اطفالهم ورود … أطفالنا أرقام !

20-04-2013 01:24 PM

عمـاد رسن

مارتن ريتشارد، طفل يبلغ الثامنة من عمره، قضى في التفجيرات التي ضربت مدينة بوسطن الأميركية وهو يحييَ والده الذي كان بين المتسابقين في الماراثون. لقد ملأت صورة هذا الطفل وسائل الإعلام الأميركية، فهو ضحية التخلف والهمجية والتطرف الذي يضرب العالم. رحل مارتن لكن قصته لن تنتهي، لقد أنشأ محبوه صفحة له على الفيسبوك ليتبادلوا آخر أخبار الانفجارات ولتقديم التعازي لذويه.
انتشرت أيضا صور مارتن الأخرى، كصوره في البيت والمدرسة وصورة تحمل لافتة تدعو للسلام. وسيتولى ذوو مارتن مسؤولية إنشاء منظمات تدعو إلى تحييد الأطفال في النزاعات المسلحة، وسيجمعون الأموال باسمه لمساعدة الأطفال المصابين جراء العمليات الإرهابية. سيصبح مارتن أكثر من نجم بعد وفاته، حينما يستغل السياسيون الأميركيون صوره في دعايتهم الانتخابية وفي إعلاء شأن الصقور في محاربة الإرهاب، وربما سيكون له شارع باسمه أو مدرسة أو تمثال في مكان الانفجار. المهم، سيكون مارتن حاضرا في أذهان الأميركان والعالم كشاهد على هجمة شرسة ضد مجتمع آمن.
لنذهب إلى الجهة الأخرى من العالم، حيث تزامنت تفجيرات بوسطن التي راح ضحيتها ثلاثة أشخاص مع تفجيرات ضربت مدن عديدة في العراق، وراح ضحيتها العشرات من القتلى والمئات من المصابين. من بين كل أولئك الذين ماتوا في الانفجارات الإرهابية بسيارات مفخخة في العراق كان هناك أطفال كثر، لا أعرفهم مطلقا وسوف لن أتذكرهم بعد أيام. ربما هناك صورة عالقة في ذهني من تفجيرات حدثت قبل أسابيع حين شاهدت طفلا عراقيا ينظر بدهشة للأطباء وهم يحاولون مساعدته بقطع أقدامه بالمقص بعد أن حولهما الانفجار إلى أشلاء. لا أعرف اسم الطفل ولا مقر سكناه، فقط صورة بقت عالقة في الذاكرة. لم أشاهد الورود تحيط بالطفل بعد انتهاء العملية وهو ممدد على سرير المرض، ولا حتى صور أخرى لقدميه التي كانتا سالمتين قبل الانفجار ولا حتى مرت عليّ صفحته الشخصية التي ربما أنشأها بعض المتضامنين معه.
الملفت أن مقتل العشرات وإصابة المئات بتفجيرات يومية في العراق لا تظهر على صفحات الصحف العالمية والعربية، إلا إشارة بخبر هامشي وكأنه شيء اعتيادي يحدث كل يوم، إذ يستحق هؤلاء القوم الموت بهذه الطريقة بعد أن اختفت أسمائهم وصفاتهم وصورهم من عناوين الصحف.
كل يوم تتعزز لدي قناعة بأننا، كعراقيين، مجرد أرقام مرسومة على خريطة هذا الوطن الذي يشبه فريقا لكرة القدم، فحين يصاب أحد اللاعبين يدخل لاعب آخر برقم مختلف، أو حتى بنفس الرقم فمن يأبه، المهم أن تستمر المباراة. لا تتوقف المباراة أبدا من أجل لاعب مصاب، فلدينا والحمد لله لاعبين كثر في الاحتياط، ولدينا أيضا منتخب أولمبي ومنتخب للشباب والناشئة وفي بطون الأمهات، كلهم جاهزون للعب حين يصاب لاعب ما. المهم أن تستمر المباراة حتى لو استمرت إصابة اللاعبين واحدا تلو الآخر، فلدينا كثر منهم وهم يشكلون عبئا على الدولة والمجتمع واستبدالهم بآخرين ستكون فكرة رائعة.
