من بعيد تبدو تللسقف صغيرة وعندما تقترب منها تتغير هذه الرؤية، عند تجوالك بين ازقتها القديمة وتلمسك لجدرانها التي ماتزال تحتفظ برائحة التاريخ تستنشق منها عبق الماضي وترسخ في ذهنك صورا وحركات و مشاهد للمدينة في تلك الازمنة، تلك الصور التي تعيد الى مخيلة الزائر جوانب من حياة هذه المدينة، التي تبدو في ابهى صورها، تعد موقعا للاثار الدفينة.
حر الصيف القائظ كان السبب في ان يضفي حرارة غير طبيعية على ازقة المدينة، ساعة الظهيرة كانت افضل فرصة لتستكشف المدينة وجمالها الذي يختفي فيها الزحام حيث السكينة والهدوء وكل زقاق يقودك للاخر من دون ان تخاف من الضياع وفقدان الطريق او العودة الى حيث ما بدأت.
عند الدخول الى المدينة الصغيرة الآسرة الهادئة تستوقفك نقطة التفتيش التي استحدثت بعد احداث مهاجمة الكنائيس في الموصل وبلداتها بعد عام 2006، بين الشارع الرئيس للمدينة والشارع المؤدي الى السوق تصادفك مباشرة صور وبقايا لابنية قديمة يدفعك الفضول لتستكشفها، تتلمس جدرانها المبنية بالجص والآجر، تلتقط الصور التي من الصعوبة جدا ان تحويها عدسة اية كاميرا بسبب تطويقها بالابنية الحديثة.

لكن برغم ذلك تشاهد زوايا و بقايا ابواب قديمة قدم الزمان الذي سكن فيه الانسان في هذه المدينة تللسقف او تل الاسقف إسم أرامي متأصل من كلمتين ( تلا) و (سقيبا) أي بمعنى (التل المنتصب (اشارة الى تلها القريب منها، وهو تل أثري يحيط به سهل منبسط يبلغ ارتفاعه اكثر من عشرين مترا تعلوه نقطة مراقبة وبالقرب منه خزان ماء البلدة، لا يستبعد أن يضم آثارا يرجع عهدها الى زمن الامبراطورية الآشورية ، وقد روى كلوديوس جيمس ريج عام 1820 م أن أهل تللسقف حفروا في هذا التل فعثروا على ضريح في داخله حجر ورد فيه إسم (تللسقف)، وحينما أوغلوا في الحفر عثروا على حجارة، ثم بلغوا مدفنا يضم أواني زجاجية ومصابيح، تمكن ريج من إقتناء إنائين من الزجاج، قال إنهما يشبهان الزجاج المكتشف في (قطيسفون) وبابل.
كما يشير الى ذلك الكاتب حبيب حنونا " كنيسة المشرق في سهل نينوى" – ساندياكو 1992 ص 112 – 116.
بين ازقة المدينة القديمة والحديثة يبدو لك المنظر القديم اكثر انجذابا، واكثر تالقا، اذ تشاهد الجدارن التي سقطت واخرى ايلة للسقوط وثالثة تم ترميمها بشكل افقدها رونقها الحضاري، فجدران الكنيسة الكبيرة تحتفظ بصلابتها و قبتها العلوية المدورة لها شكلها المتميز بين كل هذه الصور تأخذك المدينة الى عمق تاريخي، شاهدها كنيستها القديمة التي ترجع للالف الرابع للميلاد حسب التاريخ الشفاهي لاهل البلدة، والى القرن العاشر الميلادي، اذ كانت موجودة بحسب المصادر التاريخية.

تللسقف على لسان اهلها
يقول الكاتب والشاعر عصام شابا فلفل ان تللسقف كانت مشهورة فضلا عن هذه الصناعة بصناعة الاواني الفخارية حيث كانت مهنة النساء فيها حصرا واشتهرت عوائل كثيرة مثل عائلة (كوركيس عتو، عائلة جبرو عربو، وعائلة جبور). ولم تكن اكثر من مائة منزل في مطلع القرن الماضي.

