صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1 234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 32
الموضوع:

وقفة عند أسرار الولاية 8 - الصفحة 2

الزوار من محركات البحث: 11 المشاهدات : 2192 الردود: 31
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #11
    صديق فعال
    تاريخ التسجيل: January-2013
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 609 المواضيع: 210
    التقييم: 146
    آخر نشاط: 22/June/2017

    وقفة عند أسرار الولاية 16

    إن للطفل اقتضاءاته الفطرية والطبيعية الخاصة به ولابدّ من تلبيتها، فأي مانع وحدّ يوضع في مسار تلبية احتياجاته الطبيعية والفطرية، فإنه في الواقع خيانة له. وكذلك في قضيتنا إن ذكر موضوع المساواة بين حقوق المرأة والرجل، عادة ما لم تسلّط الأضواء على هذه الحقيقة وهي أن المرأة والرجل يختلفان في ماهيتهما، وإن هذه الفوارق الظاهرية بين حقوقهما إنما هي ناشئة من الفوارق الفطرية واقتضاءاتهما الروحية. فإن المساواة بين المرأة والرجل هي بمعنى غض الطرف عن هذه الاقتضاءات الروحية. فهل سَحق فطرة النساء لصالحهنّ؟
    أن أكبر ظلم يمارس تجاه النّاس في الغرب، هو «تجاهل كرامتهم» وسوف نقف في الأبحاث القادمة على هذه القضية. على أيّ حال إن النظام الديمقراطي ليس أنه عاجز عن الحيلولة دون نشوء الظلم في النظام التسخيري وحسب، بل إنه ينطوي على بعض المعاملات الظاهرة أو الخفية بظلمها، ولا يبقى بعد داعٍ للالتزام بقيم هذا النظام وأعرافه إن تأمّلنا قليلا في عواقبه السيئة.
    وهنا بودّي أن أختم هذا البحث بمسك الختام من كلمات المفسر الكبير للقرآن الكريم، العلامة الطباطبائي (ره). فخلال بحث مفصل حول «الاجتماع» يخوضه العلامة الطباطبائي في ذيل الآية 200 من سورة آل عمران المباركة، يعرّج سماحته على حقيقة الديمقراطية ويعتبرها نفس الديكتاتورية والاستكبار ولكن بمظهر حديث. لقد جئنا هنا بمقطع قصير من كلامه بما لا يغني القارئ الكريم عن مراجعة جميع بحثه في هذا الموضوع: «و من أعظمها (أعظم الفوارق الموجودة بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي) أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام و الاستثمار و هو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شي‏ء تحت إرادة الإنسان و عمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان، و يبيح له طريق الوصول إليه و التسلط على ما يهواه و يأمله منه لنفسه، و هذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة و قد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية و إجحافاتهم و تحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة و على ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ».[1]

    ضرورة تدخل الله في مراقبة السلطة المركزية

    إلى هنا خرجنا بنتيجة أن الناس عاجزون عن مراقبة هذه السلطة المركزية التي تضمن سلامة النظام التسخيري. وبما أن الإنسان غير قادر على مراقبة هذه السلطة المركزية والسيطرة عليها، لم يبق لنا بدّ سوى أن نلجأ إلى الله باعتباره القادر المطلق وخالق الإنسانَ وهذا النظامَ التسخيريَّ المهيمنَ على حياته، ونحاول أن نسيطر على هذه السلطة المركزية ومن ثم نضمن سعادة البشر عن هذا الطريق. نحن قد وصلنا إلى هذه النتيجة عن طريق الرؤية العقلية إلى الموضوع، فاقتضت الضرورة العقلية أن يكون زمام السلطة في المجتمعات البشرية بيد الله سبحانه.
    إن الحلّ الذي يقترحه الله سبحانه، في سبيل استقامة النظام التسخيري وعدم انحرافه إلى الظلم، هو اتباع «الولایة». ولكن قبل أن نخوض في موضوع منهج الولاية في إدارة المجتمع، وآلية إدارة المجتمع عبر أسلوب الولاية، لا بأس أن نقف عند أدلّة ضرورة تدخّل الله في مراقبة السلطة المركزية. هناك ثلاثة أدلّة تفرض ضرورة تدخل الله سبحانه وتعالى في عملية مراقبة النظام التسخيري المهيمن على عالم الوجود.

    صعوبة الإلمام بجميع التعقيدات في إدارة الناس

    إن إدارة الناس وولايتهم من أعقد الأمور، وقد أثبتت التجربة البشرية أن عقل البشر في غاية العجز عن الإلمام بجميع أبعادها وعقدها. إنه ليس بأمر هيّن حتى يستطيع العلماء والمفكّرون أن يجتعوا معا ويرسموا نموذجا يمكّنهم من إدارة الناس والأخذ بأيديهم صوب الكمال. إن ولاية الناس وسبل استخدام تلك السلطة المركزية على الناس في غاية التعقيد، ومن أدرك من تعقيداتها شيئا، سوف يسلّم أمره إلى الله ويقرّ بأن المقام يقتضي أن تأتي سلطة من مقام عِلويّ غير بشريّ فتتصدّى للسيطرة على هذا النظام.
    إن حياة الإنسان في غاية التعقيد. فهل بإمكان المنظّرين في المغرب أو المشرق أن يقدّموا نموذجا كاملا لإدارة حياة الإنسان اعتمادا على ما توصلت إليه أفكارهم؟ هل بلغت أعمارنا إلى هذه الدرجة من الرّخص حتى نضعها كفأر المختبر بين يدي التجارب البشرية الناقصة التي تتمخض من نظريات تُستجَدّ وتُستبدَل ولم تلبث إحداهنّ في فترة ثبوتها أياما إلا وتبطلها نظرية أخرى. وأساسا أهمّ دليل على عدم كفاءة التجارب البشرية، هو توالي إبطالها واحدة تلو الأخرى.
    لقد تبلورت في زمن ما الشيوعية أو الماركسية على أساس نظريات «كارل ماركس»، وبعد ما حكمت نصف العالم عقودا من الزمن، أعلنت عن إفلاسها. واليوم نحن نشهد احتجاجات شعبية واسعة في مختلف البلدان الغربية ضدّ النظام الرأسمالي تحت عنوان «حركة احتلال وول ستريت» وسوف نرى ـ إن شاء الله ـ عن قريب تنبؤ الإمام الخميني (ره) في اندثار النظام الرأسمالي وانهياره بعد انتهاء شوطه. وباتت تقترب هذه الحقيقة من حين إثباتها بعد ما كانت غريبة لا يميل إليها أحد، وهي أن الرؤية العلمانية الغربية التي تمّ تشييدها على أساس "الأومانية" وأصالة الإنسان وصَحِبتها عناوين تُعرَف بها كالليبراليّة في مجال الفكر والثقافة، والأمبريالية في مجال الاقتصاد، أضحت نظرية مفلسة لم تضمّ بين جنبيها شيئا.

    يتبع إن شاء الله ...

    [1]. العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 123.


  2. #12
    صديق فعال
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Tulip مشاهدة المشاركة
    جميل ما تبذل من جهد أخي قبسات
    تحياتي
    شكرا جزيلا لك أختي الكريمة حياكم الله

  3. #13
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 17

    صعوبة إدارة الناس في مقام العمل


    بالإضافة إلى البعد النظري و صعوبة إدراك خفايا قواعد إدارة الناس وقيمومتهم، كذلك الأمر ليس بهيّن في مقام العمل والتنفيذ. فلو كنا قد عرفنا جميع قواعد إدارة الناس عن طريق الوحي، هل بإمكاننا أن نتصدّى لتطبيقها وهل نستطيع أن ندّعي أنّ لنا الكفاءة والقدرة على إدارة أنفسنا؟
    لقد ثبت في القسم السابق ضرورة «علم» الإمام وحاكم المجتمع، وهنا تثبت ضرورة «عصمته». لنفرض أننا وقفنا على جميع غوامض أبعاد الإنسان وأحطنا بقواعد إدارته وقيمومته بمدد من الله، أي أدركنا كنه حقيقة العدل والإنصاف مثلا، ولكن هل تطبيق هذه القواعد على أرض الواقع وفي خضمّ إدارة المجتمع أمر هيّن؟ من يستطع أن يطبق العدل بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حتى على نفسه؟ فلا ضمان على تحقق هذا العدل إلّا الضمانات الدينية التي تسدّد وليّ الله وإمام الناس على أن يقيم هذه الأطروحة باستعانة قوّته الروحية.

