صديق مؤسس
صاحبة الامتياز
تاريخ التسجيل: January-2010
الدولة: البصرة
الجنس: أنثى
المشاركات: 27,178 المواضيع: 3,882
صوتيات:
103
سوالف عراقية:
65
مزاجي: هادئة
أكلتي المفضلة: مسوية رجيم
موبايلي: Iphon 6 plus
آخر نشاط: 5/August/2024
أثرُ القرآنِ الكريمِ في الحِفاظِ عَلَى أَصَالَةِ اللغةِ العربيةِ
أثرُ القرآنِ الكريمِ في الحِفاظِ عَلَى أَصَالَةِ اللغةِ العربيةِ
ألقي في المؤتمر العلمي الخامس المنعقد في كلية الفقه في النجف الأشرف / جامعة الكوفة للفترة 5 ـ 7 جمادى الأولى 1410 هـ = 3 ـ 5 / 12 / 1989 م ، تحت شعار « العروبة والاسلام من منظور معاصر » وانعقد المؤتمر في قاعة الإدارة المحلية المجاورة للكلية في النجف الأشرف .
القدرة البيانية في نصوص القرآن الكريم ، تجاوزت حدود المعرفة الانسانية العجلى ، حتى عادت ضرباً من الاعجاز ، وسنخاً جديداً من البيان العربي الذي لا يدانيه نصٌ أدبي .
الفن القولي في كلام العرب ، ذو أصناف ثلاثة : شعر ونثر وقرآن ، الشعر بما تدرج عنه من قصائد ومقطّعات وأبيات وأراجيز وشواهد ، والنثر بما تفرع عنه من قصص وحكايات وأساطير وأمثال وخطب وأسجاع ورسائل ، والقرآن وإن اشتمل على بحور الشعر كافة ، وتمثلت به أرقى نماذج النثر الفني بعامة ، إلا أننا لا نستطيع أن نسميه شعراً ، كما لا نستطيع أن نسميه نثراً ، لأنه ليس هذا وذاك ، بل هو قرآن وكفى .
والقرآن اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله تعالى كما يراه الشافعي ويرجحه السيوطي وعليه أئمة الأصوليين (1) .
وقد يكون مشتقاً من القراءة ومرادفاً لها باعتباره مصدراً (2) . وقد يكون مشتقاً من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضاً ، ويشبه بعضها بعضاً كما يراه الفراء (3) .
وقد يكون معناه القراءة في الأصل ، أو مصدر قرأت بمعنى تلوت ، وهو المروي عن ابن عباس (4) ومنه
قوله تعالى : ( إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرءَانَهُ *
____________
(1) ظ : السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 1 / 51 .
(2) ظ : محمد عبد الله دراز ، النبأ العظيم : 7 .
(3) ظ : الألوسي ، روح المعاني : 1 / 11 .
(4) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 1 / 14 .
فَإِذَا قَرأنَهُ فَاتَّبِع قُرءَانَهُ * ) (1) ثم نقل من هذا المعنى وأصبح إسماً لكلام الله تعالى ، ولا نميل إلى ما رجحه بعض المحدثين من أن العرب عرفوا القراءة لا بمعنى التلاوة ، بل أخذوها عن أصل آرامي لذلك ، وكان ذلك كافياً لتعريبه ، وإستعمال الاسلام له في تسميته كتابه الكريم (2) : بل الله سماه بذلك : ( إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكنُونٍ * (3) وعلى ذلك لغة العرب دون أصل أجنبي (4) .
وقد سبق في لوح الغيب أن اللغة العربية أشرف اللغات وأنصعها ، فأختارها الله تعالى لأشرف كتبه ، حتى أثبتت الدراسات المعاصرة إمتياز العربية وأولويتها في سلامتها وفصاحتها وأصالتها ، وهي تنطلق من صحارى الجزيرة ، ومفاوز الحجاز ، مخترقة مناخها الاقليمي ، وبقعتها الجغرافية إلى بقاع العالم ، ضاربة بأطنابها صوب المغرب والمشرق ، مما عجزت عن تحقيقه اللغات الحية ، وقصرت عن تناوله فصائل اللغات السامية ، حتى هجر جملة من علماء الاسلام ألسنة لغاتهم الأصلية ، تمحّضوا للغة القرآن فاحصين وباحثين ، فذاع صيتهم في الآفاق ، واشتهروا باسم العربية .
