القطب الواحد وأمركة العالم :ــــ
اعتاد العالم، ومحيط العلاقات الدولية على التعامل مع معادلة توازن دولية قائمة على ثنائية القطبين أو القوتين، ولأكثر من أربعين عاماً، وبين ليلة وضحاها، انفرط عقد هذه المعادلة، وانهار جدار برلين الذي أحدث زلزالاً مدوياً نجم عنه انهيار نظم سياسية، وتفكك أكبر حلف عسكري، لا بل تشظّي أكبر دولة في العالم، إلى جمهوريات متعددة في غضون أشهر معدودة، حتى إنه لم يتردد البعض في الحديث عن ولادة عالم متعدد الأقطاب، وعودة دور الأمم المتحدة فاعلاً دولياً بعد تهميشها في حفظ الأمن والسلم الدوليين طبقاً لنصوص ميثاقها، وإن هذه الفترة الجديدة سترى "عاماً أفضل تركيباً وتنظيماً"، و"سيادة المنطق الإقليمي للصراعات والذي كان سابقاً مجمداً ومستوعباً بفضل الرفاهية التي كان يمارسها القطبان، وكل في منطقة نفوذه".
إلا أنه سرعان ما تبددت هذه الأفكار أو حتى "التمنيات" في عالم أكثر أمناً واستقراراً، وبدأت تكتشف ملامح عالم جديد، مرتكز على قطب أحادي الجانب، اعتبر نفسه "المكوّن الذي لاغنى عنه للاستقرار الدولي" و"مصدر المؤسسات الديمقراطية في كل أنحاء العالم، والضامن لها"، و"حكماً على نزاهة الانتخابات الأجنبية"، يفرض عقوبات اقتصادية، أو ضغوطاً أخرى إذا لم تستوف معاييرها".
وقام هذا القطب بنشر قواته العسكرية على مساحة العالم من سهول أوروبا الشمالية إلى خطوط المواجه في شرقي آسيا، وشكل الأداة أو الأذرع لأكبر عمليات تدخل عسكري باسم "حفظ السلام" و"ردع العدوان"، إذا إن "الانتصار في الحرب الباردة يغري بالزهو"، وبالاعتقاد بالهيمنة الأمريكية على العالم.
وعندما تطرح الولايات المتحدة الأمريكية نفسها باعتبارها القطب الأوحد أو القوة الخارقة
Hyper Puissance))، بحسب المفهوم الذي طرحه وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين عندما وصف الولايات المتحدة بذلك، فإن ذلك يرجع إلى فلسفة دينية ثالوثية مقدسة، نهضت قوام الثلاث الإغريقية الرومانية واليهودية المسيحية والوضعية العلمانية. وتداخلت دوائرها وتكاملت حلقاتها عبر مسيرة معقدة كانت المرتكز الرئيس للحضارة الغربية البيضاء... الذي تكونت فيه أمريكا. ولذلك، فإن عقدة التفوق الحضاري الغربي، أو المركزية الغربية التي تم التطرق إليها، وما تمخضت عنه من مفهوم "أوربة العالم" الذي يعبر عن "حلم سيادة الجنس الأبيض "الأوروبي" على العالم, وما رافقه من مشروع استعماري اندلعت بسببه حربان عالميتان، انقطع إلى بروز تصور أو "حلم" آخر، هو "أمركة العالم"، أي سيادة القيم والمعاير السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والحقوقية، الأمريكية، وذلك، في إطار دورها التاريخي ورسالتها الحضارية في المجتمع الدولي والضامن الرئيس للتنظيم الدولي، إلى درجة أن القوانين التي يصدرها الكونغرس غدت أكثر فاعلية وتأثيراً وسرعة في التطبيق، وذات شمولية تتجاوز الإطار الوطني الأمريكي، إلى المجال العالمي، وأكثر قوة حتى من القرارات التي يصدرها مجلس الأمن الدولي.
وإذا كان هنري كيسنجر قد أكد أن الولايات المتحدة كانت ومازالت القوة المحركة التي توفر الدينامية المحركة للعولمة، وهي المستفيد الأول من القوى التي أطلقتها، إلى درجة أن النموذج الأمريكي لإدارة الاقتصاد هو المعيار في معظم البلدان، وأصبحت السوق الحرة هي السائد في كل مكان تقريباً، فإن الأطروحات العشر التي عرضها المفكر العربي محمد عابد الجابري، عن العولمة، قد أكدت في رابعها أن العولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضاً، وبالدرجة الأولى، أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم، إذ ينظر إليها في المجال السياسي من زاوية الجغرافيا (الجيوبوليتيك) التي تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع. وإنها دعوة لتبني نموذج معين، تعكس مظهراً أساسياً من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا. وهي أيضاً أيديولوجيا، تعبر بصورة مباشرة، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته.
