أحب ان اشارككم اليوم أحبائي أعضاء درر العراق الرائعين ببحث قيم للدكتور قيس مغشغش السعدي لزيادة معلوماتكم حول المندائية عسى ان تكون هذه المعلومات مفيدة لكم
الصابئة المندائيون، من الطوائف العراقية الاصيلة، وهم يقطنون منذ القدم في أهوار جنوب العراق وكذلك الاحواز التي تعتبر إمتداداً طبيعياً جغرافياً وسكانيا وتاريخياً لجنوب العراق، رغم تبعيتها الآن الى ايران. لقد ورد ذكر الصابئة في القرآن الكريم في ثلاث سور، هي (البقرة، المائدة، سورة الحج) .
تعتبر المندائية، من العقائد الروحانية العرفانية الخالصة. فأن تسميتهم نفسها (مندائي) تحمل هذا المعنى، حيث اشتقت الكلمة من (مندا، أومندع) وجذرها باللغة الآرامية ـ السريانية (دعي) وتعني (علم، معرفة)، وكذلك بالعربي (دعا) منها (دعوة وداعية ودعاية) وتعني النشر والتعليم. أما كلمة الصابئة فهي مشتقة من الجذر (صبا) والذي يعني باللغة المندائية: اصطبغ، تعمد، غط أو غطس في الماء، وهي من أهم شعائرهم الدينية. بذلك يكون معنى (الصابئة المندائيين : المتعمدين العرفانيين)!
ما هي العرفانية ـ الغنوصية؟
لكي نفهم (المندائية) عقيدة وتاريخاً، علينا أن نفهم (العرفانية ـ الغنوصية) عقيدة وتاريخاً.
ان (العرفانية) بكل بساطة، هي العقيدة التي شكلت أساس الاديان (السماوية التوحيدية). فهي تعني : (الايمان بوحدانية الوجود، والتسليم بإله الخير والمحبة في ملكوت السماء والنور. واعتبار الحياة الدنيا والبدن المادي ملكوت الظلام والشيطان. وان الخلاص يكمن في الزهد والتقشف وكبح غرائز البدن من اجل التطهر والارتقاء بالنفس الى ملكوت النور.
بسبب تبعيتنا للتفسير الغربي (الاستشراقي) لتاريخنا، فقد تم في العصر الحديث عكس أصل (العرفانية)، بحيث اعتبرت التسمية اليونانية (الغنوصية ـ GNOSE) هي الاصل، بينما الحقيقة ان التسمية الآرامية العراقية ـ الشامية (دعيو ـ عرفان)، هي الاصل، واليونان هم الذين ترجموها، كما ترجموا فيما بعد تسمية (المسيحية). أن المذهب العرفاني وليد الشرق العراقي الشامي المصري. وأكبر دليل على مشرقية العرفانية، إن جميع المصادر التاريخية تتفق على انه في هذه البلدان (العراق والشام ومصر) ظهرت أولى أخبار العرفانية، وفيها نمت وتنوع واغتنت وانبثقت أديانها (المندائية والمانوية والمسيحية والاسلام) ومدارسها ومبدعيها وأنبيائها. وما المصادر اليونانية والايرانية والهندية إلاّ مكملة ومؤثرة مثل أنهار تصب في بحر عظيم. ففي القرون السابقة واللاحقة للميلاد، كان مذهب اليونان: المنطق، ومذهب الهند: الهندوسية،ومذهب ايران: الزرادشتية، وكلها صبَّت في مذهب (المشرق العراقي الشامي المصري): العرفانية .
البعض يرجع جذور العرفانية الاولى الى (نبونيد) آخر ملوك بابل (556 -539 ق.م) الذي كان روحانياً زاهداً داعياً الى عبادة إله واحد هو (سين) إله القمر وأسرار الليل ورمز الانوثة والروحانيات. وهو الذي جعل من (حران) قبلة المؤمنين. وقد أمضى حياته معتكفاً مع أتباعه في البادية في (واحة التيماء) شمال السعودية حالياً.