وكان القرآن الكريم أصل إفتتانهم بلغة العرب ، وأسلوبه مصدر حياتهم اللغوية المتنوعة ، فتعددت المعارف ، وتفتحت المدارك ، فكانت الإسهامات الحضارية ، والنقلة الثقافية تغزو المجتمعات والامم والشعوب والقبائل ، وتحرر العقول والذهنيات والألباب ، قال ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) : « إنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره ، واتسع علمه ، وفهم مذاهب العرب وإفتنانها في الأساليب ، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات » (5) .
وكانت لغة قريش هي الأصل الذي نزل به القرآن على أفصح قريش
____________
(1) القيامة : 17 ـ 18 .
(2) صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 12 .
(3) الواقعة : 77 ـ 78 .
(4) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : مادة : قرأ .
(5) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 11 .
فيما نسب إليه « أنا أفصح العرب بيد أني من قريش » (1) فكانت هذه اللغة مصونة بالقرآن ، ومحفوظة به ، نتيجة تضافر جهود علماء العروبة والاسلام في نفي الشوائب ، ودرئ الأخطار حتى سلمت هذه اللغة من التدهور والانحطاط اللذين عرضا لجملة من لغات العالم ، وعلى العكس من ذلك فقد إرتفعت لغة القرآن عن مستوى الانصهار في غيرها من اللغات ، وإعتصمت بمخزونها عن الدخيل من الألفاظ ، وهي بين هذه وذاك تصارع حركات العامية ، وتدحض شُبه الانقضاض على التراث ، وتسمو عن مسيرة الإذابة بالرطانات الأعجمية واللهجات الاقليمية ، حتى كتب لها الخلود ببركة القرآن العظيم ، وظلت رمز الشموخ الوضاء .
لا أريد التوسع في هذا الملحظ ، ولا التأكيد على هذا الجانب ، فهما من البداهة بمكان ، بل أحاول الاشارة من خلال ثلاث ظواهر جديرة بلفت النظر العلمي ، كانت أساساً صلباً لحفاظ القرآن المجيد على أصالة العربية :
الظاهرة الأولى :
وتتجلى في تسيير القرآن الكريم لعلومه المثلى ، وفنون معارفه العليا ، مما أعطى ظاهرة ذات ذائقة جديدة ، ولجت أبواب الوعي العربي في التصنيف والتأليف والبحث الجدي والمتابعة الفذة من قبل فحول العلماء وعلية القوم ، وكان تفسير القرآن يمثل الشطر الاكبر من هذه الظاهرة ، فبدأت مصادره تتألق ، وموارده تتواكب ، فكانت مدرسة مكة المكرمة ، ومدرسة المدينة المنورة ، ومدرسة الكوفة في تفسير القرآن الكريم ، معلماً بارزاً من معالم رفد العربية بكل ما هو أصيل ومبتكر ، فكانت مدرسة مكة ، وهي أندر عطاء ، وأغلى قيمة ، تستمد قوامها من النبي وآله وأصحابه ، وكان قوامها النخبة الرائدة من أصحاب ابن عباس ( ت : 68 هـ ) وابن عباس نفسه ، ومولاه عكرمة ( ت : 104 هـ ) ومجاهد بن جبر ( ت : 103 هـ ) وأمثالهما من الرواد الأوائل
____________
(1) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : 60 .
