الطحان والحمار
تروي الامثال والحكايات القديمة قصة طحان إحتاج الى بعض النقود ، فقرر بيع حماره في سوق البهائم . اختار اليوم الاول من الربيع لكي يخرج بصحبة ابنه والحمار باتجاه هذا السوق . كان قد قرر الطحان إعطاءَ الحمار قليلا من الحرية في ذلك اليوم ، فتركه يتقدم المسيرة ، وكان هو وابنه يسيران خلفه . كانت هذه اول اجازة يتمتع بها الحمار، ولاجله كان يقوم بقفزات غريبة فرحاً ، ويتفنّن برفسات تنوب عن ابتسامة لا يقوى على إدائها ، غير انه كان حذرا ويلتفت الى الخلف بين الحين والحين للتأكد من حالة الإعتاق المؤقتة التي يعيشها .
لم يقطع الموكب مسافة طويلة حين صادفه رجل جثيث البنية وطويل القامة ، توقف على حين غرّة كي يوجّه للطحان وابنه الكلام الاتي : ماذا جرى لعقلكما ، لماذا تسيران مشيا على الاقدام ، أولم يُخلـَقِ الحمارُ من اجل حمل الاثقال ونقل البشر؟ من رأى حمارا يسير بهذه الحرية ودون أي حمل ؟ لدى سماع هذا الكلام، فكر الطحان قليلا ورأى بان كلام الرجل الجثيث كان صحيحا ، فقام بالغاء اجازة الحمار وامسك بابنه ووضعه على ظهر الدابّة .
إستأنف الطحان طريقه سائرا خلف الحمار ، وإذا بمجموعة رجال قد ركزوا انظارهم من بعيد على ابنه ، وبدأوا ينادونه بصوت عال ويقولون : الا تخجل من نفسك ، كيف ترضى لنفسك الجلوس بارتياح على ظهر الحمار ووالدك المتقدم بالسن يسير خلفك ، انك لا زلت في نشاطك وحيويّتك ، كان يجب ان تفكر قليلا وتتركِ الحمار لابيك .
نظر الولد الى ابيه مستفهما ، وعندما تلقـّى اشارة النزول ، قفز من على ظهر الحمار . ظلتّ مجموعة الرجال واقفة تتابع الموقف ، ولكي يضع الطحان حدّا لمراقبتهم، امتطى الحمار ، رفع يده شاكرا ، وأوعز لمطيّته بالتحرك . كان يشدّ بقوة على طرفي الحمار لحمله على الانتقال الى سرعة متقدمة ، وإذا بشلة من البنات مهرولة نحوه تؤشر إليه بازدراء ، وتُصدر قهقهات مدويّة قائلة : ايها العجوز ، هل رأيت منظر ابنك الفتيّ ، انك جالس على ظهر الحمار كملك على عرشه ، غير مكترث لحالة هذا الصغير الذي يسحب اقدامه خلفه بصعوبة ويلهث محاولا اللحاق بك .
لدى سماع هذا الكلام النابي ، امسك الاب بابنه ووضعه خلفه على ظهر الحمار . هنا قال الطحان مخاطبا نفسه : أحمد الله لانه لم يبقَ للناس شئ يقولونه . لم يكن قد انتهى من طمأنة نفسه بهذا الكلام حين رأى نفسه وجها لوجه امام جماعة جديدة بدأت بالتعليق قائلة : أيُعقل ان يتوصل الانسان الى هذه الحدّ من انعدام الرحمة ؟ ماذا فعلت هذه البهيمة لكي تعاقب هكذا ، الا يجدر بهذا الاب وابنه الحرص على راحة دابتهما ، على الاقل للتـّمكن من بيعها وهي في كامل صحتها ؟
هـّز الطحان رأسه ، ومن شدة غضبه قفز مع ابنه على الارض . توقف قليلا ووهب نفسه بعض دقائق تفكير ، ثمّ قال لابنه : لم يترك الناس لنا سوى طريقة واحدة تجنِـِّبنا كلامَهم وتعليقاتِهم . هلمّ نربط رجلى الحمار من الامام ومن الخلف ، ونحمله بواسطة عصا طويلة ترتكز على كتفينا . لم يستغرقا في العملية اكثر من سبع دقائق وتابعا مسيرتهما حاملـَين الحمار على كتفيهما ، لا يتسع لي المجال هنا لوصف الفرح الذي خيّم على الحمار الذي كان يحلم منذ ولادته بالنوم داخل مرجوحة .
ظنّ الطحان بانه توصل الى وضع حدٍّ لكلام الناس وبانه سوف يَسلم أخيرا من نصال السنتهم ، ولكنه لم يعِ لخيبة ظنه إلا عندما رأى خلفه جمعا غفيرا يُطلق كلاما صاخبا صادرا من كافة الاتجاهات ، فالبعض كان يقول : لا نعرف من هو الحمار الحقيقي ، الاب أم ابنه أم المخلوق الممتدّ وكأنه داخل المرجوحة ؟ واخرون يقولون : ولماذا لا يضعونه داخل صندوق ذهبي ؟ أو لماذا لم يُحضروا له فراشا ومخدة ؟ واقوال كثيرة اخرى.
عند هذا توقف الطحان عن مسيرته حانقاً ، وأنزل الحمارَ وقام بفك وثاقه، وتوجه لابنه بصوت عالٍ اراد ان يسمعه الجمهور ، وقال : لقد سمعتُ الناس جميعا واستجبت لرغباتهم المتناقضة ، وبالرغم من هذا كلـّه لم اسلم من كلامهم ، لذا فاني قررت بان افعل ما يحلو لي وبما يمليه عليّ عقلي ، وليقولوا ما يحلو لهم ، لانهم سوف لن يكفـّوا عن القيل والقال .
إن هذه قصة إقتبستـُها من أمثال وقصص لافونتين الشبيهة بقصص الفيلسوف الهندي بيدبا.