تم الانتهاء قبل عامين في جامعة «شيكاغو»، بعد 90 عاما من العمل، من وضع قاموس للغات بلاد الرافدين القديمة ولهجاتها البابلية والاشورية، التي لم يتحدث بها احد منذ 2000 سنة، لكنها ظلت محفوظة على الالواح الطينية والنقوش الحجرية، التي تم تفسير معانيها على مدار القرنين الماضيين.
ويغطي القاموس، الذي يشتمل على 28 الف كلمة مُعرّفةً بكل معانيها، فترة تمتد من سنة 2500 قبل الميلاد الى سنة مائة ميلادية. فهل بين يدينا قاموس يسهب في شرح تطور ومعاني الكلمات العربية من عصور ما قبل الاسلام.. الى اليوم؟! قاموس بلاد الرافدين بدأ العمل فيه سنة 1921، على يد «جيمس هنري بريستد Breasted»، ابرز المؤرخين الامريكيين في حضارات الشرق الاوسط، وبخاصة الحضارة المصرية.
توفي «بريستد» عام 1935 واكمل من جاء بعده المشروع. في البداية، توقع د. بريستد ان يتألف القاموس من ستة مجلدات على غرار «قاموس اكسفورد» للغة الانجليزية، الذي نشرت مجلداته في آن واحد خلال عشرين او ثلاثين عاما» لكن ادخال الكلمات والامثلة على استخداماتها على ما يقرب من مليوني بطاقة مفهرسة كان عملا شاقا للاساتذة وطلاب الدراسات العليا الذين كانوا مشغولين ايضا بدراساتهم وابحاثهم الاخرى.
وبعد الحرب العالمية الثانية، اعيد تنظيم المشروع وجرى العمل فيه بشكل اسرع، وتم نشر المجلد الاول في 1956. وتم اصدار عشرين مجلدا على مدار 55 عاما. ويبلغ سعر المجموعة الكاملة من قاموس بلاد الرافدين 1995 دولارا، ويتراوح سعر المجلد الواحد ما بين 45 دولارا الى 150 دولارا. وهي ايضا متاحة مجانا على الانترنت».
ويقول كاتب التقرير «جون ويلفورد» ان هذا القاموس موسوعة اكثر من كونه مجرد مسرد مختصر للكلمات وتعريفها. بل يتناول جوانب كثيرة من ثقافة بلاد الرافدين في الادب والقانون والدين والتجارة والحياة اليومية. فعلى سبيل المثال، هناك 17 صفحة مخصصة للكلمة umu التي تعني «يوم». وكلمة Ardu التي معناها «عبد»، تقود الى كمٍّ هائل من المواد المتاحة عن مفهوم العبودية في الحضارة الاشورية. ويضيف «ويلفود»، ان هذه اللغات هي التي تحدث بها الملك «سرجون» العظيم، ملك الاكاد في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد ليأمر باقامة الامبراطورية التي ذاع صيتها باعتبارها الامبراطورية الاولى في العالم، وهي اللغة التي استخدمها «حامورابي» عام 1700 قبل الميلاد تقريبا لاعلان اول نظام للقوانين. وكانت هي لغة «ملحمة جلجاميش» السومرية، اولى روائع الادب العالمي. ويقال ان «نبوخذ نصر الثاني ردّد كلمات هذه الملحمة لتخفيف آلام زوجته التي كانت تشعر بحنين جارف الى ارض الوطن! وعلى جميع المستويات كانت هذه هي لغة التجارة وري الاراضي وشحن الحبوب والتنبؤ بالمستقبل. وقد عرضت النصوص الطبية المكتوبة باللغة البابلية تعليمات واضحة بشأن كيفية قراءة الطالع باستخدام كبد الخروف للتنبؤ بالمستقبل.
تحدث المؤلف الانجليزي كامبل طومبسون Thompson عن حياة نينوى وبابل في عهدهما الامبراطوري، ضمن المجلد الثاني من «تاريخ العالم» فقال: «بلغت اشور في خلال النصف الاول من القرن السابع قبل الميلاد اوج عظمتها، فتسلقت جيوشها الجبال المتأخمة لها شرقا وعبرت حدود بلاد الفرس منحدرة الى ميديا وعادت منها ظافرة بالغنائم من اللازَوَرد وغيره من الاحجار الكريمة.. ثم اندفعت غربا نحو قليقية Cilicia وفونيقيا - لبنان وسورية وجنوبي تركيا - وهناك لبسوا الثياب الارجوانية التي ابتاعوها من تجار «صور»، وامتطوا متن البحار الى قبرص ومن ثم بلغوا منتهى فتوحهم عندما وصلوا الى ابي الهول بمصر» (ص239، مكتبة النهضة بالقاهرة). ويضيف «طومسبون» ان الملك «آشور بانيبال» قد جمع مكتبة ضخمة بالخط المسماري حينما وجدها. وقد بعث الى احد اعماله يخوله فيه التحري عن كافة الالواح المكتوبة والاستيلاء عليها. وقد عثر المنقبون على بقايا ما يقرب من عشرة آلاف او اثني عشر الف قطعة مبعثرة في موقع اثري، «تكاد تكون جميعها الآن في المتحف البريطاني. وتحوي هذه الاثار كافة صنوف الادب وقد لا نستثني الا الاغاني الغرامية، وتحتوي هذه المكتبة المعاجم والاناشيد والتعاويذ، وبالجملة فهذه المكتبة مصدر كثير من معلوماتنا عن الاشوريين». والثابت ان حب الملك للكتب، «ادى الى جمع هذه المكتبات التي يجب ان تعتبر من اعجب مكتبات العالم»
ومن الملفت ان وضع قواميس اللغة في عهد المتأخرين من ملوك بابل واشور بلغ شأوا بعيدا من العناية حتى انه كان هواية ملوكهم لدرجة لم تنافسهم فيها احد معاصرة لهم. وهذه الميزة راجعة اصلا لوجود شعبين متجاورين متغايرين في اللغة تغايرا كليا الساميون والسومريون. وكان الساميون قد استعاروا الكثير في الاداب الدينية من سومر، واستمر الناس حتى وقت متأخر يعتبرون تقديم قاموس للمعبد «هدية نفسية»