وكانت مدرسة المدينة المنورة ، قد إمتازت بالتجرد والموضوعية ، والكشف عن مراد الله من كتابه ، فيما أثر عنها من روايات محددة ، وكان قوامها ثلاثة من أئمة أهل البيت هم : الامام علي بن الحسين زين العابدين ( ت : 95 هـ ) والامام محمد الباقر ( ت : 114 هـ ) والامام جعفر الصادق ( ت : 148هـ ) كما اعتمدت طائفة من تلامذة أبي بن كعب ( ت : 105 هـ ) وأصحاب زيد بن أسلم ( ت : 136 هـ ) .
وكانت مدرسة الكوفة غنية بعطائها الثّر في إتجاه تدريسي يمثله ابن مسعود ( ت : 32 هـ ) وجملة من تلامذته ، وفي طليعتهم مسروق بن الأجدع ( ت : 63 هـ ) والأسود بن يزيد ( ت : 75 هـ ) والربيع بن خثيم ، وعامر الشعبي ( ت : 105 هـ ) وأمثالهم .
وقد برز في الكوفة إتجاه نصّي يمثله تلامذة الامامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام نشأت عنه طبقتان تقيدت بنقل النصوص رواية وكتابة ، وكان في طليعة الرواة : زرارة بن أعين الكوفي ، وفي طليعة المؤلفين فرات بن إبراهيم الكوفي .
ولا ينسى دور مدرسة البصرة فيما أثر عن أبي عمرو بن العلاء ( ت : 145 هـ ) وعيسى بن عمر الثقفي ( ت : 149 هـ ) وقبلهما الحسن البصري ( ت : 114 هـ ) فيما أُصّلَ عنده من جهود تفسيرية منتشرة في أمهات التفاسير .
كانت هذه المدارس بما أبقت لنا من تراث تفسيري ضخم يعتمد الرواية حيناً ، والاستنباط العقلي حيناً آخر سبيلاً إلى نشوء حركة التفسير التسلسلي المنظم عند العرب والمسلمين فبدأ ذلك متكاملاً في محتوياته عند أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( ت : 310 هـ ) في تفسيره الشهير ( جامع البيان ) واستمر العطاء الجزل إلى اليوم حافلاً بتفسير القرآن بالقرآن ، والتفسير البياني ، والتفسير التشريعي ، والتفسير المعجمي ، والتفسير الموضوعي ، وكان البعد الاحتجاجي متوافراً في التفسير الكلامي والوعي الفلسفي ، والأثر العرفاني ، والمنهج الاشاري ، وكان المناخ العقلي يتقلب بين شؤون الجدل المنطقي ، وسمات الروح الصوفي ، فصقلت الحياة .
العقلية بمزيج من الآراء الكلامية يتخير من ثمارها العربي ما أراد .
وكان هذا الزخم الحضاري حرياً بطرح كل الفروض الفكرية في رحاب العربية ولغتها الفياضة ، فأنت معه في معين مترافد لا ينضب ، وشعاع متألق لا يخبو ، هذا كله إلى جنب علوم القرآن وما أورثته للعربية من التفتح على آفاق جديدة في ظاهرة الوحي ، وأسباب النزول ، وجمع القرآن ، وخضم القراءات ، وحياة النسخ ، ومجال الامثال ، وطرق التشريع ، وإرساء المصطلح في المحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، وما أضاف ذلك من تنظير فجائي في لغة الجدل ، وعالم الحجاج ، مما كانت معه العربية حافلة بقيّم خلاقة جديدة ، نوّرها القرآن في علومه حتى قال ابن مسعود :
« من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن » (1) . وتثوير القرآن يعني التدبر فيه ، والبحث عن جزئياته ، والعكوف على حيثياته الكبرى ، وفي هذا دعوة واضحة إلى الاجتهاد ، وإعمال الفكر مما تتسع له دائرة علوم القرآن في ميادينها عند رد الأصول إلى الفروع ، والنظم إلى متعلقات التركيب ، واللغة إلى جذورها في التصريف والاشتقاق .