يتوقف عصام عند معنى اسم المدينة اذ يقول عمرها اكثر من ثلاثة الف عام، وهي المنطقة التي لاتزال تحتفظ بتاريخها المدفون في تلها الاثري الذي يعرف بـ(تلا زقيبا) ومعناها التل المنتصف او المنتصب ثم بسبب الادغام في اللغة اصبحت تللسقف وتللسقيفا.
تشتهر تللسقف بانها تتوسط العديد من المواقع الاثرية التي تعود اغلبها للفترة المبكرة من الامبراطورية الاشورية، الالف الثاني قبل الميلاد، فبالقرب منها جنوبا تل لبقايا قلعة اشورية ثم في وسط البلدة والى الجنوب الشرقي (3كم) هناك تل (كورسكتي– المقبرة القديمة) ثم تل باقوفا شرق البلدة بـ 3 كم وتل كونجان الى الجنوب الغربي وبقايا دير افني ماران.
برغم صغر حجم المدينة الذي امتد لفترة طويلة بسبب الهجرة المستمرة لسكانها (سابقا الى بغداد وبقية مدن العراق) بقيت محافظة على طابعها الحضاري، الذي كسته الحداثة بالابنية التي افقدت الكثير من رونق الماضي.
التجول بين ازقة تللسقف يعطيك الشعور بالامان والهدوء، وعندما تقترب من بقايا الابنية القديمة، التي تلاحق ناظريك من بعيد وهي تقدم لك صوراً ولوحات تاريخية سواء لشكل البناء وزخرفتها او للتصاميم التي تعد امتدادا لتاريخ المنطقة.
في مكتب السيد عصام اعطتنا الزنابير هدية استقبال جميلة اذ عندما حاول السيد عصام شرح توسع المدينة من النافذة والاشارة الى اقدم مبانيها هاجمتنا حفنة زنابير ورغم لدغتها الحارة في البداية ألا انهم هدؤني بالقول ضاحكين (سيكون علاجا للعديد من الامراض).
عصام الذي حفظ تاريخ المدنية قدم شرحا باسماء محلاتها (دليا – قاشا – الولاعليا – الزقاق العالي – شيو تقيبو (اي دجاج فرخ) ومحلات حديثة البناء).

وبالتطرق الى اشهر مباني البلدة قال عصام انها بالتأكيد " كنيسة مار يعقوب ثم بقايا مبنى القلاية التي كانت تحوي 44 قلاية وبقايا حائط لكنسية تعود للقرن الرابع الميلادي كانت في فترة من الفترات ديرا للرهبان ايضا.
تللسقف التي تشتهر بوقوعها في سهل منبسط غنية باراضيها الزراعية وهي تشتهر بزراعة الحنطة والشعير والبقوليات (العدس والحمص) ثم المحصول الاشهر (بطيخ تللسقف)، يشير عصام الى ان الهجرة التي شملت المسيحيين من مختلف المدن العراقية قد غيرت طابعها، فكبرت بسرعة واصبحت الان تأوي اكثر من 14000 اربع عشرة الف نسمة تعد مدينة كلدانية خالصة من سكانها وكنائسها. وكغيرها من مدن المنطقة وبسبب موقعها الذي يقع على طرق المواصلات تعرضت تللسقف الى نكبات عديدة كان أبرزها المذبحة التي قام بها المغول عام 1236 م، فقد جاء في قصيدة كلدانية للشاعر (كيوركيس وردا) وصفا بليغا للمجازر التي أجروها في (كرمليس) و(أربل) و(تللسقف) و(دير بيث قوقا)، فقتلوا الآلاف من سكانها وأحرقوا الحقول والمساكن و دور العبادة وأبادوا الحضارة وشردوا الآلاف ولم يسلم منهم إلا من فر هاربا ناجيا بنفسه الى الجبال القصية، ولم تسلم كنيسة مار يعقوب المقطع في تللسقف، فقد دمرت بكاملها بحسب الكاتب حبيب حنونا الذي تمت الاشارة اليه انفا.