    الضمان على إمكان إدارة الناس

    الدليل الثالث على ضرورة تدخل الله في السيطرة على السلطة المركزية هو القداسة التي لا تنفكّ عن «أمر الله». إن هذه القداسة بنفسها تمثل ضمانا على إمكان إدارة الناس وقيمومتهم. يعني أن هذه القداسة هي التي تمهّد الأرضية للحكومة الولائية أن تمارس الحكم وهي التي تمنحها الشرعية. فلو حصل رجل كفوء وقادر على إدارة المجتمع لِما أعطاه الله من القوة الروحيّة العالية، وكان قد أخذ برنامجَه لإدارة المجتمع من الله، يبقى لا يزال محتاجا إلى تدخّل الله في سبيل إمكان حكومته على الناس، وذلك بأن يأمرهم الله باتباعه.
    لنضرب مثلا؛ إن التحكيم في ساحة كرة القدم أمر صعب جدا. ومن هذا المنطلق قد وضعت قوانين دقيقة جدا للتحكيم لا يمكن تغييرها بسهولة (العامل الأول). ومن جانب آخر، تطبيق هذه القوانين على الساحة بحاجة إلى حضور حكّام متمّرسين قد جمعت فيهم الإحاطة بالقوانين، والحيادية أثناء التحكيم (العامل الثاني). ولكن إذا لم تكن في البين جهة مركزية عليا تفرض بوجوب إطاعة الحكم في ساحة المباراة، هل يبقى ضمان على تنفيذ أحكام الحَكَم في الساحة. فلابدّ من وجود «اتحاد» قوي لكرة القدم، ليكون ضمانا على تنفيذ جميع القوانين والبرامج (العامل الثالث).
    حصيلة الكلام: هناك ثلاث ضرورات تقتضي تدخل الله في السيطرة على السلطة المركزية. بعبارة أخرى، هناك ثلاثة أدلة تحكم بضرورة خضوع المجتمع الإنساني لولاية الله وقيمومته المباشرة أو غير المباشرة. الدليل الأول: هو أن الإنسان معقّد في تركيبته وأبعاده، وعليه فإدارة هذا الإنسان عملية معقدة صعبة جدا، ولا يقوى عليها سوى الله، إذ هو الذي يستطيع أن يضع برنامجا كاملا لإدارة الناس وقيمومتهم لأحاطته بجميع هذه الأبعاد. الدليل الثاني: لابدّ لهذا الإنسان الذي يتصدّى لإدارة المجتمع أن يحمل بتسديد الله بين جنبيه قوة روحية عالية ليكون قادرا على تنفيذ هذه القانون بشكل صحيح. الدليل الثالث: ولا بدّ أن يوجّه الله أمرا للجميع على اتباع وليّه، وإلّا فسوف لا يكون أيّ ضمان على اتباع أمره في المجتمع وفسح المجال لحكومته.

    الفصل الثالث: منهج الولاية في فرض القوّة

    إن مجمل الأبحاث التي أشير إليها لحدّ الآن قد أوصلتنا إلى هذه النتيجة: بمقتضى النظام التسخيري الذي أحاط بجميع أبعاد حياة الناس، لابدّ من تسلّط بعض الناس على بعض. ومآل هذا التسلّط بطبيعته هو إلى تبلور القوة بين الناس. فهنا قد يطغى بعضهم ويمارسون الظلم والعدوان على الآخرين. ففي سبيل الحيلولة دون هذا الظلم والطغيان الذي قد يؤدّي إليه النظام التسخيري بطبيعة الحال، لابدّ من وجود سلطة مركزية قويّة لتشكّل ضمانا على تطبيق قواعد هذا النظام التسخيري بشكل صحيح، وتؤمّن راحة الحياة المصحوبة بالاطمئنان في خضمّ هذا النظام التسخيري.
    لقد وقفنا في الفصل السابق عند ضرورة تدخّل الله سبحانه في عمليّة مراقبة هذه السلطة المركزية. وقلنا هناك: من خلال استقراء تجربة الإنسان في الحكم وإدارة البلاد منذ آلاف السنين، ونظرا إلى الظروف التي نعيشها في عالمنا اليوم، نجد ضرورة تدخّل الله في عمليّة إدارة الناس ليكون هو الحاسم في حلّ أزمات هذا الموضوع. فكما تشاهد أيها القارئ العزيز، لقد جرّتنا مقدمات منطقيّة وعقليّة إلى هذه النتيجة وهي التي ألجأتنا إلى البتّ بضرورة تدخّل الله، فلم ننطلق إلى هذه النتيجة من وحي الأدلّة النقليّة والدينيّة.
    على أيّ حال إنّ النموذج الذي يطرحه الله سبحانه لإدارة المجتمع ومراقبة هذا النظام التسخيري هو نموذج «الحكومة الولائيّة». نحن لازلنا لم ندع منهجنا في البحث، فسننطلق لدراسة أساليب الولاية في إدارة المجتمع بالمنظار العقلاني. طبعا باعتبار أنّ «الولاية» هي مفهوم إسلاميّ أو دينيّ، فلا بدّ لنا أن نتطرّق إلى بعض التعاليم الدينية ونستند أحيانا إلى بعض المعارف النقلية، كما قد نشير إلى بعض مصاديق سلوك الإمام الخميني (ره) وسماحة السيد القائد (حفظه الله) في عمليّة إدارة البلد، ولكن سوف نأتي بهذه المصاديق أو المعارف الإسلامية كمؤيّد لما ننتهي إليه عبر دراستنا العقلية في الموضوع، وليس هدفنا الآن في هذه العجالة أن نثبت نظريّة «ولاية الفقيه» أو ندعو لقبولها.
    في هذا الفصل ومن أجل التعرّف الأكثر على خصائص الحكومة الولائية، نتطرق بادئ ذي بدء إلى منهج الولاية في استخدام «أدوات القوة»، ثم نذكر أسباب منهج الولاية هذا في استخدام أدوات القوة، وبعد ذلك نعرّج على موضوع علاقة الولاية بـ«استقلال» الناس في إطار شبهة سوف نطرحها، ثم ننهي الموضوع في آخر المطاف بمدى علاقة «الحرية» بالولاية.

    يتبع إن شاء الله...