وهكذا ظهر لنا التأريخ الحضاري المشترك بين اللغة العربية والقرآن الكريم مما شكل مظهراً إجتماعياً متلازماً ، فالحفاظ على اللغة يعني الحفاظ على القرآن ، وصيانة لغة القرآن يقتضي صيانة لغة العرب ، لارتباط وجودها التأريخي بوجوده التشريعي ، وأستمرار رقيها بلمح من إستمراره ، ولما كان القرآن الكريم ، معجزة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود متصل بينهما رغم عادية الزمن ، وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها . وهنا يتجلى أثر تيسير القرآن في تفسيره وعلومه بالكشف عن أسرار العربية وكنوزها دون عناء ومشقة (2) .
____________
(1) ابن الاثير ، النهاية في غريب الحديث : 1 / 229 .
(2) ظ : المؤلف ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : 38 .
الظاهرة الثانية :
وتبرز ملامحها في تيسير القرآن العظيم ، لمعالم اللغة ، ومعاني النحو ، ودلالة الألفاظ ، مما أوجد حركة لغوية دائبة ، وأصالة إعرابية متجددة ، نشأت عنهما مناهج اللغة من جهة ، ومدارس النحو من جهة أخرى .
فالمنهج اللغوي عند العرب مدين بإرساء قواعده لأصالة القرآن ، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : 180 هـ ) وسيبويه ( ت : 180 هـ ) والفراء ( ت : 207 هـ ) وأبو عبيدة ( ت : 210 هـ ) وابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) إنما كتبوا العين ، الكتاب ، معاني القرآن ، مجاز القرآن ، غريب القرآن ، فلأن رائدهم الحثيث إلى هذا التوجه هو العناية بلغة القرآن ، فكان مددهم بمعين المفردات والصيغ والتراكيب في اللغة والحجة والنحو والصرف والقراءات ، ألم يكن مضمارهم في الإبانة عن إستعمالات العرب ، وطرق بيانهم ، فابتنى الأصل اللغوي عندهم بكثير من أبعاده على الغريب والشكل والأوابد والشوارد في الألفاظ والكلمات والمشتقات مما كان أصلاً للبناء اللغوي والنحوي والصرفي ، فكان القرآن عندهم مظنة إستنباط القواعد لاستلهام الحجة إثر الحجة في ميدان المعرفة اللغوية ، وجلاء معاني مفردات العربية ، وكانت إستعمالات القرآن أساس الدربة في البحث عند تتبع غريب العربية ، وإستقصاء معجم ألفاظها اللغوية .
قال الراغب ( ت : 502 هـ ) : « فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته ، وواسطته وكرائمه ، وعليها إعتماد الفقهاء في أحكامهم وحكمهم ، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم » (1) .
وكان إستئناس أعلام العرب بمفردات القرآن دليلاً حافزاً لأعلام الأوروبيين في فهرسة ألفاظ القرآن بإطارها العلمي ، المنظّم ، فحينما تأصلت الفكرة عند المستشرق الألماني الأستاذ جوستاف فلوجل ( 1802 م ـ 1870 م ) ألف أول معجم مفهرس للقرآن في اللغة العربية عني بألفاظ القرآن ومفرداته ، وأسماه : « نجوم الفرقان في أطراف القرآن » وطبع لأول مرة عام
____________
(1) الراغب ، المفردات : 6 .
1842 م في لا يبزج ، وكان هذا العمل الجليل أساساً محكماً لما إعتمده الاستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في وضع : ( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ) (1) .
وقد إستأنس مجمع اللغة العربية في القاهرة بهذا المنهج الرائد ، فأصدر معجم ألفاظ القرآن الكريم في مجلدين ضخمين ، قام بإعداده جماعة من الأساتيذ والعلماء والمتخصصين ، فعرضوا لمفردات القرآن كافة ، فكان العمل أوسع ، والدائرة أشمل ، والأحصاء أكثر ، فكل كلمة ترد في القرآن تشرح شرحاً لغوياً ، ويحصر تردد ورودها في القرآن ، وينص على المعاني المختلفة للكلمة الواحدة ، ويشار إلى مجازية بعض المفردات ، كما يشار إلى مواطن الاستعمال الحقيقي .
أما مدارس النحو العربي فكان سعيها وراء ضبط قراءة القرآن وأدائه سليماً على النحو العربي الفصيح ، دون الوقوع في طائلة اللحن ، وتساهل العامة في القراءة ، ليسلم النص القرآني من التحريف والايهام معرباً بإبانة ، ومشرقاً بوضوح ، فبداية الضبط في نقط المصحف من قبل أبي الأسود الدؤلي ، أو يحيى بن يعمر العدواني ، أو نصر بن عاصم (2) إنما كان صيانة للقرآن من اللحن على حد تعبير النووي : « ونقط المصحف وشكله مستحبٌ لأنه صيانة من اللحن والتحريف » (3) . وبدأ التحوط على القرآن فيما وضعه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام من معالم النحو على روايات منها :
أ ـ حينما سمع إعرابياً يقرأ ( لاَّ يَأكُلُهُ إِلاَّ الخَطِئوُنَ * ) (4) ، فوضع النحو .
ب ـ حينما دخل عليه أبو الأسود على الامام علي عليه السلام فوجد في يده رقعة ، يقول أبو الأسود ، فقلت : ما هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني
____________
(1) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : 62 .
(2) ظ : ابن عطية ، مقدمتان في علوم القرآن : 276 + الزركشي ، البرهان : 1 / 250 .
(3) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن .
(4) الحاقة : 37 .
تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الاعاجم ، فأردت أن أضع شيئاً يرجعون إليه ، ويعتمدون عليه ، وإذا الرقعة فيها :
الكلام كله : اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبئ به ، والحرف ما أفاد معنى . وقال لي : أنحُ هذا النحو ، وأضف إليه ما وقع إليك » (1) .
ومهما يكن من أمر فإن الاستاذ أحمد أمين يميل إلى أن شكل المصحف في نقطه وإعجامه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء ، يمكن أن تأتي من أبي الأسود (2) .
والحقيقة أن اللحن في قراءة القرآن ـ بعد أن اتسعت رقعة الاسلام ـ كان سبباً مباشراً في تأسيس النحو العربي ، حتى روي لنا لحن الحجاج والحسن البصري (3) .
وكانت البداية التأسيسية ـ بالاضافة إلى ما سبق ـ على يد البصريين حينما ألف عبد الله بن أبي إسحاق ( ت : 117 هـ ) كتاباً في الهمز (4) .
وتبعه عيسى بن عمر الثقفي ( ت : 149 هـ ) فألف كتابين هما : الأكمال والجامع (5) .
حتى إذا نبغ الخليل ( ت : 175 هـ ) وأخذ بزمام الدرس النحوي ، قامت مدرسة البصرة في النحو على يديه ، ونشأ مترعرعاً في ظلال توجيهه تلميذه سيبويه ( ت : 180 هـ ) فأتسمت ملامح المدرسة بمناهجه ، وتأصلت مسائلها بفضله ، فكان « الكتاب » أول أصل مدرسي جمع مادة النحو العربي ، وكان منهجه متأثراً بالقرآن الكريم جزئياً في توجيه الاعراب حيناً ، وتيسير القواعد حيناً آخر ، لأن القياس هو الأولى عند البصريين ، وإن كان
____________
(1) ابن الانباري ، نزهة الالبا : 4 ـ 7 .
(2) أحمد أمين ، ضحى الاسلام : 2 / 286 .
(3) ظ : الجاحظ ، البيان والتبيين : 2 / 219 .
(4) ظ : السيوطي ، المزهر : 2 / 398 .
(5) ظ : ابن النديم ، الفهرست : 68 .
الهدف تقويم اللسان العربي عن اللحن والخطأ ، للحفاظ على سلامة القرآن الأدائية .
حتى إذا نشأت مدرسة الكوفة على يد أبي جعفر الرؤاسي ( ت : 148 هـ ) وتلميذه النابه علي بن حمزة الكسائي ( ت : 189 هـ ) وأشهر تلاميذ الكسائي : يحيى بن زياد الفراء ( ت : 207 هـ ) ، كان الاستناد إلى القرآن أكثر شيوعاً والاستدلال بشواهد من آياته أرحب مجالاً ، لأن الكوفيين « يؤمنون أن القرآن جاء بلغات فصيحة ، فهو أحق بالقبول ، وأجدر بالأخذ ، حينما تبنى قاعدة ، أو يقرر حكم ، أو يصحح أسلوب » (1) .
فكان عمل الكوفة في ظواهر الكتاب حيناً ، وفي القياس النحوي حيناً آخر ، وليتهم إكتفوا بالشاهد القرآني وحده ، ولم يخضعو لسلطان القياس ، لكان القرآن هو المرجع ليس غير .
إن نشوء هاتين المدرستين في ظل العلم العراقي الفياض ، كان هو الأساس لسلامة اللغة العربية ، وعليه سار المتأخرون من النحاة ، فكان الثروة الطائلة في كل زمان ومكان ، لأن مصادر الدرس النحوي في تفتقت عنهما ، وهما وحدهما موارد هذا العلم لمن أراد الإستزادة ، وكان الدافع الحقيقي وراء هذه الجهود المترامية الأطراف هو الدفاع عن القرآن ، وصيانة التراث من الهجمات المضادة ، وإبقاء العربية علماً شامخاً في حياة اللغات .
الظاهرة الثالثة :
وتتجلى مظاهرها في حياة البلاغة العربية ، فقد نشأت البلاغة العربية في أحضان الاعجاز القرآني ، وتلألأ نجمها في قضايا البيان في القرآن ، فكان الجاحظ ( ت : 255 هـ ) من أوائل من أكدوا هذا الجانب في جملة من أسراره الجمالية ، فخصص كثيراً من مباحثه في « نظم القرآن » لاستيفاء كنوز العبارة القرآنية ، وإستخراج ما فيها من مجاز وتشبيه بمعانيهما الواسعة ، وكذلك صنع في « البيان والتبيين » فتجد المجاز إلى جنب الكناية القرآنية ،
____________
(1) عبد العال سالم مكرم ، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية : 123 .
والاستعارة مستقاة من تشبيهات القرآن ، وعمله هذا وإن كان مفرقاً ومجزءاً إلا أنه كان مناراً لمعالم الطريق .
حتى إذا جاء ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) وجدناه يؤكد دلائل مادة علمي المعاني والبيان في صدر كتابه « تأويل مشكل القرآن » مستنداً إلى التنظيرات البلاغية من القرآن في ضوء طرق القول ومأخذه عند العرب في الاستعارة والتمثيل والقلب التقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ، مما أورده مستنيراً بآيات القرآن ودلائله في أبواب المجاز (1) .
وكان علي بن عيسى الرماني ( ت : 386 هـ ) في « النكت في إعجاز القرآن » وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : 388 هـ ) في « بيان القرآن » وأبو هلال العسكري ( ت : 395 هـ ) في « الصناعتين » وأبو بكر الباقلاني ( ت : 403 هـ ) في « إعجاز القرآن » والسيد الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) في « تلخيص البيان في مجازات القرآن » قد استمدوا من كتاب العربية الأكبر روافد الاعجاز البياني ، وروائع الفن البلاغي ، فتلمس آثار قضايا الاعجاز ، وتلمح بصمات كتاب الله في ثنيات جوهر البلاغة وأساسها ، والتدوين المشترك بين أصول البلاغة وشواهد الآيات يعطيك نماذج التطبيق .
فإذا استقريت جهود عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) تجده بحقٍّ مؤسس الفن البلاغي ، ومشيد أركانه في ضوء القرآن العظيم ، فالفاحص لكتاب « دلائل الاعجاز » يلحظ مباحثه منصبَّة بسيولها المتشعبة حول علم المعاني بكل تفريعاته الجمالية والاسلوبية ، والمستقري لكتاب : « أسرار البلاغة » يجده متخصصاً بعلم البيان وصوره كافة ، باستثناء الكناية التي قدم عنها بحثاً مفصلاً في الدلائل .
إن الجزئيات التي أثارها عبد القاهر ، والأبواب التي أستوفى الحديث عنها ؛ تعدّ بحق الحجر التأسيسي لمفاهيم علم البلاغة مستمدة من القرآن ؛ في المستوى التطبيقي والنظري ، وهو بذلك الفكر المخطط الرائد لجملة هذه الأفكار ، والمنظّر المتمكن من هذا الفن .
____________
(1) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 15 .
من خلال هذا الاختصار فيما قدمت ، تجد التفاعل الحضاري قائماً بين كتاب الله وعلم البلاغة العربية الذي هو جزء متسلسل عن القرآن ، ويتعرف الباحث بتأكيد بالغ أن هذا العلم إنما قام ونهض وترعرع ـ فضلاً عن نشوئه ـ من أجل إثبات بلاغة القرآن ، فكل بلاغة دونها ، وكل بليغ لا يصل إليه ولا يواكب تلاطم أمواجه ، مما يدفع ما وسم به هذا التراث العربي الاسلامي المحض من سمات لا أساس لها ، فلا الأصل اليوناني ينطلق من واقع علمي ، ولا الأثر الاعجمي بحقيقة تأريخية ، بل البلاغة في أصولها وفروعها وتضاعيفها مستندة إلى القرآن في ينابيعه الأولى ، فالعربي على فطرته البدوية الصافية تهزه الكلمة العذبة ، وتطربه العبارة الفصيحة ، وتمتلك نفسه الاستعارة الهادفة ، وتسترعيه الكناية المهذبة ، ويستهويه التشبيه المعبر ، ويقف عند المجاز السيّار ، وكان ذلك من بركات القرآن وجليل آثاره البيانية ، وسبق فنه القولي فنون العرب في الأداء والاسلوب والنظم ورصانة التأليف .
لقد بهر العرب بجمال القرآن وروعه ، ونظروا إلى التغيير الجذري الذي أحدثه هذا الوحي الهادر ليس في العادات المفاهيم والتقاليد فحسب ، بل في القول وفنون الكلام والنظم البياني ، فقد نظروا إلى لغتهم وهي تتجه ـ فجأة ـ نحو الاستقامة والاستقرار والصعود ، فحدبوا على عطاء هذه اللغة يختزنونه ، وعمدوا إلى مرونتها يستغلونها إستغلال يسر وسماح ، فكان هذا المخزون جمالاً بلاغيَّا لا يبلى ، وكان ذلك الاستغلال موروثاً بيانياً لا ينفد ، وما ذاك إلا نتيجة إستجلائهم دلالات القرآن الادبية ، وتغلغلهم بأعماق فنونه البلاغية ، فالقرآن إلى جانب عطائه اللغوي والاسلوبي قد خلص اللغة من فجاجة الوحشي والغريب ، وهذّب طبع ألفاظها من التنافر والتعقيد ، فلم يعد العربي بعد بحاجة إلى إقصاء ذلك وإستبعاده ، فكأنه لم يكن ، فقد تكفل القرآن بتذليل الصعاب .
العرب اليوم مدعوون إلى تأكيد هذا التلاحم الفاعل بين كتاب الله تعالى وبين الفن البلاغي ، وذلك بالكشف عن خبايا هذا الكتاب وكنوزه ، وإستكناه وجوه الاعجاز البياني في ظلال آياته ، إذ لا شوائب في لغة القرآن وألفاظه ، ولا معاناة في تحسس جماله العام ، والجهد الكبير المتواصل
كفيل بالوصول إلى الأمثلة النادرة ، ففيها وحدها يتقوم الأصل البلاغي الموروث ، بعد أن كان الطبع السليم عند العرب يكشف عن هذا الملحظ بذائقته الخالصة