أساس الديمقراطية سيادة الشعب، وأن هذا المبدأ يقوم على مبدأ فلسفي وهو العقد الاجتماعي بين السلطة والأمة، وهذه الفكرة الفلسفية هي فكرة فرضية ليس لها نصيب من الواقع، وتقول بأن الحق يسبق في وجوده السلطة، والأمة تنازلت بمقتضى هذا العقد عن بعض حقوقها بنسب متساوية بين أفرادها للسلطة في سبيل قيام هذه الأخيرة بحماية حقوق الأمة صاحبة السيادة ورعايتها من كل اعتداء، لذا؛ فإنهم يعبرون عن هذه الحقوق الفردية بأنها حقوق طبيعية لصيقة بالإنسان، فهل هذه الفكرة لها أساس في الإسلام ؟
بالإضافة إلى أن هذه الفكرة افتراضية لا أساس لها من الحقيقة والواقع، فإن الإسلام لا يقرّ بها، فالسلطة موجودة بوجود الإنسان، إذ يقول الله سبحانه وتعالى للملائكة: ] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ (20) ، فالاستخلاف يقتضي السلطة، وأمر الله ونهيه للإنسان لينير له الطريق التي رافقت وجـوده في جنـة الخلد وبعد أن هبط إلى الأرض إذ قال الله تعالى: ]وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[ (21) فقد تضمنت الآية الأمر والنهي، وبعد أن خالف الأمر والنهي أسكنه الله إلى الأرض فقال: ] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [ (22)، فالأمر والنهي أي الاختصاص الإلهي التشريعي أبدي أزلي، والإنسان مأمور باتباعه وعدم النكول عنـه، بل إن الإعراض عن هدى الله غاية في الإجرام! يقول سبحانه: ] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ (23)، إجرام في حق الأمة أفراداً أو جماعات، سواء كان الإعراض بقرار الأغلبية أم الأقلية؛ أي إن تعطيل شرع الله تحت أية دعاوى أو مسميات هو إجرام في حق الشرع والأمة، يستوجب العقاب الشديد يقول سبحانه : ] وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [ (24) .
علاقة الديمقراطية بمبدأ فصل الدين عن الدولة:
هذه النظرة الفلسفية قائمة أصلاً على مبدأ فصل الدين عن الدولة، بعد ثورة رجال الفكر في الغرب، بعد الثورة الفرنسية على رجال الكنيسة، بعدما ضاقت الشعوب من تصرفاتهم التي لم تترك شيئاً إلا تدخلت فيه، فكانت الثورة لعزلهم وقصر نشاطهم على الكنيسة، وحرمانهم من تنظيم الحياة المدنية، وجعله أو قصره على الشعب وحده صاحب السيادة، ليختار النظام الذي يراه ، والقوانين التي يرغب في الخضوع لها.
فهل الإسلام يقرّ هذه الفكرة التي قامت عليها الديمقراطية ونظرياتها الفلسفية، هل الإسلام مجرد عقيدة لا علاقة له بتنظيم شؤون الحياة الدنيا بين الأفراد والجماعات ؟
الإسلام جاء شريعة عامة للناس جميعاً عقيدة وشريعة، تشمل العقيدة وما يتعلق بها من أحكام، وشريعة عامة تنظم جميع مناحي الحياة، ما تعلق منها بالجوانب القانونيـة والعقائدية والأخلاق والشعائر، فالإسلام كلٌ متكامل، لا يقبل التجزئة، عقيدة وشريعة، أما الديمقراطية فهي قائمة على مبدأ رفض الشريعة من أن يكون لها يد في تنظيم الحياة المدنية، وقصر دورها على الأمور المتعلقة بالعقيدة والشعائر والأخلاق، وبكلمة موجزة سلب الشريعة الاختصاص التشريعي والتنفيذي والقضائي، فلا يستمد أياً من هذه السلطات الثلاث من الشريعة، أو يكون له علاقة بها، فهل هذا يعرفه الإسلام أو يقره؟
إن الحق سبحانه وتعالى يجيب على ذلك بقوله : ]يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب [ (25)، فهذه الآية تضمنت بيان السلطات الثلاث فقول الله إنا جعلناك خليفة ـ هذه السلطة التنفيذية الخليفة رأسها، فاحكم ـ هذه السلطة القضائية ـ بالحق ـ وهذا القانون المطبق أي السلطة التشريعية.
ويقول سبحانه وتعالى لنبيه r في محكم التنزيل: ] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [ (26) ويقول سبحانه : ] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك [ (27)تحت أية مسميات أو مبررات، ويقول: ] إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [ (28) تحذير من الإعراض عن بعض ما أنزل الله وإن قل.
وجعل سبحانه بعدما أوضح هذه السلطات الأساس التي تنص الديمقراطية على أنها ملك للأمة، بين أن الاحتكام إلى شرع الدين من ركائز الإيمان، فقال سبحانه : ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ (29).