  4. #14
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 18

    استخدام الولاية لأدوات السلطة على نطاق محدود


    لابدّ لأي حكومة ومن أجل أن تتسنى لها إدارة شعبها وتحافظ على بقائها أن تستخدم خمس أدوات نسميها «أدوات السلطة». وهي: القوة القهرية والثروة والقانون والإعلام والعمل السياسي. نحن في هذا الفصل سوف نقف عند شأن هذه الأدوات في الحكومة الولائية وندرس نطاق استخدام الوليّ وقائد المجتمع لها. وفي سبيل اتضاح الحدود المعترف بها عند النظام الولائي في استخدام هذه الأدوات، لابدّ لنا أن نقارن أحيانا بين الأنظمة المتمظهرة بالديمقراطية الحاكمة على ما يسمّى بالبلدان المتطورة الغربية.
    قبل الخوض في هذا البحث ينبغي أن نؤكد هنا بأن كلّ ما يدعو إلى الفخر والشرف في مفهوم الولاية إنما هو راجع إلى أسلوب الولاية في استخدام هذه الأدوات. يعني لا ندّعي أن الولاية لا تستخدم هذه الأدوات إطلاقا، بل ما ندعيه هو أنها لا تتعاطاها على سبيل الطغيان وبلا نطاق. فمن أجل اتضاح المعنى، لا بأس قبل الخوض في تفاصيل البحث، نلقي نظرة على الآية 112 من سورة هود المباركة التي أشار إليها النبي (ص) بأنها السبب في مشيبه. [1]
    في هذه الآية المباركة، أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بالاستقامة: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَن تَابَ مَعَكَ وَ لَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير). إنها في الواقع تبيّن منهج الولاية في عملها وحركتها. يقول الله سبحانه للنبيّه استقم كما أمرت، ومعنى هذه الاستقامة هو أن يكون النبيّ بصدد إكمال العمل الذي شرع به ويعدّ خطّته في سبيل استمرار هذه الحركة ودوامها. ولمن نال شيئا من السلطة هناك مئات الأساليب تتاح له حتى يستعين بها على إبقاء دولته ودوام حكومته، أما في هذه الآية يقول الله سبحانه ليس لك إلا أن تستمرّ على أساس ما أمرتك به.
    من أجل اتّضاح المراد من «كما أمرت» افترضوا معلّما مندوبا من قبل وزارة التربية والتعليم إلى إحدى القرى لكي يتكلم مع أبناء القرية ويقنعهم بأي نحو كان على تأسيس مدرسة ودراسة أبنائهم فيها. بطبيعة الحال لم يعبأ به أحد في بادئ الأمر، ويزعم الجميع أنه إذا انشغل أبناؤهم بالدراسة سوف لا يعينونهم في المشاغل والأعمال، وقد يواجهونه بشدّة، ولكنه كان يتعامل معهم بالرأفة والتواضع، وبذلك استطاع أن يأخذ مأخذه في قلوبهم وينشئ المدرسة. وبعد مضيّ نيّف من السنين يبلغ عدد طلابها إلى مئتين طالب مثلا. فافترضوا بعد مضي عشر سنين من حصوله على المنصب والقدرة في تلك القرية، يأتي رجل من قرية أخرى ويبادر بشتمه والاستهزاء به، فإذا واجهه هذا المعلم بنفس تلك الابتسامة التي كان يواجه بها أبناء القرية في أيامه الأولى، فقد اتخذ موقفه بمقتضى «کما أمرت». أما إذا عاف ابتسامته الأولى وراح يواجهه بطريقة أخرى، فإنما قد طغى ولم يعمل بمقتضى «کما أمرت».
    وكذلك الأمر بالنسبة للولاية، فلابدّ لها أن تمارس الولاية مثل هذا المعلم. فحتى لو كانت الولاية قادرة على استخدام ما ناشته يدها من أدوات في سبيل تعزيز حكومتها، بيد أنها ملزمة باستخدامها ضمن النطاق المسموح لها من قبل الله، وهو نطاق احترام كرامة الناس. ثم في ذيل هذه الآية يخاطب الله نبيه (ص) وأتباعه بقوله «ومن تاب معك» ويمنعهم من الطغيان؛ «ولا تطغوا»، ما يدلّ على أن قوله «کما أمرت» يحكي عن الاستقامة التي لا يصحبها طغيان.
    إن استطعنا أن نجسّد منهج الولاية في إدارة المجتمع لجميع أهل العالم، سوف يتلهّف جميع الناس في مختلف أرجاء العالم إلى هذا المفهوم. وبالمناسبة إن سبب مظلومية جميع أولياء الله على مرّ التاريخ راجع إلى أسلوب استخدامهم لأدوات القوة. و سوف يظهر إمام زماننا (عج) بعد ما يأمن المظلومية بالرغم من استخدامه لأدوات القوة على نطاق محدود.

    1ـ القوة القهرية

    واحدة من أدوات القوة التي هي في متناول الحكّام ليديروا بها المجتمع هي سياسة القوة واستخدام القوة القهرية. طبعا أصبح هذا الأسلوب اليوم غير ممكن للاستخدام الواسع. اليوم حتى أشرس الطواغيت لم يعد قادرا على استخدام هذه الأداة بلا قيد وحدود. كان استخدام هذا الأسلوب أيسر سابقا. ففي الأزمنة الماضية كان إذا تمرّد أحد على رأي الملك يلقى بيد الجلّاد، أما الآن فباتت هذه الأساليب غير ميسورة. طبعا لا تزال بعض الحكومات تتعاطى هذا الأسلوب بلا أيّ حدّ وقيد حفاظا على أريكتها، أمّا في ما يسمى بالبلدان الديمقراطية الغربية، فلم يعد الاستخدام المطلق لهذا الأسلوب أمرا متعارفا.
    ولا شكّ في أن الولاية لن تستخدم هذه الأداة بلا قيد وحدود، كما أن في صدر الإسلام لم يتعاطَ النبيّ (ص) ولا أمير المؤمنين (ع) هذه الأداة على نطاق غير محدود. فباعتبار أن هذا الموضوع ليس محلا للنزاع ولا ينادي به أحد في عالمنا اليوم، نكتفي بذكر مثال واحد عن سيرة حكومة أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
    بعد هلاك يزيد، تآمر مروان بن الحکم على «معاوية بن يزيد» واتكأ على أريكة الحكم. وبعد فترة من الزمن وعندما قُتل مروان على يد زوجه، تقلّد الخلافة ابنُه «عبد الملك». فعيّن عبد الملك حجاج بن يوسف الثقفي واليا على العراق. فكانت قد خرجت في تلك الفترة بعض الاحتجاجات ضدّ الحكومة في «رامهرمز»، بيد أن أهل الكوفة لم يكونوا مستعدّين لمواجهة المحتجّين وكانوا قد تخلفوا عن جيش مهلّب ورجعوا إلى الكوفة. فاتّجه الحجّاج صوب الكوفة وارتقى منبر الكوفة منذ وصوله مباشرة فخطب بأهلها وقال: «...إني لأرى رؤوساً قد أينعت و حان قطافها , و إني لأنظر إلى الدماء بين العمائم و اللحى... إن أمير المؤمنين عبد الملك نشر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً و أصلبها مكسراً, فوجهني إليكم...» إلى أن قال: «و الله لتسقيمن على سبيل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلاً في جسده أو لأهبرنكم بالسيف هبراً يدع النساء أيامى , و الولدان يتامى...». بعد ثلاثة أيام من خطبته جاءه رجل كبير وقال له: "إني شيخ كبير عليل، وهذا ابني حنظلة وليس في بني تميم رجل أشدّ منه ظهرا وبطشا فإن رأيت أن تخرجه مكاني فافعل». فأمر الحجاج بضرب عنقه فضربوا عنقه. بعد ذلك تطايرت عصاة الجيوش إلى جيش مهلّب ولم يتخلف عنه حتى رجل واحد. شاهد الكلام هو أنه ألم يستطع أمير المؤمنين (ع) أن يستخدم هذا الأسلوب في تجييش الجيش ضدّ معاوية؟ فلا شكّ في أن أمير المؤمنين (ع) كان يعرف نفسية أهل الكوفة جيدا،[2] بيد أن الولاية لا تستخدم أيّة أداة من أدوات القوّة بلا قيد وحدود.

    يتبع إن شاء الله...

    [1]شرح نهج‌ البلاغة لابن أبي الحدید، ج11، ص213.
    [2] حيث قال لهم أمير المؤمنين (ع) في كلام يخاطب فيه أهل الكوفة: «عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، وأدبتكم بالدرة فلم تستقيموا، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا، ولقد علمت أن الذي يصلحكم هو السيف، وما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي...» (الاحتجاج، لأحمد بن علي الطبرسي، ج1، ص256)