لهذا السبب، لم ولن تتوقف المباراة من أجل رقم خرج، فهي مجرد فانيلة يمكن استبدالها بأخرى ووضع نفس الرقم عليها. المهم أن تستمر المباراة ليعيش آخرون كالسياسيين والمنتفعين والمضاربين والتجار والمدربين واللاعبين. لا يهم، سوف لن تتوقف الحياة في العراق بعد انفجار سيارة مفخخة قتلت أربعين فردا، فنحن أبطال كما يصورنا الإعلام حيث نكنس الشوارع بعدها بكل أريحية وننظف السواقي من بقايا الدماء، ونضحك بعدها أو نتداول مزحة، المهم أن الحياة لاتتوقف! ولماذا تتوقف وقد ذهبت أرقام وأتت أرقام غيرها تعمل بنفس المكان بعد ساعة من الانفجار، فلا تتوقف الحياة على فرد أو حتى مئة ألف فرد.
رحل مارتن وسوف يعرف العالم من هو وماذا كانت أحلامه الصغيرة وآماله الكبيرة، وسيعرف الناس أين سافر وماذا كان يأكل، وسوف تتعطل المدرسة من أجله يوم أو يومين وربما مدارس الولايات المتحدة وبعض الدول في العالم سيقفون دقيقة صمت على موت مارتن. لم يكن موته حدثا طبيعيا ولهذا على كل الناس أن تعرف أنه أراد عندما يكبر أن يصبح طبيبا يعالج المرضى بلا ثمن أو يصبح طيارا يحارب الأشرار في كل مكان.
لقد أريد لمارتن أن يكون مرئيا ليس في وسائل الإعلام الأميركية والعالمية فحسب، بل في صفحات التاريخ ليكون شاهدا على همجية الهجوم الذي كان يستهدف الأبرياء والأطفال، وشاهدا على فشل أجهزة الأمن والشرطة الأميركية بأن تحمي طفلا من تلك الهجمة الشرسة، حيث على الشرطة أن تعيد إستراتيجياتها في مكافحة الإرهاب.
أما الطفل الذي قطعت ساقاه إثر انفجار سيارة مفخخة في العراق، فلم تتوقف المدرسة من أجله، ولا تعرف الحكومة به لأنه عندها رقم من أرقام الضحايا، ولن يعرف أحد أحلامه وآماله، ولا يعرف أحد اسمه وعنوانه، لكنه ترك في النفوس أثرا بنظرته التي تعبر عن الدهشة وهم يقطعون جزءا من جسده.
لقد أريد لهذا الطفل أن يكون مخفيا، لا مرئيا لوسائل الإعلام ولباقي مؤسسات الدولة والمجتمع، أريد له أن يكون حدثا من الماضي كباقي الأحداث التي تمر ولا نعيرها أهمية. لقد أريد لهذا الطفل المقطوع الساقين الملطخ الوجه بالدم أن يكون رقما فحسب، كي لا يذكره المجتمع ليشعر بالألم من أجله، فعندنا من الآلام ما يكفي. ولكي لا يذكر مؤسسات الدولة بفشلها وخيبتها في عدم حمايته، لأنه سيفرض عليها أن تعيد النظر بخططها وإستراتيجياتها في مكافحة الإرهاب، وهي لا تريد ذلك لأن هناك من الفاسدين والمنتفعين من ظاهرة الإرهاب. ذلك الطفل هو رقم من الأرقام التي يمكن أن تعوض برقم آخر، لكنه فضحهم بنظرته الغريبة التي تترك أثرا في قلب وعقل كل من يشاهدها!




الغريبة