مقبرة المدينة المتلألئة
زيارة واحدة الى تللسقف لاتكفي لكي تتعرف عليها، سواء اثارها القديمة من ابنية و قصور ذات طراز معماري ليس بغريب عن غيرها من ابنية منطقة سهل نينوى او للتعرف على ما تخبئه المدينة من كنوز اثارية لاتزال بحاجة الى البحث والتنقيب، او للتعرف على تراث وازياء وأكلات المدينة التي تشتهتر بها وخاصة صناعة الازياء التراثية.
مقبرة المدينة التي تحمل طابعا متميزا تشكل القبور تميزاً بين راقديها وفوق كل قبر هناك زخرفة وكتابة مختلفة، ومع كل واحدة تستطيع ان تعرف مستواها وواقعه، زائر بين القبور لم يذكرني باسمه قال، حتى في المقبرة تللسقف تختلف وكل واحد يميز قبر موتاه وهي احيانا دلالة على الغنى واخرى تقديرا للميت.
اشكال القبور صغيرة وكبيرة كانت تتلألأ وبين قبر واخر كنت ترى كتابة سريانية واخرى عربية تشير الى من يرقد فيها وتاريخ وفاته وميلاده. ليس هذا كله فالبلدة التي اشتهرت بصناعة ازياء مختلفة لم تعد ترى من يرتدي تلك الازياء ألا النساء كبيرات السن، تقول الصحفية خلود فريد: ان ازياء تللسقف لها صبغة خاصة وهي امتداد لازياء نساء السريان والكلدان في المنطقة، يرتدينها النساء كبيرات السن الى الان، وتتميز بأنها مصنوعة من الصوف والقطن الطبيعي ويتم اضافة الالوان اليها ايضا مصنوعة من الاعشاب الطبيعية. تشير خلود الى ان البلدة تكبر كل يوم ومع كل تغير يحدث فيها تختفي بعض ملامحها القديمة وهو ما يشير الى ان واقعها لن يبقى كما هو عليه. ونوهت خلود الى ان العديد من اسماء الملابس التي تشتهر بها تللسقف وتعد من التراثيات مثل (به شك، شبك، دمير، ية لك، شقتا (نوع خاص من القمصان) وغطاء الرأس البوشية) فضلا عن الملابس النسوية التي تمتاز بالالوان البراقة والمزركشة.

مركز للتسامح
تللسقف التي تشتهر بانها تتوسط عدداً من البلدات والقرى لاتباع الديانات والقوميات الاخرى تمتاز بهذه الصفة وحافظت على مكانتها بانها مركز للتسامح والتعايش كما يقول الصحفي لؤي عزيز، الذي اعتبر ان اسواق تللسقف نموذجاً للتعايش السلمي اذ تشهد اقبالا لابناء كل المكونات الدينية من مسيحيين ومسلمين وايزيدية، من اكراد وعرب وقوميات اخرى، الكل يتعايش بأمان وسلام.
لؤي يشير الى ان التعايش سمة من سمات اهالي تللسقف الذين يتعايشون مع الاخرين رغم الاختلاف الديني من ان هذه سمة لاهالي المدنية، ففي اسواقها تجد ابناء هذه المكونات جميعا وفي ازقتها واعيادها يتبادلون التحايا.
تللسقف ذات السمة المميزة في حضارتها تجد بين ابنيتها دلائل عديدة تشير الى عراقتها فالقبة الكبيرة لكنسية مار يعقوب تختلف من بوابة كنيسة مار كوركيس وبينهما تجد ازقة قديمة وابواباً لبيوت تعود لمئات السنين ومن ثم بقايا قصور تهدمت تم فيها مراعاة التصميم والبناء بشكل مميز.
تللسقف المدينة او البلدة التي شيدت فيها اول مدرسة عام 1940 تبعد عن مدينة الموصل بـ 25 كم شمالا تقع على الطريق بين قضاء تلكيف وناحية القوش يحدها من الشمال الغربي واحدة من اكبر قرى العراق (ختارة) ثم جنوبا بلدة باطنيا.
يقول جلال عربو وعائلة عربو تعد واحدة من العوائل العريقة للبلدة ان تللسقف منجم للتراث، فلا تزال النساء تحتفظن بالادوات التي كانت تصنع هنا لكل المنطقة وعراقتها وقدمها يشير الى وجود المخابىء في كل بيت قديم فيها، حيث كانت تستخدم لخزن المحاصيل او للاختباء عندما تتعرض للفرمانات.
واضاف: بسبب ما عانته المدنية عند حملة الشاه طهماسب على الموصل تم صناعة وبناء (ال ئاخور) اسفل كل دار ولاتزال بعضها باقية والاكثرية منها تهدمت كانت تستخدم للعديد من الاغراض وخاصة للخزن. يقول جلال ايضا اشتهرت المدينة بصناعة (هكبة الحراثة، والجنجر لطحن الحبوب ونشلها من قشورها) كذلك بكل المستلزمات الخاصة برعاية الاغنام ومل يصنع من الصوف ايضا من ملابس ومستلزمات، اذكر منها على الدوام النوعية الجيدة من الجواريب التي كانت تصنع يدويا.
بين كل هذه الصور تستطيع القول ان تللسقف تتجدد وتنهض بسرعة كبيرة ويشير سكانها انها عندما كانت صغيرة كانت اكثر هدوءا وسكينة، وانها مع كل هذا تحتفظ بتراث كبير في اثارها، لابد ان يكشف يوما تاريخها العريق.



شبكة الاعلام العراقي