  5. #15
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 19

    2ـ الثروة

    واحدة أخرى من أدوات القوة التي أصبح لها اليوم دور مهمّ جدا في المعادلات الجارية في العالم، هي الثروة أو بعبارة أخرى المكنة الاقتصادية. إن استخدام هذه الأداة على نطاق غير محدود أمر مشروع ومعترف به لدى الرؤية المادية الغربية. فبمقتضى هذه الرؤية لابدّ من صرف الأموال أحيانا في سبيل تسيير بعض الأهداف. وتارة لابدّ من قطع الرواتب والأجور في سبيل إرغام الناس على الطاعة. بيد أن في الرؤية الولائية لا ينبغي استخدام هذه الأداة بلا عنان وعلى نطاق غير محدود.
    فعلى سبيل المثال لم يقطع أمير المؤمنين (ع) راتب الخوارج من بيت المال، مع أنهم لم يكونوا يعترفوا بحكومته (ع) وكانوا يبلّغون ضدّه بكلام سامّ. ولكن بالرغم من اعتراض بعض أصحاب أمير المؤمنين، لم ينفكّ الإمام عن مداراة الخوارج والتعامل معهم كباقي أفراد المجتمع ما داموا لم يشهروا السيف، وكان هذا التعامل الكريم في الوقت الذي لم ينقطع فيه عداء الخوارج تجاه أمير المؤمنين.
    في زمن الخليفة الثاني وبعدما جاءت غنائم الانتصار على إيران إلى المدينة، استشار الخليفة بعض الشخصيات ليحدّد سياسة التوزيع. فقال له رجل: إني رأيت سياسة توزيع المال عند العجم (الفرس والروم) حيث إنهم فتحوا سجلّات وقد خصصوا لكل فرد من المجتمع حصّة بحسب مقامه وموقعه. فاستحسن الخليفة الثاني هذا الرأي وأمر بإنشاء دواوين، فبدأ بتقسيم بيت المال على أفراد المجتمع على أساس موقعهم وشأنهم.[1] فهو أوّل من اتخذ سياسة التمييز في تقسيم بيت المال في تاريخ الإسلام. فعندما سئل عن سبب ذلك قال: «إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى في هذا المال رأيا ولي فيه رأي آخر...» [2]دون أن يتطرق إلى سنّة رسول الله (ص). كما أن العقل أيضا يحكم في ظاهر الأمر بالتبعيض في سبيل حفظ الحكومة، بيد أنّ المنهج الولائي في إدارة المجتمع يأبى مثل هذا التبعيض ويخالفه بشدّة.
    وبالمناسبة، يعتبر المحللون للأحداث التاريخية أنّ أحد أكبر أخطاء أمير المؤمنين (ع) بعد خلافته، هو سياسته الاقتصادية! حيث كان أمير المؤمنين (ع) يعطي طلحة والزبير من بيت المال بقدر ما يعطي عتقاءهما من العبيد. فمن الطبيعي أن لا يطيق هذه العدالة والمساواة من تمتّع بامتيازات كبيرة في المجتمع الإسلامي لمدة مديدة. هذا هو الأمر الذي أجّج حرب «الجمل» ما جرّأ معاوية على شنّ حرب «صفّین» والتي تمخّضت منها معركة «نهروان». يعني لو كان الإمام منذ البداية لم يتشدّد في مراعاة العدل والمساواة لما حدثت ولا واحدة من تلك المعارك. فهل لابدّ أن نفهم هذه الظاهرة تحت عنوان ضعف تدبير أمير المؤمنين (ع) أم هناك حقيقة أخرى وراءها؟
    الحقيقة هي أنه تبدو إدارة المجتمع على أساس الدقائق التي تلتزم بها الولاية، أمرا غير ممكن وهي تقتضي رشد الناس. وبهذا السبب نفسه لم يظهر إمام العصر (عج) بعد. وهل يقدر أحد على مراعاة ذرّة من عدل أمير المؤمنين (ع)؟ ينقل في زمن السلسلة الصفوية التي كان ملوكها قد رفعوا راية التشيع واتباع أمير المؤمنين (ع)، استولى عمّال الحكومة في إحدى مناطق البلاد على أرض رجل، ومهما حاول صاحبها أن يسترجع حقّه لم يصل إلى نتيجة. إلى أن أوصل نفسه إلى قصر حاكم تلك المنطقة فحضر في مجلسه وأخذ يتحدّث بأعلى صوته عن عدل أمير المؤمنين (ع). فاستغرب الحاكم من فعل الرجل والتفت إليه بعد ختام المجلس وسأله هل لك مشكلة؟ فطرح مشكلته. فأمر الحاكم بإعادة أرضه إليه، ولكن طلب منه أن لا يبالغ بالحديث عن عدل أمير المؤمنين (ع). استغرب الرجل وقال له: «ألم تعتبروا أنفسكم من أتباع علي (ع)». فأجابه الحاكم: «بالتأكيد، ولكن قل لي كم سنة حكم علي (ع)». قال له الرجل: «خمس سنين». فقال الحاكم: «هنا القضية؛ فبسب عدل أمير المؤمنين لم تزدد حكومته عن خمس سنين. ونحن لا نريد أن نحكم بهذا القدر. نحن نريد أن نحكم الناس إلى ما شاء الله، ولهذا لا يمكننا أن نقيم دعائم الحكومة على أساس عدل علي (ع)».
    طبعا إن الولاية تستخدم الأدوات الاقتصادية في سبيل تسيير أهدافها، ولكن هناك قيود كثيرة أمامها ولا يقوى على مراعاتها إلا من كان أهلا للولاية. فعلى سبيل المثال في أحكامنا الدينية هناك عنوان باسم «تأليف القلوب». ومعناه هو أن الحاكم الإسلامي له أن يعطي بعض أموال الزكاة والخرائج الإسلامية للراغبين عن الإسلام في سبيل تأليف قلوبهم إليه. ولكنّه لا يخلو من القيود والضوابط ولا تمارس الولاية هذا الحكم دون أن تلاحظ الحدود والقيود أبدا. وحريّ بنا أن نفتّش عن أسرار الولاية في مصاديق مراعاتها لهذه القيود والحدود.

    يتبع إن شاء الله ...