وإذا كان هناك من يفرق بين العولمة باعتبارها ظاهرة مستقلة وبين النفوذ الأمريكي، أو الأحادية القطبية، فإن هذا التمييز أصبح من الصعوبة بمكان، وبخاصة أنه كما سبق وأكد كيسنجر أن الولايات المتحدة هي القوة المحركة للعولمة، يؤكد بول سالم أيضاً، أنه بات من الصعوبة وضع هذا التمييز، وبخاصة بعد أن أضحت العولمة شكلاً من أشكال الأمركة العالمية. هذه الأمركة متأتية من كون الولايات المتحدة تشغل حالياً مركزاً مهيمناً في النظام العالمي، وفي مجالات السياسية والأمن والاقتصاد والثقافة، فبعد الحرب الباردة، وانكفاء موسكو إلى الخلف، لم يعد هناك سوى مركز واحد، هو مركز القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية، المستندة إلى إستراتيجية عسكرية عامة هي إستراتيجية التورط العالمي أو الهيمنة العالمية، لمواجهة التحديات والأخطار التي تهدد هذه الهيمنة، أو تزعّمها مركز المنافسة العالمية، باعتبارها القوة الأولى، والتي تسيطر على الهيكل الأمني والعسكري للعالم.
ولكن مقابل ذلك، أيضاً، فإن هناك من يرى أن الأمركة ليست التوظيف الوحيد لظاهرة العولمة، وثمّة خلط كبير بين العولمة والأمركة، إذ يشير الأستاذ موسى الأشخم إلى أنه إذا كانت العولمة تعني تغليب الشأن العالمي على الشأن المحلي لكل بلد على حدة، وتعني الأمركة تغليب الشأن الأمريكي على الشأن المحي لكل بلد على حدة، فإن بغية حل هذه الإشكالية يدعونا إلى تلمس التصورات المفاهمية لكل من العولمة والأمركة حيث المفهوم الواقعي للعولمة، والمفهوم المستقبلي، والمفهوم الأيديولوجي، والعولمة نفسها بوصفها أداة للحرب الباردة، الأمر الذي يجعله يصطف مع الذين ينظرون إلى العولمة على أنها الأمركة في كل آلياتها ومجالاتها.
وفي هذا الصدد، يقول فريد زكريا، الكاتب الأمريكي ذو الأصل الهندي، إن الولايات المتحدة أقوى من أي دولة أخرى في التاريخ، وعملت على تعطل "القانون التاريخي" في تكتل الدول من أجل هزيمة القوة المهيمنة لإفراطها في استخدام القوة، مشدداً على أنه من دون الزعامة والقيادة الأمريكية، سوف لن يكون هناك إلا عالم تسوده الفوضى وعدم الاستقرار. حتى أوروبا، إذا لم تتطابق سياساتها وتتماثل مواقفها مع السياسات والمواقف الأمريكية، فإنها بذلك تهدد السلام والأمن الدوليين، حيث جهود الولايات المتحدة واضحة في هذا المجال.
وهذا القول لا يختلف كثيراً عما صرح به صموئيل هانتنغتون عام 1993، عندما أكد أن "عالماً من دون سيادة الولايات المتحدة سيكون عالماً أكثر عنفاً وفوضى وأقل ديمقراطية، وأدنى في النمو الاقتصادي من العالم الذي يستمر تأثير الولايات المتحدة فيه أقوى من تأثير أي دولة أخرى على صياغة الشؤون العالمية. إن السيادة الدولية المستدامة للولايات المتحدة ضرورية لرفاهية وأمن الأمريكيين ولمستقبل الحرية، والديمقراطية، والاقتصاد، المنفتح والنظام الدولي في العالم".
في الواقع، إن الولايات المتحدة، ومن أجل أن تعطي لهيمنتها الصبغة الشرعية لجأت إلى تفسير وتأويل قواعد القانون الدولي، والمواثيق الدولية بالشكل الذي يبرر سياستها الخارجية. وإذا ما اصطدمت بجدار المعارضة، فإنها تعمل على تعطيل هذه المبادئ الدولية، وهذا ما جسّده إعلان المبادئ الذي نشره المحافظون الجدد عام 1997 تحت عنوان: "القرن الأمريكي الجديد"، والذي تضمن المبادئ الآتية:
1- إحكام السيطرة على العالم وتصدير القيم الأمريكية له.
2- حرمان القوى الكبرى من ممارسة أي دور إقليمي أو دولي.
3- تجاوز المؤسسات أو المنظمات الدولية في الحال التي تقف فيها عائقاً أمام تحقيق الطموحات الأمريكية.
وإذا كانت هذه هي الأسس التي تستند إليها القوة الأحادية الجانب وتحكمها بسلطة القرار السياسي الدولي، فإنه من دون هذه الأسس لا يمكن للعولمة أو "الأمركة" أن تأخذ طريقها الشمولي الكوني، ولا يمكن لها أن تحقق بكل آلياتها ومضامينها الأمن من خلال القوة العظمى، وبخاصة إذا أمعنا النظر، فإنه بقدر ما يوجد هناك جوانب إيجابية في العولمة، إلا أن جوانبها السلبية أو تداعياتها الأخرى من شأنها أن تعمل على الإقصاء والتهميش والذوبان في ثقافة واقتصاد وأمن القوى الكبرى، وكل من يتحدى ذلك، فإنه على مستوى الدولة يعدّ دولة "مارقة" أو "شريرة"، وعلى مستوى الأفراد، فإنهم يعدّون "إرهابيون".المصدر: كتاب تأثير الخلافات الأمريكية- الأوروبية على قضايا الأمة العربية