17/4/2013 12:00 صباحا
ترجمة ـ الصباح بقلم مايكل ترمبل*
في العام 2008، وفي حديقة للحيوان بمدينة مونستر في ألمانيا، وضعت أنثى غوريلا اسمها غانا وليداً ذكراً لم يلبث أن مات وهو بعمر ثلاثة أشهر. انتشرت صور غانا في كل مكان وهي تعاني من حالة الصدمة والحزن، وأبرزت صحيفة ديلي ميل البريطانية الحدث بعنوان يقول: "غوريلا كسيرة القلب تهدهد طفلها الذي مات"، وتوافدت حشود من الناس على حديقة الحيوان كي تنظر إلى الأم الثكلى.رغم حزن المشهد كان الناس هم الذين يبكون وليس غانا، فالمفهوم الذي يطرح أحياناً بأن الحيوانات يمكن أن تبكي لم يثبت له سند علمي. سنوات من المراقبة وتسجيل الملاحظات التي قضتها ديانا فوسي، وهي عالمة متخصّصة في الحيوانات الرئيسة (التي تشمل الإنسان والقرود)، في دراسة قردة الغوريلا، وكذلك أبحاث جين غودال التي تعمل على قردة الشمبانزي، لم تستطع إثبات أن الحيوانات يمكن أن تذرف الدمع للتعبير عن مشاعرها.وفي كتابه المعنون "حياة المشاعر لدى الحيوان" لم يستطع عالم الأحياء مارك بيكوف أن يتيقّن من وجود دموع أخرى غير دموعه. ويعترف جيفري ماوساييف ميسون وسوزان مكارثي، مؤلفا كتاب "عندما تبكي الأفيال"، أن معظم من درسوا الأفيال لم يروها تبكي أبداً.
لا ريب أن هناك كثيرا من الحيوانات يمكن أن تسكب الدمع، وخصوصاً في استجابة للألم، لأن الدموع تحمي العين وتبقيها رطبة، كما أنها تحتوي على مواد بروتينية مضادة للجراثيم. أما البكاء كتجسيد للتأثر العاطفي فإنه يبقى من خصائص البشر الفريدة التي لعبت دوراً جوهرياً في ارتقاء الإنسان وتطوّر الثقافات البشرية.
يستطيع الطفل حديث الولادة أن يبدأ رسم تعابير الحزن والفرح على وجهه بعد يومين فقط، وما لم يبكِ طفل اللبائن (وهو شيء يكون قادراً على فعله عادة في الأسابيع الأولى من حياته، وبدون دموع) فمن المحتمل أن لا يتمكن من اجتذاب الإهتمام الذي يحتاج إليه لكي يعيش. وبحدود عمر ثلاثة أو أربعة أشهر يتخذ شكل العلاقة بين الوليد البشري وبيئته دوراً تواصلياً أكثر تنظيماً ويأخذ البكاء المصحوب بالدموع بخدمة غايات محدّدة بين الطفل والآخرين مثل طلب الراحة والتهدئة. وكلما تقدّم بنا العمر أصبح البكاء وسيلة من جملة ذخائرنا الإجتماعية مثل الحزن والفرح .. والمجد والعار .. والخوف والاستغلال.
الدموع شائعة كشيوع الضحك، ولكن المأساة أكثر تعقيداً من الفرح – وهي التفاتة عميقة فطنة طرحها تولستوي وآخرون عديدون غيره. ومع أننا جميعاً نبكي فإننا نفعل ذلك بطرق مختلفة.
النساء في العادة أكثر بكاء من الرجال وأشدّ، وخصوصاً عند تعرّضهن للهزّات العاطفية. ويبدو أن هذه التفاوتات تبدأ بالبروز جليّة في سن البلوغ تقريباً، لذا قد يعزى الأمر إلى التغيّرات الهرمونيّة، ولكن من الممكن أيضاً أن تتدخّل في الأمر التصوّرات الشائعة المتداولة حول الاختلافات ما بين الجنسين.
الاكتئاب هو الآخر أكثر شيوعاً في العالم بين النساء من الرجال، مثله مثل البكاء. أحد التفسيرات لذلك قد يكون أن النساء، على الرغم من كل ما تحقق لهن عبر العقود من تقدّم على الصعيد الإجتماعي، لا يزلن يعانين الإجحاف الإقتصادي والتمييز، وحتى العنف، وبذلك تكون لديهن أسباب أكثر وأدعى للبكاء.