    [1] فتوح البلدان، ص436
    [2] کتاب الخراج، ص53 و 54


  6. #16
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 20

    3ـ القانون



    إحدى الأدوات التي يستخدمها السياسيون والحكام اليوم في جميع أرجاء العالم بلا أيّ حدود ونطاق، هي «القانون». إنها سياسة لا يستقبحها أحد، بينما استخدام القانون على سبيل الإفراط أمر قبيح وغير صحيح شأنه كشأن استخدام القوّة بلا عنان ولا حدود. صحيح أن القانون محترم، ولكن لا يحقّ لأحد أن يسيطر على أفعال الناس ويرغمهم على تغيير سلوكهم بفرض القوانين بما يفوق عن حدّ اللزوم.
    أحد الحدود الموجودة في عملية وضع القوانين، هو إعطاء الفرصة للناس لتحسين سلوكهم. صحيح أن وضع القانون أمر لابدّ منه، ولكن لا ينبغي أن نسلب فرصة إصلاح الذات من الناس، في مسار تنفيذ القانون أو فرضه. لا يحقّ لنا أن نعمد على إصلاح السلوك الاجتماعيّ برمّته عن طريق فرض القوانين المتشدّدة. لا ينبغي أن نطلق عنان القانون في جميع شؤون المجتمع، بل لابدّ أن نكل كثيرا من التعاملات الاجتماعية إلى «الأخلاق».
    إذا تشبّع المجتمع بالقانون، تموت الأخلاق فيه. فليس المفترض هو أن ندفع الناس إلى مراعاة الأعراف الاجتماعية مهما بلغ الثمن وحتى لو كان ذلك على حساب سلب اختيارهم الذي يمثل وجه تمايزهم عن الحيوانات. إن القوانين المتشدّدة وإن كانت قد تحقّق نظم المجتمع، بيد أنّها سوف تترك أثرها التدميري في ثقافة المجتمع وأخلاقه العامّة.
    نجد في بلاد الغرب قد وضعوا القوانين لكلّ شيء، ويحسبون هذه الظاهرة حسنا لهم. في المقابل، تجد الناس يطبّقون القوانين بدقّة. فهل مجرّد العمل بالقوانين، كقوانين المرور يدلّ على كمال الشعوب الغربية؟ في بعض البلدان الغربية، إن خالف أحد قانون المرور، مثل أن يقف في مكان محظور الوقوف فيه، يغرّم بما يقارب سعر سيّارته. فبطبيعة الحال لن يسمح أحد لنفسه أن يقف في أماكن حظر الوقوف، ولكن هل يدلّ هذا على فضل وكمال؟ ففي الحقيقة قد سلبت قوّة الاختيار من الناس بهذه القوانين المتشدّدة، وهذا هو الذي نستنكره ولا نرضى به. طبعا إن هذا الكلام لا يعني الدفاع عن حالة عدم القانون، كلا، فكما ذكرنا مسبقا، لابدّ من وجود القانون، بيد أنه لا ينبغي أن يتمّ استخدام هذه الأداة على نطاق واسع غير محدود.
    وحري بالذكر هنا أن القوانين الشديدة ليست بضمان دائم لتحقيق الهدف والمطلوب. فعلى سبيل المثال هل يمكن في مجال القضايا الثقافية كقضية الأسرة وحقوق المرأة، أن يرغموا الرجال على مراعاة حقوق النساء عن طريق فرض القوانين الشديدة؟ فهل قد استوفت المرأة الغربية جميع حقوقها وهل قد باتت تشعر بالسعادة في حياتها بعد هذا الكمّ الهائل من القوانين التي وضعت لحماية المرأة في الغرب؟ إن حلّ معضلة «تضييع حقوق المرأة في الأسرة» بحاجة إلى طرقه الثقافية ولابدّ من الحديث عنها بالتفصيل في مجال آخر، أمّا الشيء الواضح هو أن طريق حلّها ليس تكثير القوانين.
    كذلك في مجال الاقتصاد، نحن بحاجة إلى قوانين واضحة تنظّم العلاقات والمعاملات الاقتصادية في إطار منضبط، ولكن إن التنمية الاقتصادية وفكّ العقد الاقتصادية لم تنجز عن طريق فرض القوانين وحسب. فعلى سبيل المثال، دائما ما كنا نشاهد ازدياد أسعار الفواكه في الأيام الأخيرة من السنة، ومهما كانت الدولة تفرض أشكال القوانين في سبيل حلّ هذه المشكلة، لم تزل مشكلة غلاء الأسعار باقية في مكانها. إلى أن قرّرت الدولة أن تسيطر على الأسعار من خلال استخدام طبيعة السوق نفسه، أي إيجاد وحفظ التعادل بين العرض والطلب. ولهذا نرى منذ كم سنة أن الدولة تشتري الفواكه من الزرّاع قبل أشهر من انتهاء السنة، ثم توزعها في السوق بالسعر المناسب. فبهذه السياسة انحلّت مشكلة ازدياد الأسعار بشكل تلقائي.
    وكذلك الأمر في مجال التعليم والأوساط العلمية، حيث إن كثرة القوانين والمقررات لا تؤدي إلى التطوّر العلمي. فلا يمكن تنمية القابليات العلمية لدى الطلاب عن طريق تصعيب القوانين التعليمية. فعندما تكثر القوانين والمقررات التعليمية، تصبّ طاقات الطلاب والأساتذة في مراعاة القوانين وتلبية إلزامات المقررات، وحينها لا يبقى لهم شعور بالمسؤولية تجاه ارتقاء المستوى العلمي والدراسي.
    وكذلك الأمر في باقي المجالات. فإن أدركنا هذه الحقيقة وهي أن القانون شيء جيّد أما كثرته فلا، عند ذلك نستطيع أن ندرك ونحلل سبب تساهل النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) في فترة حكمهما. فمن كان هدفه هو إصلاح المجتمع، لا يبالغ باستخدام القانون أكثر من اللزوم.
    أصبحنا اليوم مع الأسف نقلّد الغرب في كثير من شؤوننا الاجتماعية، دون أن ندرس مدى صحة هذه القوانين من الناحية الإنسانية. فعلى سبيل المثال هل من الصحيح إنسانيا أن نعاقب الموظف الذي تأخر عن زمن دوامه ولو بدقيقة واحدة ونخصم من راتبه، ونشجّع الموظف الذي حضر الدوام في وقته بلا تأخير ومرّر بطاقته في الجهاز، ونعطيه راتبه بالكامل؟ وأساسا هل يؤيد الدينُ نظامَ الثواب والعقاب المباشرين هذا، الذي لم ينفكّ عن حياتنا منذ الطفولة في المدرسة الابتدائية وقد رسخ في وجودنا وكياننا؟ هل هذا الأسلوب التربويّ صحيح؟ بهذا الأسلوب يمكن تربية الحيوانات أيضا! ولكنه كم يُبعد الإنسانَ عن إنسانيته. إنها من القضايا التي لم نقف عندها مع الأسف، وإنما قلدنا النماذج الغربية فحسب. طبعا هذا الكلام لا يعني أن يصبح الجميع أحرارا في عدد ساعات دوامهم. كلا، لابدّ للجميع أن يلتزموا بالنظم والترتيب، ولكن الكلام هو هل من الصحيح أن ننظم الموظفين عن طريق نظام تمرير البطاقة وما يصحبه من العقاب والثواب؟
    كما ذكرنا في الأبحاث المسبقة، لا نجد هذا الكمّ الهائل من القوانين في حكومة صاحب العصر والزمان (عج). فعندما يَرشُد الناسُ جميعا لا داعي حينئذ إلى هذا الكمّ من القوانين. كما لو التزم جميع الناس في زماننا هذا بالأحكام الدينية، لا داعي بعد ذلك إلى كلّ هذه القوانين بشأن المرور أو أن يقف شرطي في كلّ مفترق طرق. إذا رشد الناس جميعا بعد ذلك لا يسمح أحد لنفسه أن يتعدى على حقوق غيره. وهذا ما سوف يحصل في زمن حكومة صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) إذ يندر ارتكاب الجرائم والمخالفات بسبب رشد المجتمع بشكل عام. سوف لا نحتاج إلى هذا القدر من القوانين بسبب ارتقاء معرفة الناس بماهية المخالفات والذنوب. ولهذا السبب حتى وإن تمّ وضع القوانين في ذلك المجتمع، لا شكّ في أنها لن تزيد عن الحدّ المطلوب.

    يتبع إن شاء الله...


  7. #17
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 21

    4ـ الدعايات


    واحدة أخرى من الأدوات التي تستخدم في مسار إدارة المجتمع، والتي بات استخدامها على قدم وساق في عالمنا اليوم، هي «الدعايات». «الدعايات» هنا تشمل أساليب واسعة من نشر المعلومات والحرب النفسية والإفشاء واستخدام الفن وغيرها. فباعتبار أن جميع الحكّام وفي جميع الأنظمة الحكومية يتعاطون هذه الأداة على نطاق واسع وبلا أيّ حدود، ومن جانب آخر، في سبيل اتضاح البون الشاسع بين نموذج الحكومة الولائية وباقي النماذج، حري بنا أن نقف عند هذا الموضوع بمزيد من التفصيل.

    الفاصل المميز بين نشر المعلومات وبين الإفشاء

    الهدف من نشر المعلومات في أجواء المجتمع السياسية في الرؤية الولائية هو إعطاء الرؤية الصحيحة للشعب في سبيل ازدياد قدرة تشخيصه. فلا يوافق المنهج الولائي على إعطاء المعلومات الجزئية والتفصيلية التي قد تأخذ منحى «الإفشاء». وهذا هو منهج القرآن، حيث إنه عندما يريد أن يعرّف المنافقين، يكتفي ببيان خصائصهم ويكل تشخيص المصاديق إلى المؤمنين. وقد اعتمد نفس المنهج النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في حكومتهما. فبرأيكم أما كان يستطيع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يفضح المنافقين الذين كانوا حوله بأسمائهم وقد جاءت عشرات الآيات في بيان خصائصهم وبذلك يصون المجتمع الإسلامي من شرّهم؟ فلا شك في أنه كان قادرا على ذلك، أمّا هل كان هذا الموقف لصالح المجتمع الإسلامي؟ أولم يشكّل هذا الموقف حاجزا أمام نموّ وتطور المجتمع الإسلامي؟
    فعلى سبيل المثال في قضيّة محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) بعد معركة تبوك، قد اطلع النبي (صلى الله عليه وآله) على مؤامرة المنافقين عن طريق الأمين جبرئيل وأبطل مؤامرتهم. وقد كان قد عرف حذيفة بعض المنافقين في تلك الواقعة حيث إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد ذكر له باقي أسمائهم ولكن عهد عليه أن لا يذيع بأسمائهم بين الناس.[1] فليس القرار في المجتمع الذي خضع للحكومة الولائية أن تسيّر فيه جميع الأمور عن طريق الإفشاء والفضيحة. إذ في مثل هذه الأجواء قد يكفّ بعض الناس عن الذنوب خوفا على سمعتهم، ولكن هل هذا الأسلوب يخدم حركة رشد المجتمع؟
    كما ذكرنا سابقا، حتى القرآن لم يفضح المنافقين بشكل مباشر. طبعا كان يشخّصُ الناسُ في موارد كثيرة مصداق الآيات عن طريق شأن نزولها، ولكن لم يكن دأب القرآن هو تسيير حركة الدين عن طريق إفشاء المنافقين وفضحهم. لقد أشار القرآن إلى أن المنافقين كانوا يخافون من نزول سورة تفضح نفاقهم،[2] ولكن لم تنزل سورة بهذه المواصفات قط. حتى أن سورة «المنافقون» قد اكتفت بذكر خصائص المنافقين ولم تصرّح باسم أحدهم.
    لن تعتمد الولاية على نشر المعلومات بدلا عن بصيرة الناس. فإنها تحاول تسيير الأمور من خلال إعطاء الرؤية الصحيحة للناس وتصعيد بصيرتهم. طبعا لا يرفض المنهج الولائيُّ أداة الإفشاء برمّتها، ولكن ليس الإفشاء بالأسلوب والمنهج الرئيس لكي يتعاطاه في كل شيء. فمن دأب الولي هو أن لا يصرح بكل شيء ويعطي الفرصة للناس حتى يرشدوا ويدركوا بعض الحقائق وذلك بسب احترامه لوعي الناس وعقلهم. ولهذا السبب نفسه نجد سماحة السيد الولي قد أشار بعد أحداث عام 88ش. في لقائه بعدد من النخبة العلميّة إلى أنه لم يصرّح بكثير من الحقائق.[3]
    لعلّ هذا هو أحد أسباب عدم التصريح باسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وباقي أئمة أهل البيت (عليهم السلام). طبعا هناك أوجه أخرى ذكرت لهذا الأمر من قبيل «صيانة القرآن عن التحريف» ولكن نحن الآن بصدد التركيز على هذا الوجه بالذات. فعلى أساس هذه الرؤية ليس من المفترض أن يصارح اللهُ عبادَه بكل شيء. إنه قد خلقنا بشرا ومنحنا العقل والقدرة على التفكير، ولهذا لم يصارحنا بكل شيء احتراما لفكرنا وعقلنا. فلابدّ للإنسان أن يسعى ويجاهد بنفسه في سبيل إدراك بعض الحقائق. هذا هو معنى احترام مقام الإنسان. نحن نعتقد أنّ الشعوب اليوم تعيش أيام جهلها ولا تشعر بكثير من مصاديق الظلم فلا تعتبرها ظلما من الأساس.

