في واحدة من أشهر مناطق بغداد وفي الجانب الشرقي أي جانب الرصافة تشمخ ببهاء الروضة القادرية الشريفة التي تضم في ثناياها الجثمان الطاهر للشيخ محيي الدين عبد القادر الجيلاني والتي تعد واحدة من أكبر المشاهد في بغداد وهي تحفة تراثية وتاريخية تزين منطقة باب الشيخ.
وبعد ان اكتمل اعمار هذه الحضرة على الأسس الإسلامية المعمارية حيث الأقواس والأبواب الكبيرة التي غلفت بالحجر والآجر ليمتد بناؤها من شارع الشيخ عمر الى شارع الكفاح وقد تضمنت عملية الاعمار والتأهيل إلحاق مكتبة عامرة بالحضرة ومدرسة لتعليم القرآن وعلوم الفقه.
الحضرة سابقا كانت عبارة عن مدرسة باسم القاضي أبي سعيد المخرمي في القرن السادس الهجري وكانت تعد احدى المدارس الشهيرة في بغداد في محلة باب (الأزج) التي سميت فيما بعد باب الشيخ، والأزج هو الممر الذي يبنى طولا.
قدومه الى بغداد
كان الشيخ عبد القادر الجيلاني قد نال قسطا من علوم الشريعة في حداثة سنه على أيدي أفراد من أسرته ولمتابعة طلبه للعلم جاء الى بغداد ودخلها سنة (488)هـ الموافق 1095م وعمره ثمانية عشر عاما في عهد الخليفة العباسي المنتظر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله العباسي وبعد ان استقر الشيخ عبد القادر في بغداد انتسب الى مدرسة الشيخ أبو سعيد المخرمي التي كانت تقع في منطقة باب الأزج في أقصى الشرق من جانب الرصافة والتي عرفت فيما بعد بمحلة باب الشيخ.
وكانت الفترة التي قدم بها الشيخ الجيلاني الى بغداد تعمها الفوضى والصراع الذي شمل جميع أرجاء الدولة العباسية، فقد كان الصليبيون يهاجمون ثغور الشام وقد تمكنوا من الاستيلاء على أنطاكية وبيت المقدس وقتلوا فيهما خلقا كثيرا من المسلمين ونهبوا أموالا كثيرة وكان السلطان التركي بركياروق قد زحف بجيش كبير يقصد بغداد ليرغم الخليفة على عزل وزيره ابن جهير فاستنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي محمد بن ملك شاه ودارت بين الجانبين التركي والسلجوقي معارك عديدة كانت الحرب فيها سجالا.
وفي غمرة هذه الفوضى كان الشيخ عبد القادر يطلب العلم في بغداد، وتفقه على يد مجموعة من شيوخ الحنابلة ومن بينهم الشيخ أبو سعيد المخرمي فبرع في المذهب والخلاف والأصول وقرأ الأدب وسمع الحديث على أيدي كبار المحدثين وقد أمضى الشيخ من عمره ثلاثين عاما يدرس فيها علوم الشريعة وأصولها وفروعها.التدريس والوعظ
وحينما لمس الشيخ أبو سعيد المخرمي من تلميذه عبد القادر غزارة العلم والصلاح عقد له مجالس الوعظ في مدرسته بباب (الأزج) في بداية عام 521هـ فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل أسبوع واستطاع الشيخ عبد القادر بالموعظة الحسنة ان يرد كثيرا من الحكام الظالمين عن ظلمهم وان يرد كثيرا من الضالين عن ضلالتهم فقد كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه وقد عاد على أثر هذه الخطب والمواعظ الكثير من المنحرفين وقطاع الطرق وأسلم على يديه العديد من اليهود والنصارى.
وبعد ان توفى الشيخ أبو سعيد المبارك فوضت مدرسته الى خليفته الشيخ عبد القادر الجيلاني فجلس للتدريس والفتوى وكانت شخصيته الفذة وحبه للتعليم وسعة أناته جعلت طلاب العلم يقبلون على الالتحاق بمدرسته لتلقي العلم حتى ضاقت بهم صفوفها فاضيف اليها ما جاورها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها وقد أسهم الميسورون من أهالي بغداد باعمار هذه المدرسة الفتية واكتمل هذا البناء عام 528هـ الموافق 1233م وصارت لها في عهده شهرة واسعة ومكانة مرموقة يتطلع لزيارتها كبار الفقهاء والمحدثين وطلاب العلم.
سعة العلم
وكان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في ثلاثة عشر علما من علوم اللغة والشريعة حيث كان الطلاب يقرأون عليه في مدرسته دروسا من التفسير والمذهب والخلاف والأصول واللغة وكان يقرأ القرآن بالقراءات وكان يفتي على مذهب الامام الشافعي والامام أحمد بن حنبل.