الرجال لا يبكون أقل من النساء فقط بل يكونون أيضاً أقل ميلاً لتقديم تفسير لدموعهم، وهم يذرفونها بتكتم ويميلون أكثر للاعتذار عادة إذا ما اضطروا للبكاء في حضور الآخرين. غير ان الرجال، شأنهم شأن النساء، لا يرون بأساً في إعلان بكائهم عند موت أحد الأحبة وكذلك عند الاستجابة لتجربة دينية مؤثرة. والرجال أكثر استعداداً من النساء للبكاء عندما تصبح هويتهم الجوهرية عرضة للتشكيك بوصفهم حماة وكسبة عيش، أو بوصفهم آباء ومدافعين.
نرى مشاهد بكاء من هذا النوع في مسرحيات شكسبير، والملاحم الأغريقية مفعمة بأبطال يهرقون دموعهم مثل أوديسيوس وأغاممنون وأخيل، وفي العقود الأخيرة جعل رونالد ريغان وبيل كلنتون وجورج دبليو بوش صورة أكبر شخصية تنفيذية في البلد وهي تبكي مشهداً مألوفاً. وخلال حملته الرئاسية الأخيرة خنقت العبرة الرئيس أوباما مرتين بعد إعادة انتخابه، وبكى بيب روث عندما علم أنه مصاب بالسرطان، وبكى فلويد باترسون حين خسر أمام محمد علي.
في المنزل هناك احتمال أعلى أن يتساوى الرجل والمرأة في استعدادهما للبكاء حين يكون أي منهما لوحده أو بحضور شخصية صديقة للعائلة. وعند مشاهدتنا فيلماً مؤثراً يكون استعدادنا للبكاء أكثر إذا رأينا أن صديقنا الجالس بجوارنا يبكي هو الآخر.
الأشخاص الذين يصنّفون في اختبارات الشخصية في خانة (عاطفي أو عصبي) يكونون أكثر استعداداً للبكاء من اولئك الذين يصنّفون تحت وصف (صلب أو منضبط أو استحواذي). كذلك يتفاوت تكرار مرّات البكاء كثيراً بين شخص وآخر، فالبعض قد تسيل دموعه لدى قراءته لرواية أو مشاهدته لفيلم، بينما البعض الاخر قد لا تسيل دموعه إلا مرّات قليلة طيلة حياته. والبكاء استجابة لخلاف أو شجار داخل العائلة أو بعد التعرّض لمحنة عاطفية يدوم أطول من التأثّر الذي تثيره أمور عامّة عابرة – وهذا بدوره يدوم أطول من دموع السرور والفرح.
يعتقد دارون أن البكاء أقل حدوثاً في بريطانيا من البلدان اللاغربية، وهناك أدلّة قويّة تؤيد وجود تفاوتات في هذا الجانب ما بين الثقافات المختلفة. هذه الأدلة يزوّدنا بها عالم النفس الهولندي فنغرهويتس الذي قام بعملية مسح للبكاء في 37 بلداً وساعده في عمله فريق من زملائه. ظهر من نتيجة المسح أن الأميركيين والألمان والإيطاليين معرضون أكثر لذرف الدموع من البلغار والصينيين والبيروفيين. ولكن المفارقة هي أن الناس في البلدان الأوفر رخاء وديمقراطية، وكذلك تلك التي تتمتع بأجواء أكثر اعتدالاً، يبكون (أو يقرّون بأنهم بكوا) بتكرار أكثر، كما أن التفاوت ما بين الجنسين يكون أوسع في هذا المجال. وكلما كانت هيكلية الطبقات الإجتماعية أقل تدرّجاً كانت الدموع أكثر، وربما كان هذا يعكس استقلالاً أعلى على المستوى الفردي وتقبلاً لإظهار العواطف والتماس مع الفنون.
من المعروف أن الحزن هو الصاحب الملازم للبكاء عند البشر، ولكن الواقع هو أن معظم الناس يعربون عن شعورهم بالإرتياح مباشرة بعد استسلامهم لنوبة من البكاء. وتقدّر عمليات المسح أن نحو 85 بالمئة من النساء و 73 بالمئة من الرجال يعلنون بصراحة أن وضعهم النفسي يتحسّن بعد أن يسفحوا شيئاً من الدموع. المفارقة هنا هي أن البكاء يكون أكثر ملازمة لحالات الاكتئاب الخفيفة منه للكآبة المرضيّة الشديدة التي تصاحبها أفكار بالإنتحار. وتقول التقارير أن الأدوية الشائعة المضادة للاكتئاب مثل "بروزاك" تقلل الميل إلى البكاء، وهذه الظاهرة تثير القلق لدى كثير من المرضى الذين يتعاطون هذا الدواء ويستمدون منه شعوراً بالراحة.