    استخدام الدعايات بنطاق محدود

    بسبب ضرورة الالتزام بهذه الحدود نجد أن النشاط الإعلامي في المجتمع الإسلامي ليس بعمل هيّن. النشاط الإعلامي واستخدام وسائل الإعلام لا يخلو من دقائق كثيرة ولا يصلح لها كل غاد ورائح. فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة القاصعة: «وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاء».[4]
    إن العمل الإعلامي محدود بنطاق محدّد و فيه دقائق كثيرة يجب الالتفات إليها. فعلى سبيل المثال قد جرت العادة في إنتاج الأفلام والمسلسلات المرتبطة بأئمتنا الأطهار (عليهم السلام)، أن يميّز الإمام عن غيره بهالة من النور، وهذا ما يتناقض تماما مع خطبة القاصعة. إذ بهذا التمييز الواضح يقف ابني الصغير في حيرة من أمره متسائلا: «هل کان المؤمون العباسي أعمى بحيث لم ير نور وجه الإمام الرضا عليه السلام». وغدا عندما يظهر الإمام صاحب العصر والزمان (عج) قد يتساءل مستغربا: «لماذا هذا الرجل مثلنا، ولم تحط بوجهه هالة من النور كما كان الإمام الرضا (عليه السلام)؟».

    يتبع إن شاء الله...


    [1]المغازي، ج3، ص1045.
    [2]«يحَْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنزََّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فىِ قُلُوبهِِم» (التوبة،64).
    [3]«لا تتصوروا أن الكلام الذي تقوله مؤسسة الإذاعة و التلفزيون هو كل الكلام، لا، هناك الكثير من الكلام. ليس كل ما يشعر به الإنسان لا بد و أنه قاله أو يستطيع أن يقوله. هناك الكثير من الكلام.» (لقائه بالنخبة العلمية: 28/10/2009).
    [4]نهج البلاغة، الخطبة 192، (خطبة القاصعة).



  8. #18
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 22

    صحيح أن الله قد أنزل مع رسله البينات والمعاجز في سبيل إيمان الناس بهم، بيد أنه لم تكن تلك المعاجز بدرجة من الوضوح حتى تُغني الناس عن التفكير أو ترغمهم على الإيمان بسلب اختيارهم. نحن نجد هذه الحقيقة واضحة كلّ الوضوح في سيرة نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله). فعلى سبيل المثال لقد نقل المفسرون في شأن نزول سورة الكهف المباركة أنّ مشركي قريش أرسلو رسولين إلى يهود المدينة ليستفسروهم عن رسالة النبي (صلى الله عليه وآله). فأجابهم اليهود أن اسألوه ثلاثة أسئلة، فإن كان رسولا من قبل الله فعلا سيجيبكم عنها، وإلا فلا. فعندما طرح مشركو قريش الأسئلة الثلاثة على النبي (صلى الله عليه وآله)، استمهلهم يوما وقال لهم سأجيبكم غدا، ولكن تأخّر نزول الوحي خمسة عشر يوما. فتمسك المشركون بهذه الذريعة لتكذيب الرسول (صلى الله عليه وآله).[1] أو كانوا يقولون في مواقف أخرى: إن كان هذا الرجل رسولا من قبل الله حقا، فلماذا لا ينزل عليه ملك يثبت أحقيته.[2] طيّب، فيا ترى أما كان الله قادرا على إنزال الوحي في حينه بلا تأخير، وألم يكن قادرا على إنزال ملك ظاهر على النبيّ وبذلك يرغم كلّ المخالفين على الإيمان؟ إنه كان قادرا بالتأكيد، ولكن لم يكن الله بصدد فرض الإيمان على الناس رغما على اختيارهم.
    فبرأيكم هل أن هذه الأفلام والمسلسلات التي تحاول تجسيد حضور الشيطان بين الناس قد أصابت المنهج الصحيح؟ قد يبرر البعض أمثال هذه المسلسلات قائلا: «إن تجسيد الشيطان مدعاة لانتباه الناس وحذرهم». ولكن ألم يقدر الله على تجسيد الشيطان وإظهاره ما يدعو الناس إلى الانتباه والحذر؟ وقد يقول البعض: «على كلّ إن تأثير هذه المسلسلات تأثير إيجابي». ولكن حقيقة الأمر أنها لا تترك أثرا إيجابيا أبدا. إذ إن هذه البرامج تجعل عقل الإنسان في عينه. ولو كان الله بصدد إنجاز هذا المشروع لما خلق الإنسان ولاكتفى بخلق البهائم. حيث إن عقول البهائم في أعينهم وأنوفهم؛ يشتمّون ما حولهم فكلما مرّوا على طعام يأكلونه وإلا فيمرّون عنه. أما الإنسان فمن شأنه أن يدرك الشيطان بعقله لا بعينه.
    إن عملية استخدام الدعايات وجميع العوامل المؤثّرة على الإنسان بشكل عام لابدّ أن تخضع لحدود معيّنة. لقد خاطب الله رسوله في القرآن الكريم: (وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى‏ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلين).[3] على أساس ما قاله العلامة الطباطبائي في تفسيره، المقصود بالآية في هذه الآية هو آية سحرية ترغمهم على الإيمان بسلب اختيارهم، وهذا ما لا ينسجم مع حكمة الله إذ أراد لهذه الدنيا أن تكون دار الاختيار وأن تجري الدعوة إلى الحق وقبولها على مجرى الاختيار.[4]