الولادة
ولد الشيخ عبد القادر الجيلاني سنة 470 هجرية في كيلان شمال شرقي ايران من أسرة تتفرع من الدوحة النبوية الشريفة وتوفي عام 561هـ ومن ألقابه قطب بغداد والباز الأشهب وشيخ الاسلام وزعيم العلماء. وقد دفن برواق المدرسة الكيلانية وقد انتشرت سمعته في سن متأخرة جاوز فيها الثالثة والخمسين من عمره وقد نسبت اليه الطريقة القادرية الصوفية ومن أهم خواص فكره الانفتاح على الآخرين والتسامح مع المختلف وهذا هو سر انجذاب الناس اليه منذ قرون طويلة.
تاريخ الضريح
بعد وفاة الشيخ عبد القادر ليلة السبت العاشر من ربيع الثاني سنة 561هـ دفن في رواق مدرسته وكان ضريحه عبارة عن قفص يحيط بمرقد الشيخ من الخشب الصاج وخاليا من الزينة يغطى بستار من الحرير المطرز بخيوط من الفضة والذهب، ولكونه من الخشب فانه تعرض للتآكل بمرور الزمن، وقد رفع هذا القفص ليحل محله قفص صغير مربع مطلٍ بالذهب وبكرات صنعت من الألمنيوم وقد قدم هذا القفص من قبل احد أفراد أسرة كزنزان الكردية وبقي فوق الضريح لثلاث سنوات وقد رفع سنة 1987م وبدل بقفص من الفضة صنع في باكستان.. وأما القفص المذهب فقد وضع على مرقد الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ عبد القادر. وبسبب الظروف القاسية التي مرت على البلاد ونتيجة الحروب والكوارث والفيضانات فقد كان نصيب المدرسة والمكتبة والجامع التخريب والدمار.. لكن يد الإصلاح والتعمير لم تكن بعيدة عنها.
ففي سنة 941هـ أعيد تعمير الجامع وملحقاته من المدرسة والمكتبة من قبل السلطان سليمان القانوني وفي سنة 1048هجرية تم اعمارها من قبل السلطان مراد الرابع وآخر من عني بها السيد عبد الرحمن النقيب المتوفى سنة 1345هـ 1927م حيث وقف مكتبته الخاصة وضمها الى المكتبة القادرية.
وكان آخر اعمار لها في فترة الثمانينات واستمر الى سنوات متأخرة حيث أضيفت مساحات كبيرة الى الروضة وأقيمت أجنحة للتدريس وأواوين لإيواء الفقراء وتم تجديد المكتبة فضلا عن مدرسة التحقت بالروضة.
نسبه
هو أبو صالح السيد محيي الدين عبد القادر الجيلاني بن السيد ابي صالح موسى بن السيد عبد الله بن السيد يحيى الزاهد بن السيد محمد بن السيد داود بن السيد موسى الثاني بن السيد عبد الله أبي المكارم بن السيد موسى الجون بن السيد عبد الله المحض بن السيد الحسن الثاني بن السيد الإمام الحسن السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
أولاده
أنجب الشيخ عبد القادر عددا كبيرا من الأولاد وقد عني بتربيتهم وتهذيبهم وتخرجوا على يديه في العلم وكان معظمهم من أكابر الفقهاء والمحدثين وأشهر ثمانية منهم: الشيخ عبد الوهاب وكان في طليعة أولاده درس بمدرسة والده وبعد والده وعظ وأفتى وكان عالما كبيرا، والثاني الشيخ عيسى الذي وعظ وأفتى وصنف مصنفات منها كتاب جواهر الأسرار، ولطيف الأنوار في علم الصوفية وسافر الى مصر وحدث فيها ووعظ وتخرج على يديه من أهلها عدد من الفقهاء وتوفى سنة 573هـ، والثالث هو الشيخ عبد العزيز وكان عالما متواضعا وعظ ودرس وخرج على يديه كثيراً من العلماء وتوفى سنة 602 في عقرة. والشيخ عبد الجبار وتفقه على يد والده وسمع منه وسلك سبل الصوفية ودفن برباط والده في الحلبة، والشيخ عبد الرزاق وكان حافظا حسن المعرفة بالحديث فقيها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وتوفي سنة 603هـ في بغداد، والشيخ ابراهيم تفقه على يد والده وسمع منه ورحل الى واسط وتوفى فيها سنة 592هـ والشيخ يحيى وكان أيضا فقيها محدثا انتفع الناس بعلمه رحل الى مصر وعاد وتوفى سنة 600هـ ودفن برباط والده في الحلبة والشيخ موسى فقه أيضا على يد والده ورحل الى دمشق ورحل الى مصر وعاد الى دمشق وتوفى فيها. والشيخ عبد القادر الجيلاني صنف الكثير من المصنفات في الأصول والفروع وفي أهل الأحوال والحقائق والتصوف منها ما هو مطبوع ومنها ما هو محفوظ ومنها ما هو مصور، تدل على غزارة علمه وسعة إطلاعه.
شبكة الاعلام العراقي