إن العرفانية عقيدة انسانية روحانية حاولت أن تمزج بين العقائد والافكار الكبرى السائدة في العالم حينذاك. فبعد سقوط آخر دولة عراقية في القرن السادس قبل الميلاد على يد الفرس، واحتلال الشام ومصر من قبل الاغريق ثم الرومان، بدأ يتغلغل في الشرق الاوسط تياران دينيان جديدان: التيار الديني الآسيوي (الهندي ـ الزرادشتي) المتضمن (عقيدة وحدة الوجود وخلود الارواح الهندوسية، وثنائية الخير والشر الزرادشتية)، ثم التيار الفكري اليوناني (علم المنطق) عن طريق اليونان أنفسهم ثم الرومان. لقد امتزج هذان التياران الجديدان مع عقيدتي المنطقة الاصليتين: الديانة (العراقية ـ الشامية) القائمة على أساس تقديس الكواكب السبعة وانتظار المهدي المخلص (تموز) أو المسيح. ثم الديانة (المصرية) القائمة على أساس تقديس اله واحد هو(الشمس) والايمان بيوم الحساب والخلود الآخروي وبالجنة الموعودة). وكانت المحصلة النهائية لهذا المزيج، هو (التيار العرفاني ـ الغنوصي) الذي اعتبر أساس الديانات التوحيدية السماوية، وبالذات مذاهب الزهد الروحاني والرهبنة والتصوف.
تمثل هذا التيار العرفاني في عدة مذاهب وأديان، مثل (الافلاطونية الجديدة والهرمزية) في مصر التي كانت تميل أكثر الى المنطق الاغريقي. كذلك (الطوائف الروحانية المختلفة منها العيسانية) في فلسطين التي كان ينتمي اليها (يوحنا المعمدان) وهي التي هيأت لانبثاق المسيحية، وربما لها علاقة مباشرة مع المندائية العراقية. علماً أن المسيحية تمثل ذروة العرفانية، حيث اعتبر السيد المسيح روح الله الذي أتى يخصب نفوس البشر (تموز المنقذ ـ العراقي) وينقذ أرواحهم الالهية (الحلولية الآسيوية) من سجن البدن ملكوت الشيطان (الثنائية الزرادشتية) الى خلود الآخرة حيث ملكوت السماء (الآخروية المصرية).
أما في العراق فقد ظهرت العرفانية من خلال (طائفة الصابئة) التي انبثقت منها فيما بعد (المانوية البابلية). أما بالنسبة لليهودية، فبعكس الاعتقاد السائد، فهي لم تكن في أساسها التوراتي ديانة سماوية توحيدية لأنها لم تكن عرفانية، بل اكتسبت العرفانية فيما بعد وخصوصاً مع مذهب(القبالة). كذلك شكلت العرفانية أساس الاسلام لانه دين توحيدي سماوي، رغم الميل السائد في الاسلام الرسمي باعتبار (العرفانية) مذهب فلسفي زهدي متميز حمل مسميات عدة مثل (التصوف) و(الحلولية) و(الاشراقية) بالاضافة الى تسمية (العرفانية) السائدة في التشيع.
المندائية ديانة عرفانية (غنوصية)
من أبرز الجوانب العرفانية في المندائية، انها تؤمن بأن للانسان ثلاث مكونات: (الروح)، وهي نفحة نور الهي خالد تربط الانسان بملكوت السماء. ثم (النفس) وهي طاقة دنيوية تنشأ مع الانسان وفيها المشاعر والشهوات. ثم (البدن) وهو مقر الغرائز والحاجات والآثام. يكمن سر عذاب الانسان في معاناة روحه (نفحته الالهية) من سجن البدن وغرائزه ومغريات النفس وشهواتها. لهذا فان الخلاص يكمن في تحرير الروح النورانية من هذا البدن المظلم الفاني، عبر حياة الزهد والتقشف، حتى بلوغ الموت المحتم والخلاص الابدي.
ان كتاب (الكنزاربا) يتحدث عن عودة آدم إلى ملكوت النور: ((يا آدم.. أمرت أن أحرّرك من جسدك، وأخرجك من هذا العالم. أحرّرك من سجن البدن، من سلاسل الدم والعظام.. لأصعد بك إلى بيت أبيك، بيت النور والسلام.. حيث لا بُغض ولا ظلام)).
في الحياة الآخرى أي بعد التحرر من البدن، فأن (النفس) هي التي تتحمل وزر الآثام وتخضع للعقاب والثواب، فتمر عبر المطهرات، وهي مراحل تؤدي بالتدريج إلى عالم النور. أما الروح فبما انها نفحة نور الهي، فأنها تظل بريئة طاهرة نقية فترجع مباشرة إلى ملكوت النور.
وهم يعتقدون بـ (عالم الشبيه أو النظير)، أي عالم أمثل يشبه دنيانا ولكنه بلا مغريات ولا آثام . وان لكل انسان في هذه الدنيا نظير له في العالم الامثل. وتوزن الأرواح بعد الوفاة بميزان يسمى ميزان (أواثر) وهذا اسم أحد الملائكة، وهو الذي يزن الأرواح مقارنة بروح نبي الله (شيتل برآدم) أي شيت ابن آدم. وشيتل تعني النبتة الطيبة التي وهبها الله لآدم بعد أن قتل قابيل أخاه هابيل. فمن ثَقُلتْ روحه عن وزن شيتل كان عقابه بقدر هذه الزيادة، ولا ترتقي روح إلى روح شيتل إلاّ أرواح الأنبياء والأصفياء. وهذا يذكر بـ (نبتة الخلود) التي حاول (كلكامش) أن يمتلكها، لكن الخلود هنا يتحقق في الحياة ألاخرى.