    الغرب واستخدامه المطلق للدعاية والإعلام

    لقد بات الغرب يستخدم الدعايات بشكل فضيع؛ حيث إن الدعايات و الحرب النفسية أصبحت تمثّل أهم عناصر نجاح الحكام والسياسيين في الغرب. فليس لعمالقة الإعلام الغربي اليوم شأن ودور غير إقناع الجمهور على السياسات العامة للحكّام. ومن جانب آخر نحن نعلم جميعا من هم أصحاب وسائل الإعلام وشركات الدعايات.
    مهما ضيّق الله سبحانه نطاق استخدامه لوسائل الدعاية والإعلام احتراما لعقول الناس، نجد الغربيين قد تعاطوا هذه الأدوات على نطاق واسع غير محدود دون احترام لعقول الناس وإدراكهم. ثم يعتبرون فعلهم هذا «فنّا». هناك دروس جامعية أنشأوها في سبيل تعليم أحدث أساليب خداع الناس بالفنّ والدعايات، فيتعلم الطلاب عبر هذه الدروس أساليب خداع الناس من أجل ترغيبهم لشراء بضاعة أو إدلاء الصوت لصالح مرشح.
    إن إنتاجات «هوليوود» السينمائية من أبرز مصاديق هذه الحقيقة. فإن هذه الأفلام السينمائية لا تحترم إنسانية المشاهدين. إن احترام الإنسان هو أن لا تخدعه بالفنّ حتى وإن كنت ترمي إلى هدف صحيح. هذا هو دأب الإسلام، حيث إنه يأبى استخدام الفنّ في سبيل خداع الناس وجرّهم إلى الصراط المستقيم، بينما ما يمارس في الغرب اليوم هو استغلال الفنّ في سبيل خداع الناس وإغوائهم إلى متاهات ومهالك. لاحظوا مدى البون الشاسع بيننا وبينهم. الإسلام يرفض الخداع حتى وإن كان ذلك في سبيل جرّ الناس إلى الله ورسوله، بينما في الغرب يستخدمون شتى أساليب الإغراء والخداع ليدفعوا الناس إلى قعر مستنقعات الفساد.
    تنطوي جميع الأفلام المنتجة في العالم على أثر ظاهريّ يعيه أكثر المشاهدين، بيد أنه لا تقتصر آثارها إلى هذا الحدّ، فإنها تضمّ بين لقطاتها أثرا لاشعوريا يخفى عن أغلب المشاهدين. وإنّ الأمر الخطير جدا هو ما يتركه الفيلم من آثار على لاشعور الإنسان. الآثار اللاشعورية هي التي تدفع أكثر منتجي الأفلام إلى تقبّل أعباء الإنتاج وصرف المبالغ الباهضة والأوقات المديدة. وحري بالذكر أن بعض هذه الآثار الخفية قد خفيت حتى عن منتج الفيلم نفسه. فلم يرمِ المخرج إلى هذا الهدف الخفيّ، ولكن تجد الفيلم يترك الأثر على روح المشاهد من حيث لا يشعر، ومن دون أن يهدف إليه المخرج. فينبغي أن تكون هذه الحقيقة بمثابة صفارة الإنذار لتمنعنا عن مشاهد أيّ فيلم بكل بساطة.

    يتبع إن شاء الله...

    [1] تفسير كنز الدقائق و بحر الغرائب، ج‏8، ص: 57.
    [2] «وَ قَالُواْ لَوْ لَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَک» (انعام،9).
    [3] الأنعام، 35.
    [4] العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج7، ص64.



  9. #19
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 23

    كيف تتعامل مع من دخل بيتك دون إذنك؟ فهذا ما يفعله منتجو الأفلام إذ يقتحمون قلوبنا وينالون منها ما يشاؤون دون استئذان. إن الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية تدخل في نفوسنا بلا استئذان ثم تقوم بتغيير ما نرغب به وما نهواه. فمن هذا المنطلق نحكم على الغرب بالتخلّف والرجعية. إنّ من الهمجية أن يتلاعبوا بأهواء الناس ورغباتهم كيف ما يشاؤون وبلا استئذان. هل تتصورون أن مقتضى طبيعة الناس قد جعلتهم يميلون إلى الفحشاء والفجور بهذا القدر؟ الواقع هو أن الإنسان الغربي قد خرج عن طوره الطبيعي بعد ما تلاعبوا برغباته، وإلا فالإنسان بطبيعة حاله لا يحمل مثل هذه الرغبة الشديدة إلى الإباحية الجنسية والأخلاقية. إن حبّ الأسرة والأولاد والأب والأم مودع في فطرة جميع الناس، بيد أن الغربيين قد تلاعبوا بهذه الفطرة أيضا. لقد فقدت الأسرة معناها الحقيقي في الغرب، ما أدى إلى تولّد نسبة عالية من أولاد الحرام في أمريكا والبلدان الأوروبية، إذ لم يولدوا نتيجة زواج رسمي. ولهذا تجد في دوائر الغرب يتمّ تسجيل الأولاد على أساس نسبتهم إلى أمّهاتهم، إذ آباء كثير منهم مجهولون. فما معنى هذه الظاهرة؟ هل لها معنى غير انحطاط الأسرة وعلاقة الوالدين بالأولاد وبالعكس؟
    بودّي أن أشير إلى هذه الحقيقة بين القوسين، وهي أن من شأن بعض هذه الأفلام أن تسلب منّا إسلامنا أيضا. فعلى سبيل المثال، لعلكم شاهدتم في بعض المسلسلات البوليسية والجنائية أن يجعلوا الدور الرئيس في المسلسل لفتى وفتاة جميلين رشيقين، فيمثّلان معا في دور واحد ومهنة واحدة كإطفاء الحريق أو إسعاف أو أن يكونا شرطيين أو عاملين في المعدن وما شابه ذلك. فيمارسان عملهما معا بلا أية مشكلة أو إحراج. وهذا كذب على الجمهور. فإنّ مثل هذه المشاهد لا تحدث في مكان حتى في الغرب. ونتيجة أمثال هذه اللقطات هو أن يتبادر في أذهاننا هذا السؤال وهو إذا يستطيع الناس أن يعملوا ويتعاونوا معا بهذه البساطة والسهولة دون أية مشكلة، فما الداعي من هذه التعقيدات والأوامر الصعبة التي يفرضها الإسلام بشأن علاقة المرأة مع الرجل؟ إذن لا خير في الإسلام.

    5ـ العمل السياسي

    واحدة أخرى من أدوات إدارة المجتمع، هي «السياسة» أو بعبارة أخرى «العمل السياسي». لقد أضحت السياسة في عرف الأوساط الدولية بمعنى الحيل السياسية وما يجري ما وراء الكواليس من إجراءات. ولم تكن هذه النشاطات غير مذمومة لدى العرف الدولي وحسب، بل تعتبر إحدى نقاط القوة في الرجل السياسي هو أن يكون قادرا على حلّ المشاكل عن طريق التفاوض والتواطؤ خلف الستار. بيد أنّ هذه الفكرة مرفوضة لدى رؤية الإسلام والمنهج الولائي في إدارة المجتمع.
    كان المجتمع يتّهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه خير مبارز ولكن لا علم له بالسياسة! وفي المقابل، كان يعتبر معاوية سياسيا محنّكا لما يمارسه من دجل ومكر وخديعة. وذلك بسبب أن في النموذج الذي ترسمه الحكومة الولائية، لا يحقّ للحاكم أن يستخدم العمل السياسي والإجراءات الخفيّة السياسية أكثر مما تسمح له القواعد والقيم.
    طبعا ومما لا شكّ فيه، لا ينبغي أن يطّلع جميع الناس على أخبار وأسرار المجتمع تماما، إذ لابدّ من كتمان بعض الحقائق وتسيير بعض الأمور بالخفاء، ولا سيما ما يرتبط بأمن البلد وحفظ كيان المجتمع، ولكن لا يعني هذا هو أن يكون الحاكم مطلق العنان في تسيير جميع المطالب والأهداف عن طريق التفاوضات السياسية خلف الستار، حتى وإن كان أمره وهدفه لصالح الشعب؛ وهذا أمر عجيب. ليس للحاكم أن يحقق مآربه عن طريق الضغط والتفاوض وراء الكواليس، حتى وإن كان مآل غرضه لصالح الناس.
    فعلى سبيل المثال إن ارتفع سعر بضاعة ما بسبب احتكار بعض التجّار، أو فيما إذا حدثت مشكلة سياسية أو اجتماعية في المجتمع نتيجة مواقف غير أخلاقية لبعض السياسيين، لابدّ للحاكم هنا أن يسعى لحلّ الأزمة، ولكن لا يحقّ له أن يتفاوض أو يتواطأ مع المحتكرين أو السياسيين بمنأى عن أنظار الشعب وأن يطالبهم بحلّ المشكلة إزاء منح بعض الامتيازات لهم. فبالرغم من أن الحاكم لا يبحث وراء أية مصلحة شخصية من خلال هذه المفاوضات، ولا يقصد سوى خدمة الشعب، ولكن مع ذلك لا يحق له هذا العمل. وهذه من دقائق الحكومة الولائية.
    إن عملية العزل والنصب من أبرز مصاديق العمل السياسي. ولكن لا يحقّ للحاكم أن يمارس ذلك بغض النظر عن القيم والأحكام الإسلامية. فعلى سبيل المثال في أحداث عام 78ش. (1999م.) في مهجع جامعة طهران،[1] زار بعض مسؤولي النظام سماحة السيد الولي وطلبوا منه أن يعزل رئيس شرطة طهران. فسألهم سماحة السيد الولي هل كان مقصرا في هذه الأحداث؟ فقالوا: كلا، ليس له أي تقصير في هذه القضية، ولكن لابدّ من عزله في سبيل تهدئة الأوضاع. فقال سماحة السيد الولي: «إن لم يكن الرجل مقصّرا فلا أستطيع أن أعزله. وإن فعلت ذلك، فكيف تستطيعون بعد هذا أن تقتدوا بي في الصلاة؟». لعلّه لو كان سماحة السيد قد عزل رئيس شرطة طهران آنذاك، لانحلت مشاكل كثيرة، خاصة وكانت إحدى أهمّ مطالبات الطلاب المحتجّين هي عزل رئيس الشرطة في طهران، ولكنه لم يقدم على ذلك، إذ كان يرى ذلك مغايرا للعدل. هذا هو أحد الحدود التي لابدّ من أخذها بعين الاعتبار في مسار العمل السياسي.