نسمع من الناس كثيراً أن البكاء يخفف عنهم التوتّر ويعيد إليهم توازنهم العاطفي ويعطيهم متنفساً للتفريغ. والتفريغ هو عملية غسل النفس من المشاعر التي تؤذيها (في الواقع أن الدمع كما يبدو هو الوحيد من بين سوائل الجسم الذي لا يثير في النفس إحساساً بالاشمئزاز). كذلك فإن مصطلح (التفريغ) يتضمن بعداً دينياً ذا صلة بطرد الشرّ ونبذ الخطيئة، لذلك ليس من المستغرب أن نرى الرموز الدينية كثيراً ما تصوّر قدّيساً تسيل من عينيه الدموع وأن المناسبات الدينية في كل مكان من العالم تضع بين اعتباراتها الرئيسة إطلاق العنان للدموع.
البكاء في العالم كله تقريباً شهادة على الحزن، ولكن يذكر بعض المحزونين الذين نزلت بهم مصيبة فقدان حبيب أو قريب أنهم رغم كل حزنهم الصادق لا يستطيعون ذرف الدموع (في بعض الحالات حتى بعد مرور سنوات على رحيل الشخص الحبيب). في الماضي، وخلافاً لما هو عليه الأمر في وقتنا الحاضر حيث هناك احترام أكثر لخلوة المحزون، كان صب الدموع علناً من خلال طقوس خاصة بالقرب من قبر الزوج أو خلال مراسم تشييع زعيم أو ملك يعدّ من الضرورات الإجتماعية والسياسية. وكانت الأرامل يضطررن لتخبئة البصل في مناديلهن تفادياً لامتناع الدموع وهو أمر محرج من شأنه لو حدث أن يصغّر في أعين الآخرين من جسامة حزنهن وشعورهن بفداحة
الخسارة.
كذلك فإن للبكاء غايات اجتماعية أخرى.. حيث كتب روسو في كتابه "الإعترافات" أنه في الوقت الذي يعتبر فيه الدموع من أبلغ آيات الحب كان يطيب له الاستغراق في البكاء بلا سبب .. مجرّد انسياق عبثي لرغبات الذات.
وكما توحي لنا حكاية البصل المخبّأ داخل المناديل فإن البكاء يمكن أن يستغل لاستدرار مشاعر الآخرين. كتب شكسبير في مسرحيته "ترويض النمرة":
ولئن كان الفتى تعوزه موهبة المرأة ..
أن تمطر الدمع مدراراً كما تشاء ..
فإن البصل كفيل بقلب الحال ..
مفهوم اللجوء إلى البكاء للتأثير على الآخرين ما زال حيّاً إلى يومنا، وقد اعترفت مؤلفة اسمها "أنجيلا إيبشتاين" من خلال مقالة نشرتها في شهر أيلول الماضي لصحيفة ديلي ميل قائلة: "عندما تبكي المرأة تكون قاب قوسين أو أدنى من إدراك بغيتها."
وفي محاكم اليونان القديمة كانت الزوجات الباكيات كثيراً ما يدفعن إلى واجهة المشهد في محاولة لاستمالة هيئة الحكّام إذا ما بدا عليهم ميل لصالح الزوج الذي يحاكم. والتفجّر الكبير في كتابة المسرحيات الذي اجتاح فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر حفّز بعض النقّاد على طرح رأي مفاده أن الغاية الأساسية من وراء كتابة التراجيديا هي استدرار الدموع، وبالتالي يكون العمل أقوى كلما استدر دمعاً أغزر. (يحاجج نقّاد آخرون بأن الدموع تؤدي إلى بقاء الحكم معلّقاً لأنها تسمح لمسرحية أدنى مستوى بالحصول على تقييم مبالغ فيه.)
التلازم بين الدموع والفن عريق الجذور ممعن في القدم، فالتراجيديات الأغريقية الكلاسيكية من القرن الخامس قبل الميلاد كانت في أساسها احتفالات بالآلهة، وخصوصاً الإله دايونيسس. والتراجيديات، مثل الشعر والموسيقى، كانت مناسبات دينية تؤدى على المسرح. حتى في ذلك الزمن وعى الناس أن البكاء تأثراً بالدراما يعود على المرء بالسعادة. (من المؤكد أن منتجي الأفلام في هوليوود قد أدركوا هذه الحقيقة أيضاً، ومثلهم كتّاب المسرحيات والمنتجين التلفزيونيين وحتى مقدّمي الأخبار).
سبق لي في مناسبات ماضية أن سقت حججاً تؤيد وجود صلات (عصبية – بايولوجية) تربط بين الفنون واضطرابات المزاج، وأعطيت المقام الأول هنا لما يطلق عليه (النصف الأيمن غير المهيمن من الدماغ) الذي يرتبط عمله ارتباطاً وثيقاً بسلوكياتنا الإجتماعية والثقافية.
في بعض الأحيان ألقي محاضرات عن البكاء، وكثيراً ما أطلب من الحاضرين أن يخبروني، برفع أيديهم، أي الفنون أكثر إثارة لدموعهم. وجدت من هذا أن نحو80 بالمئة يقولون أنها الموسيقى ويليهم عن قرب من يقولون أنها الروايات (74 بالمئة)، ولكن الرقم ينخفض بشدّة إلى 43 بالمئة بالنسبة للشعر، ثم إلى ما بين 10 و 22 بالمئة بالنسبة للرسم والنحت والتشكيل الهندسي. يسألني البعض في مناسبات كثيرة لم لا أضيف الأفلام السينمائية أيضاً إلى قائمة الفنون في عمليات المسح هذه، والسبب هو أن العامل المحرّك للعواطف في الأفلام السينمائية عادة ما يكون الموسيقى. ولنأخذ شاهداً على هذا القول الفيلم (الصامت) لمايكل هازانافيكوس الذي عرض قبل فترة قريبة وعنوانه "الفنّان"، وفاز بجائزة الأوسكار كأحسن فيلم في العام الماضي. هذا الفيلم، الذي هو أبعد ما يكون عن أن يكون صامتاً، يدين بقوّة إثارته للعواطف لموسيقاه الراقية.
من الناحية البدنية يعتمد فعل البكاء أساساً على الشهيق – على عكس الضحك الذي يعتمد على الزفير – والأجزاء التي تشارك فيه هي سقف الحلق الرخو والحنجرة والبلعوم. والبكاء فعل يتعارض مع جهد الكلام، لهذا نشعر بالإختناق واحتباس الصوت حين نبكي. وقد أوحت هذه الملاحظة لعلماء اللغات والإنسان أن البكاء المعبّر عن المشاعر كان أسبق تطوّراً من لغة البيان، ولعلّ هذا يفسّر القدرة التي تمتلكها الدموع على نقل صورة الحالة الذهنية والأحاسيس التي يصعب في كثير من الأحيان التعبير عنها بالكلمات. وبالطبع أن قراءة المشاعر (من خلال إيماءات الوجه) كانت من بين الأسباب الأساسية التي مكّنت الإنسان من
البقاء.
دبّ أسلاف الإنسان الأوائل على وجه الأرض قبل ملايين عديدة من السنين، ولكن الثقافات واللغة والدين والفنون لم تظهر إلا بظهور الإنسان العاقل (المسمى علمياً هومو سيبينز) أي قبل 150 إلى 200 ألف سنة. وخلال هذه المسيرة تخطت الدموع دورها البايولوجي كضرورة لترطيب العين وحمايتها فاستحالت إلى شيفرة لإيصال العواطف العميقة ودلالة على الأواصر الإجتماعية. فتطوّر الإحساس بالذات ومفهوم الهويّة الفردية (أو الإعتداد) وتناقل الحكايات عن أصل العالم وخلق الإنسان والحياة بعد الموت، والقدرة على الإحساس بأحزان الآخرين كانت كلها أجزاء حساسة من عملية التحوّل العصبية البايولوجية التي صنعت منا بشراً. مؤخراً أنبأنا علم الأعصاب أن دوائر معيّنة في الدماغ تتحفّز بسرعة وبلا وعي منا حين نرى شخصاً في أزمة. مجمل القول أن أدمغتنا قد طوّرت دوائر تسمح لنا بأن نرقّ ونشعر بالتعاطف، وهذا بدوره هو الذي جعل الحضارة والأخلاق القائمة على أساس العطف أموراً ممكنة. لذلك عليك في المرة المقبلة وأنت تمدّ يدك إلى علبة المناديل، أو حين تشعر بالعبرات تخنقك وأنت على كتف صديق، أو يعتريك الإحساس بداخلك يتمزّق وأنت تشاهد فيلماً مؤثراً، أن تتوقّف وتتأمل الأسباب التي تجعلنا نبكي وما الذي يعنيه البكاء .. لأننا بالنتيجة حين نحب أن نبكي إنما نبكي لأننا نحب. * مايكل ترمبل بروفسور فخري في علم الأعصاب السلوكي وأستاذ استشاري في علم النفس العصبي من معهد الأعصاب التابع لجامعة لندن، وهو مؤلف كتاب سيصدر قريباً بعنوان: "لماذا يحب البشر البكاء: التراجيديا والتطوّر والدماغ."
عن صحيفة نيويورك تايمز