياضيات والفلك ( كيتليه ) البلجيكي ، ومعاصره الفرنسي ( جيري ) عدداً من الابحاث المعتمدة على الاحصاءات الخاصة بالجرائم التي وقعت في فرنسا في الفترة مابين سنة ( 1826 – 1830).
والواقع أن الاحصاء باعتباره أحد أساليب البحث في ظاهرة الاجرام هو الذي يسمح بدراسة كيفية ارتكاب جرائم الابادة الجماعية وعلاقتها بمختلف العوامل .
فهو ترجمة رقمية لحركة الاجرام في مكان معين وكيفيته وزمانه للوصول لمعلومات علمية وملاحظات هامة لا يمكن الوصول اليها عن طريق آخر . فبالاحصاء يمكن ملاحظة حجم واتجاه حركة ارتكاب جرائم الابادة الجماعية وجرائم القتل العنصري والطائفي في العراق ومكانها وعدد المقابر التي دفنت فيها الضحايا وكيفية الدفن وحدود المقبرة ومقارنتها مع المقابر الأخرى ، وملاحظة ازدياد المقابر في أماكن محددة من العراق ، وبذلك يمكن الوصول الى نتائج مفيدة للتحقيق ، والكشف عن العلاقة التي قد توجد بين الجريمة وبين العوامل الأخرى الخاصة بالمجرمين ، الذين ارتكبوا هذه الجرائم البشعة يدفعهم عوامل أخلاقية وعنصرية وطائفية ومذهبية.
ويجري إلاحصاء بطرق عديدة منها الاحصاء الذي يتناول دراسة ظاهرة جريمة الابادة الجماعية من منطلق ثابت قد يكون زماناً أو مكاناً أو غير ذلك من العوامل الأخرى تمهيداً لاجراء المقارنة بين نتائج العوامل المسببة للجريمة ، ومثلها إحصاء المقابر الجماعية التي حدثت قبل الحرب العراقية الايرانية وبعدها ، والمقابر التي حدثت قبل انتفاضة عام 1991 وبعدها .
ثانياً : إجراء المسح الاجتماعي على عوائل الضحايا :
وهو طريق من طرق البحث يستهدف جمع الحقائق عن ظاهرة الابادة الجماعية والجرائم المرتكبة في المقابر الجماعية تمهيداً لاستظهار خصائصها ، والوسيلة المستخدمة للمسح الاجتماعي في مجال الدراسات الاجرامية عبارة عن توجيه نموذج معد سلفاً ويتضمن عدداً من الاسئلة المباشرة حول مختلف الظروف التي رافقت اعتقال الضحايا ، وهذا يقتضي جمع الادلة عن هذه العوائل والوصول اليها من أجل معرفة كثير من الأمور والاجراءات غير القانونية التي مارستها السلطة الدكتاتورية البائدة في اعتقال الضحايا واعدامهم .
ربط عملية الكشف عن المقابر االجماعية بعلم السياسة الجنائية :
علم السياسة الجنائية هو احد العلوم القاعدية التي تبحث في سياسة الدولة باتجاه مواجهة الجريمة، ومن هنا فإن علم السياسة الجنائية يدخل في نطاق العلوم الترشيدية بهدف ترشيد نشاط الدولة في مجال مكافحة الجريمة بما يتطلبه ذلك من دراسات معمقة .
وهكذا فإن جرائم الابادة الجماعية وجرائم القتل الجماعي والابادة العرقية لابد من تفسيرها علمياً وكشف كثيرا من تفاصيلها وتحديد سلوك المجرمين ونزعاتهم الوحشية ، وذلك كله بفضل علم السياسة الجنائية الذي يحث ويرشد الدولة لعراقية الجديدة الى وضع تشريعات تحرم القتل الجماعي ، وإنشاء مراكز بحثية متخصصة حول المقابر الجماعية ، إضافة إلى محاسبة مجرمي النظام السابق ومعاقبتهم ، لأن السياسة الجنائية ترتبط مباشرة بعلم العقاب كوسيلة رادعة للمجرمين ، خصوصاً مجرمي الابادة الجماعية والتطهير العرقي والطائفي .