    يتبع إن شاء الله ...

    [1]. في 09/07/1999 اقتحم مهجعَ طلاب الجامعة بعض الشباب المدنيين باسم حركة التعبئة، بعد ما كان بعض طلاب الجامعة قد خرجوا محتجين على إغلاق صحيفة سلام، فشن هؤلاء المدنيّون هجوما على طلاب الجامعة كما تعدّوا على أموالهم وأصابوا بعض الطلاب بجروح. إن هذه المبادرة السيئة التي لقت استنكار سماحة السيد القائد آنذاك، وقعت ذريعة بيد بعض الطلاب المغرّر بهم ليقيموا احتجاجات وإضرابات في الشوارع المحيطة بالجامعة لعدة أيام وبتحريض ودعم الأعداء الأجانب وقيادة بعض عملائهم في الداخل، ويخوضوا مواجهات مع قوات الشرطة. وأخيرا انتهت هذه الأزمة ببيان سماحة السيد القائد التاريخي في تاريخ 14/07/1999م.

  10. #20
    صديق فعال

    وقفة عند أسرار الولاية 24

    كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يمارس العزل والنصب كذلك، ولم يكن مجتنبا عن أيّة مبادرة سياسية، ولكن لم يتجاوز الضوابط والحدود في جميع حركاته السياسية، وهذا ما كان يثير عجب أصحابه ومقرّبيه. من أبرز مصاديق التزامه بهذه الحدود هو عزل معاوية من ولاية الشام في أوائل أيام خلافته. فقد جاء بعض كبراء المدينة ووجهائها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وحذّروه عن ذلك. وكان تحليلهم هو أن الرؤية السياسية تقتضي أن لا تحرّك ساكنا في هذه العجالة، فأبقه في منصبه كيما تتّسق عرى حكومتك ويأخذ البيعة لك، ثم اعزله إن بدا لك.[1] ولكن لم يكن عليّ ممن يفدي الحقّ لبعض المصالح.
    كما كان معاوية نفسه يعرف منهج علي الولائي. ولهذا عندما جاءه رسول أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الشام، أخّره وأبطأ عليه بالتفاوض حتى يجيّش جيشه لمواجهة أمير المؤمنين (عليه السلام). فكان قد اعترض على أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض أصحابه كمالك الأشتر بأنّ رسولك غير كفوء لهذه المسؤولية وقد خدعه معاوية لتجهيز جيشه. وعندما رجع رسول أمير المؤمنين (عليه السلام) عاتبه مالك ما أدّى إلى مغادرته للعراق وترك نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام).[2]
    إن حدود استخدام الأساليب السياسية عويصة ومعقدة جدا، فلا يقدر على تشخيصها والالتزام بها كل إنسان. ومن جانب آخر أولئك الذين يعجزون عن فهم هذه الحدود الدقيقة والحسّاسة، يعجزون عن تحليل مواقف الحاكم وسلوكه بطبيعة الحال. فعلى سبيل المثال في أيام انتصار الثورة الإسلامية، مع أن الإمام (ره) كان يعرف حزب «نهضة الحرية» جيدا، بيد أنه نصّب المهندس بازركان لتأسيس الدولة المؤقتة. وبعد سنين من تلك الأيام وفي رسالته المعروفة بشأن عزل المنتظري قال: «والله لم أكن موافقا على رئاسة وزراء بازركان منذ البداية».[3] أو في قضية رئاسة بني صدر بالرغم من أن الإمام (ره) لم يكن موافقا على رئاسته ـ بشهادة نفس هذه الرسالة التي مرّ ذكرها ـ ولكن بعد ما تمّ انتخابه من قبل الناس، بقي مدافعا عنه إلى آخر لحظة، وحتى قد منحه قيادة القوى العسكريّة، ولم ينفك الإمام عن دعمه لبني صدر بالرغم من اعتراض عدد كبير من المؤمنين وأنصار الثورة الحقيقيين. هذه هي تلك الرموز الخفية التي إن كشف الستار عنها تقدر على جذب شعوب العالم إلى مفهوم الولاية.

    السبب في استخدام الولاية لأدواة القوة في نطاق ضيّق

    1ـ مراعاة كرامة الناس

    كما أشير إليه في الأبحاث الماضية، إن أحد أسباب استخدام الولاية لأدواة القوة في نطاق ضيّق، هو مراعاة كرامة الناس واحترام عقلهم وإدراكهم. فإذا أراد الوليّ أن يستغلّ صلاحياته كلّها لتسيير جميع مآربه، فيقتضي ذلك أن يتجاهل إدراك الناس وإحساسهم. فمن هذا المنطلق ومن أجل احترام كرامة الناس، تقوم الولاية برسم حدود لاستخدام أدوات القوة.
    لا شكّ في أن هذه الكرامة ستهان حين استخدام القوّة القهرية في نطاق واسع ولا داعي لتبيين هذه الحقيقة. إذ لو اُرغم أحدٌ ما بفرض القوّة على فعل خاص أو تبنّي رأي خاص فقد هتكت كرامته. بيد أن هذه الحقيقة غير واضحة في استخدام باقي أدوات القوة على نطاق واسع غير محدود. ولعلّ كثيرا من الناس لا يدركون إهانة كرامتهم إثر تعاطي هذه الأدوات على نطاق واسع.
    إن هذه الظاهرة لواضحة كلّ الوضوح في مجالي القانون والدعايات. ففي كثير من البلدان تمّ تنظيم ظواهر البلد وحياة الناس عن طريق وضع مختلف القوانين، وقد تروق مظاهر البلد المنتظمة لدى بعض الناس. بيد أن أبناء هذا البلد نفسه والمشاهدين الأجانب قد غفلوا عن هذه الحقيقة وهي أن هذا النظم هو نتاج سحق كرامة الناس.
    وكذا الأمر بالنسبة إلى الدعايات والإعلام. فعندما تُمسخ رغباتُ الناس ونزعاتهم نتيجة قصف دعايات الإعلام، قد لا يتبادر لأحد في بادئ الأمر أن أهينت كرامته، ولكن في الواقع لا يحقّ لأحد أن يتلاعب برغبات الإنسان دون إذنه. فأولئك الذين يمارسون هذا الفعل عن طريق الأساليب الدعائية في الواقع يتجاهلون كرامة الناس.
    إن عقول الناس وإدراكاتهم من أهمّ الأمور المحترمة في مسار إدارة المجتمع على أساس المنهج الولائي. فلن تسحق الولاية كرامة الناس أبدا، حتى وإن كلّف هذا الاحترام وجودها وموقعها في المجتمع. تقتضي الرؤية الولائية أن يعي الناس بأنفسهم كثيرا من القضايا والحقائق ويتخذوا القرار الصائب ويسلكوا الطريق الصحيح باختيارهم. ومن هذا المنطلق لن تستخدم الولاية أدواتها وقواها على سبيل الإطلاق وبلا حدود.
    كما مرّ في الأبحاث الماضية، مقتضى حياة الإنسان هو أن تتبلور في الجتمع بعض القوى، ففي سبيل أن لا تأخذ هذه القوى منحى الظلم والطغيان، لابدّ من وجود قوة مركزية لكي تسيطر على جميع هذه القوى المتبلورة في المجتمع. وقلنا في سبيل أن لا تتورط هذه القوة المركزية بالظلم، لابدّ أن تكون معينة من قبل الله. الولاية هي القوة المركزية التي لا أنها لا تظلم الناس فحسب، بل إنها تحترم الناس وتحافظ على كرامتهم بدرجة عالية جدا.

    يتبع إن شاء الله...

    [1] مروج الذهب، ج2، ص355.
    [2] وقعة صفين، ص60.
    [3] صحیفه امام، ج21، ص331.


صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1 234 الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال