والعصر *إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وورد أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله كانوا إذا اجتمعوا لا يفترقون إلا بعد تلاوة سورة والعصر ويذكروا بعضهم البعض بمضمونها.سم الله الرحمن الرحيم
معنى كلمة والعصر ورد في تفسير قوله تعالى والعصر عدة معاني متعددة ذكرها المفسرون فقالوا: 1. قال علي بن ابراهيم في تفسير القمي :المراد بالعصر الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالة على القدرة الربوبية. 2. وقيل هو العيش وكلاهما فيه العبرة من جهة مرور الليل والنهار. 3. وقيل العصر هو الإلتجاء إلى الملجأ. 4. والعصران الليل والنهار، الغداة والعشي. 5. وقال الفيض الكاشاني يقول الإمام الصادق عليه السلام: العصر هو عصر خروج القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف و إن الإنسان لفي خسر يعني أعدائنا الذين ءامنوا بآياتنا وعملوا الصالحات يعني بمواساة الإخوان وتواصوا بالحق يعني بالإمامة وتواصوا بالصبر يعني بالعترة. 6. وقال الطباطبائي في الميزان الأنسب أن يكون المراد بالعصر عصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وهو عصر طلوع الإسلام على المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل. 7. وقيل المراد بها الصلاة الوسطى التي هي أفضل الفرائض اليومية. 8. وقال الزمخشري: وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. 9. ولعل المراد من الدهر والزمان اللذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية وذلك لأنه سبحانه جعل المقسم عليه كون الإنسان لفي خسر إلا طائفة خاصة ومن المعلوم أن خسران الإنسان إنما هو من تصرّم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده. 10. وقد أقسم الله تعالى مرة في الضحى فقال والضحى والليل إذا سجى ومرة قال والصبح إذا أسفر وهنا أقسم بالعصر لأهميته إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر فالأعمال اليومية تنتهي والطيور تعود إلى أوكارها وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ويستولي الظلام على السماء ويخلد الإنسان إلى الراحة. 11. وقال الأمثل كلمة العصر في الأصل تعني الضغط وإنما أطلق على وقت معين من النهار لأن الأعمال فيه مضغوطة ثم أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية أو مقطع زماني محدد كأن نقول عصر صدر الإسلام ولذلك وردت معاني عدة في معنى العصر 12. وقيل إنه كل الزمان وتاريخ البشرية مملوء بدروس العبرة والأحداث الجسيمة وهو عظيم يستحق القسم. 13. وقال آخرون إن كلمة العصر يعني الضغط فأقسم الله تعالى بالضغوط والمشاكل التي تحدث للبشرية وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده وتذكره بالله تعالى وتربي فيه روح الإستقامة. 14. وقيل هي الإشارة إلى الإنسان الكامل الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة. 15. وقال السيد الشهيد محمد الصدر {قدس} في تفسيره منة المنان وجوابه: حسب فهمي إن المعاني الأصليَّة للعصر في اللغة اثنان: أحدهما: الزمان في الجملة. ثانيهما: العصر بمعنى إخراج الماء, وهذا لم يخطر في أذهان المفسرين أصلاً. ثم ان الألف واللام, إما أن تكون عهديَّة وإما أن تكون جنسيَّة. فإذا التفتنا إلى المعنى الأول وهو الزمان، كان للاستعمال في السورة عدة معان حقيقيَّة أو مجازيَّة: المعنى الأول: الدهر,بما فيه من عجائب دالة على قدرته تعالى والألف واللام عهديَّة إلى مجموع الدهر. المعنى الثاني: حقبة من الدهر, وهذا هو الأنسب لغةً, ومعه قد تكون الألف واللامعهديَّة وقد تكون جنسيَّة, فهنا نفرض كونها جنسيَّة ويكون المقصود المعنى المطلق لحقب الدهر. المعنى الثالث: حقبة معينة من الدهر بالذات, وتكون الألف واللام عهديَّة، كل ما في الأمر أنها ينبغي أن تكون مهمة كعصر النبي أو عصر الظهور, أو عصربني أميَّة, أو عصر الغيبة الكبرى. وأهميته إما لحُسنه وعدله أو لسوئه. المعنى الرابع: وقت العصر من النهار وله أصل لغوي, ولكن ليس له أهميَّة تذكر, وعليهفتكون تلك قرينة على عدم أرادته وخاصة مع عدم انحصاره، كما هو معلوم. المعنىالخامس: ما يوجد في وقت العصر من الفريضة المعروفة, أعني صلاة العصر. وفيه:يحتاج إلى تقدير, والحمل على الحقيقة أولى بطبيعة الحال. فيكون ساقطاً من هذهالجهة. هذا كله بناء على المعنى الأول وهو الزمان. وأما إذا التفتنا إلىالمعنى الثاني, وهو إخراج الماء لم نجد للمعنى الحقيقي أهميَّة. وإنما ينبغي أننلتفت إلى المعاني المجازيَّة من حيث أن كل صعوبة بمنزلة العصر. ومن هنا يقال ضغطعليه, أي أحرجه. فبلاء الدنيا نحوٌ من الضغط على المؤمن لكي يتكامل. قال تعالى:[لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ][[1]]، فهذا البلاء يُطهره من الذنوب والعيوب. فكأن الماء الخبيث, يخرجمنه ليبقى بعده نظيفاً, طبقا لفطرة الله الأصليَّة [الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا][[2]], وهيطاهرة ما لم تنجسها الذنوب والعيوب. وهذا لا يختلف فيه الحال في الدنيا عن الآخرةسواء قصدنا صعوبات يوم القيامة أو عذاب القبر أو جهنم نفسها. فكلها نحو من الضغط والعصر. فإن كان المُراد من الألف واللام العهد, كان إشارة إلى بلاء الدنيا,وان كان المراد الجنس, شمل كلا الأمرين. وكلاهما يدلُ على عدل الله وحكمته وتدبيره, وبالتالي يستحق أن يُقسم به الله سبحانه, كما انه أنسب مع الخُسر الموعود به في السورة للإنسان. ولكن يمكن القول انتصاراً للمشهور الذي فهم الدهر بوجوه: أولاً: إنَّ فهم الدهر في الجملة حقيقي وفهم الضغط مجازي, والحمل على المعنى الحقيقي أولى. ثانياً: التناسب بين المعنيين المذكورين: الدهر والضغط من حيث أنه قد يرادمن المعنى الأول: الدهر السيئ وعصر البلاء, ويراد بالمعنى الثاني: البلاء الدنيويفيرجعان إلى محصل واحد. وكلا هذين الوجهين قابل للمناقشة: انتهى والتفاسير كلها غير متضادة ويمكن أن تجتمع كلها في معنى الآية ولكن الأهم هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية أو عصر الرسول الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام أو عصر ظهور الحجة المهدي المنتظر الذي يكون كل من لم يؤمن به قد خسر الدنيا والآخرة. {إن الإنسان لفي خسر} ان العبد ليخسر ثروته المادية شاء أم أبى فقد تمر الساعات والأيام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة حتى يدخل في هرم العمر, وتضعف قواه المادية والمعنوية وتتناقص قواه باستمرار فهو كشخص عنده ثروة عظيمة تتناقص باستمرار وهذه طبيعة الخسران المستمر في العالم. وان كان المراد من الآية الشريفة غير ذاك, والخسارة تستخدم أحيانا في عمر الإنسان وأحيانا في الخسارة المادية كخسارة التجارة في المال أو الجاه في الدنيا (تلك إذن كرةٌ خاسرة) وأيضا الخسارة في الصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب وهذا ما قال تعالى فيه (والذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) ،وكما يقول الإمام الهادي عليه السلام: الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون، فكل الناس في هذه الدنيا خاسرون إلا مجموعة تسير على المنهج الذي تبتنيه الآية التالية. وذكر السيد محمد الصدر راي {قدس} فإن قلت: كيف يخسر الإنسان نفسه, مع أننفسه لا تزول ولا تتبدل سواء كان في الجنة أو في النار. وجوابه: إنَّ الفرد إذامشى في طريق الحق واليقين, فهو يربح نفسه. كما ورد[[3]]: من عرف نفسه فقد عرف ربه,وذلك بأن يعرف نفسه الحقيقية وروحه العليا. وأما إذا مشى في طريق الدنياوالشهوات فإنه يخسر نفسه, أي يبقى جاهلاً بحقائق نفسه وروحه وملكاته الواقعيَّة. وشيء آخر ينفع للإيضاح في المقام, وهو بعض الماديين قالوا: إن تبدل الإنسان منشخصيَّة إلى شخصيَّة أو قل: من أسلوب حياتي إلى أسلوب حياتي آخر صعب بمنزلةالمستحيل, وأنا أعتقد انه صعب وليس بمستحيل, فالذي يغير عمله تتغير شخصيتهبالتأكيد فيكون معنى الذين خسروا أنفسهم, أي خسروا جانب الصلاح في أنفسهم. أو قل:الشخصيَّة الصحيحة والحقة والتي تتصف بالإخلاص واليقين. {إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} فالإنسان مقابل فقد المال وهو عمره يحصل على شيء أغلى وأثمن كما يقول الإمام علي عليه السلام واصفاً حال الإنسان في حياته (نفس المرء خطاه إلى أجله) فكل ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان إلى الموت ومن هنا لابد من المبادرة إلى ملئ الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي بالإيمان والعمل الصالح كما يقول الإمام علي عليه السلام:( إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في دعاء شهر رجب: خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلا لك، ومن هنا كان أحد أسماء يوم القيامة التغابن أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو مغبون وخاسر. فالله تعالى يشتري رأس مال وجود الإنسان ويشتري عمله القليل ويدفع مقال ذلك ثمناً عظيماً أحيانا يكون عشر مرات وأحيانا سبعمائة مرة وأحياناً في كل سنبلة مائة حبة وكما ورد في الأحاديث: يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، وذكر السيد محمد الصدر{قدس} في منانه: جوابه: إنَّالاستثناء { إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وأن لم يدل بصراحة على أنهم رابحون, ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربعةالشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح, مع أننا لو فرضنا أنهم ليسوا بربح, فالمضادةحاصلة أيضاً؛ لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء. وبتعبير آخر: إنَّ المدلولاللفظي ليس إلا استثناؤهم من الخسر, وليس لبيان أنهم في ربح. كل ما في الأمر إنهيمكن أن نستدل على أنهم في ربح بوجوه: أولا: لما قاله هناك من اتصافهم بهذهالصفات العظيمة وهي أنهم: [آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْابِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]. ثانياً: الملازمة فيالارتكاز المُتشرعي بين عدم الخسران والربح؛ لأن الأمر دائر بين الثواب والعقاب أوبين دخول الجنة ودخول النار ولا وسط بينهما, فإذا لم يكونوا في خسر بمقتضىالاستثناء فهم في ربح. ثالثاً: إنَّ هذه الأعمال مقدمة للربح, والله تعالى أكرممن أن يحجب عنهم مطلوبهم فيكونون رابحين لا محالة, وهذا هو الأقرب إلى ظاهر الآية؛لأنها واضحة في إعطاء الطريق والمنهج للخروج من الخسر الأساسي إلى الربح الأساسيوانحصار الطريق به, وهذا هو هدف السورة.انتهى منهج النجاة من الخسران الأصل الأول هو الإيمان وهو البناء التحتي لكل نشاطات الإنسان فذكرت الآية الإيمان بمعناه المطلق ليشمل الإيمان بكل المقدسات إبتداءً بالإيمان بالله تعالى والإيمان بيوم القيامة والحساب والجزاء والكتب السماوية والأنبياء وأوصياءهم. العمل الصالح: وهذا ثمرة الإيمان فلم تقل العبادات بل قالت الصالحات ولم تقل الجهاد أو الإنفاق أو الصلاة ولا طلب العلم بل تكلمت بشكل مطلق، وقد قرن الله تعالى في اكثر الأحيان الإيمان بالعمل الصالح لأنه لازم وملزوم فقال تعالى :( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة). ولإستكمال العمل الصالح نحتاج إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر أي الدعوة العامة إلى الحق لتمييز الحق من الباطل وتواصوا تعني أن يوصي الصالحون بعضهم بعضاً بذلك .
والحق له عدة معاني (القرآن- الإسلام- التوحيد- العدل- الصدق- الوضوح- الوجوب) وكلها ترجع إلى نفس المعنى الأصلي.
التواصي بالصبر والإستقامة فبدون الإستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحق والصبر له عدة معاني منها:
1. الصبر على الطاعة.2. الصبر على دوافع المعصية.
3. الصبر في المصائب والحوادث. 4. الصبر في فقدان الإمكانات والثروات.
كلمة الحق في القرآن الكريم :وردت كلمة الحق في القرآن الكريم في مواضع عديدة ولكن مع كثرة ورودها في القرآن الكريم إلا أننا نستطيع أن نقول بأنها في جميع الآيات الواردة تتكلم عن إحقاق الحق وبيان الصواب في مقابل الباطل والخطأ ومن أجل بيان ذلك كتبت بعض الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة الحق لتكون معانيها واضحة للقارئ الكريم.
1. (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق و أنتم تعلمون) البقرة 42 2. (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) البقرة 147 3. (إنّ هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله ...) آل عمران 62 4. (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) آل عمران 71 وذكر السيد محمد الصدر{قدس} في تسيره :
سؤال: فما هي الحاجة إلى التقيد بالتواصي{ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}؟
وورد[[4]]: نيَّة المؤمن خير من عملهونيَّة الكافر شر من عمله, إذن فالأمر الأساسي هو نظافة الباطن, وبأيِّ معنىً فسرنا الحقيكون المطلب ضرورياً.
والحق وحده لا يكفي, ولكن الاستقامة والصبر ضروري؛ لأنعدمه يلازم عدم الحق. فالصبر معناه استمرار الحق إلى الموت, ولذا ورد عنهم [[5]]: عليكم بالصبر, فان الصبر من الأيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسدلا رأس فيه ولا في إيمان لا صبر معه.
فإنَّ الذي يجزع من البلاء الدنيوي, أو منالارتداع من المحرمات, فإنه يكون مرتكباً للمعاصي لا محالة, وإذا جزع من الطاعاتأصبح تاركاً لها, فيؤول الأمر إلى الباطل والفسق, [بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ] [[6]].
ومعه فينبغي أن يستقيم المؤمن ويصبر ويصمد إلى حين موته, لكي يحشر علىالمستوى الذي مات فيه, فإنَّ الفرد يحشر على المستوى الذي مات فيه إن حقاً فحق وإنفسقا ففسق, ولا يفيده إنه كان مؤمناً سابقاً, ولكنه مات فاسقاً, فإنَّ هذا من الإيمانالمستودع, قال تعالى: [وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِيكِتَابٍ مُبِينٍ] [[7]].
والعمل الشخصي والصبر الشخصي لا يكفي, بللابد من (التواصي) بأن يوصي بعضهم بعضاً عن طريق الموعظة والتحذير والتذكير.ونستطيع أن نتصور مجتمعاً خالياً من ذلك, فكم سيكون فاسداً ومُتدنياًُ ويكونأفراده في خسر لا محالة.
[[1]]سورة الأنفال: الآية 42.
[[2]] سورة الروم: الآية 30.
[[3]] البحار: ج2, ص32, عن مصباح الشريعة.
[[4]] الوسائل ج الاول: ص35.
[[5]] نهج البلاغة: ج4, ص18, شرح محمد عبده.
[[6]] سورة الحجرات: الآية 11.
[[7]] سورة هود: الآية 6.