أصل الصابئة
مشكلة المندائيين انهم مثل كل الجماعات العراقية، قد فرض عليهم هذا السؤال المفتعل :
من أين أتوا؟ وهذا السؤال لا يفرض بهذا الألحاح والحدة إلاّ على الجماعات العراقية. وكأن العيش لقرون وحتى آلاف الاعوام لا تكفي لكي تنتمي الجماعة للعراق، بل عليها دائماً أن تبحث عن موطنها السابق المفترض حتى لو كانت قد هجرته قبل مليون عام! فهذه مثلاً مشكلة (أصلالسومريين) المفتعلة.
ضمن هذا السياق، فإنه كان من الاجباري البحث عن (وطن أصلي) آخر غير العراق، وقد افترض الباحثون الى أن أصل الصابئة يعود الى احتمالين:
1- الصابئة الحرانية
نسبة الى مدينة (حران) الواقعة شمال بلاد النهرين، وقد أصبحت جزءاً من جنوب تركيا في القرن العشرين وتقع عند الحدود مع سوريا. وهذه المدينة معروفة تاريخياً بأنها مركز للثقافة السريانية المسيحية، وكذلك هي المدينة التي استوطنها النبي ابراهيم (ع) بعد هجرته من (اور) في طريقه الى (فلسطين). وقد عرفت حران في العصر العباسي بـ (الصابئة الحرانيين)، وحسب (ابن النديم) بأن هؤلاء الصابئة هم في الحقيقة (كلدانيون من عبدة النجوم البابلية)، وقد ادعّوا بأنهم (صابئة) أمام الخليفة (المأمون) لكي لا يقال عنهم بأنهم زنادقة(9). وقد دلَّت البحوث الحديثة عن وجود فوارق عديدة بين صابئة الجنوب العراقي وصابئة حران. لكن في كل الاحوال أن هؤلاء الحرانيين كانوا (عرفانيين) لهذا فأن ادعائهم بأنهم (صابئة) لم يكن اختياراً اعتباطياً بل لأنهم كانوا فعلاً يشتركون معهم بالايمان الروحاني العرفاني وتقديس الكواكب السبعة التي كان يقدسها العراقيون القدماء. وقد أشتهر صابئة حران بأنهم قدموا للحضارة العربية الاسلامية الكثير من الشخصيات المبدعة، مثل (الطبيب ثابت بن قرة) و(أبو إسحاق الصابي) و(البتاني) الذي سميَّ المرصد الفلكي العراقي باسمه، وغيرهم.
2- طوائف فلسطين الروحانية
هنالك من يعتقد بأن أصل الصابئة يعود الى الطائفة العرفانية العيسانية (الاسينيون) الفلسطينية، وإنهم هاجروا منها قبل الميلاد الى جنوب العراق بسبب الاضطهاد الذي لحقهم على أيدي المؤسسة اليهودية الرسمية ومن قبل الحكام الرومان. وقد رفض غالبية المؤرخين اعتبار هذه الطائفة من (اليهود) بل هم من الآراميين العرفانيين).
ان الخلاصة العقلانية التي يمكن بلوغها رغم كل هذه الفرضيات الخارجية، هي :
ان الصابئة المندائية، هم من أول الطوائف العرفانية العراقية، ولغتهم الاصلية ولغة كتبهم هي الآرامية الشرقية العراقية. وبما أن مذهبهم يميل الى الزهد والروحانية وتقديس التعميد بالماء، فأنهم اعتزلوا المدن ولجأوا الى الاهوار حيث السلام الروحي ووفرة المياه. وغالبية تقاليدهم وطقوسهم ورموزهم المقدسة، لها أصول عراقية قديمة.
بلاد النهرين
لقد اتفق الكثير من المؤرخين على إن معتقدات الصابئة المندائية برزت لأول مرة في جنوب العراق. ويعتقد ان هنالك مؤثرات واضحة من الديانة العراقية القديمة. وهنالك عدة مشتركات بين المندائية والعقيدة العراقية القديمة (السومرية الآشورية البابلية)، منها:
ـ التعميد والوضوء بالماء وتقديسه / حمل الاشخاص أسم ديني خاص مختلف عن الاسم المعلن من اجل الحماية من الشر. / تقديس الشمس / وارتداء الثياب البيضاء، وأمور أخرى عديدة.