ليلة الغدر في محراب الكوفة
في ليلة مظلمة من ليالي شهر رمضان، ساد السكون في أرجاء الكوفة، تلك المدينة التي كانت شاهدة على عدالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وزهده وحكمته. لم يكن أهلها يعلمون أن الفجر القادم سيحمل معه جرحًا لن يندمل في قلب الأمة، وأن سيفًا غادرًا سينهي حياة رجلٍ لم يكن إلا تجسيدًا للحق والعدل.
المؤامرة تحاك في الظلام
عبدالرحمن بن ملجم عليه لعائن الله … كان قد وقع في حب امرأة تُدعى قطام ، وهي امرأة قُتل أهلها في النهروان، فامتلأ قلبها حقدًا على الإمام علي (ع). وحين طلبها ابن ملجم للزواج، اشترطت عليه مهرًا لم تطلبه امرأة قبله… اغتيال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)!
لم يتردد ابن ملجم، فقد كان قلبه قد امتلأ غلاً وضلالًا، فأخذ سيفه المسموم، ويمم وجهه نحو الكوفة، حيث كان الإمام علي (ع) يحكم بين الناس بعدلٍ لم يشهدوه من قبل.
ليلة القدر… والضربة الغادرة
كانت ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، ليلة قد تكون ليلة القدر… خرج الإمام علي (ع) من داره وهو يوقظ الناس لصلاة الفجر.
دخل الإمام المسجد، وكان السكون يلف المكان إلا من أنين المتهجدين. وقف في المحراب، رفع يديه إلى السماء، وبدأ صلاته…
وفي تلك اللحظة، كان ابن ملجم يترقب في الظلال، وعيناه تقدحان بالشر، وسيفه المسقي بالسم يرتجف في يده…
وحين سجد الإمام علي ، هجم ابن ملجم من الخلف، وهوى بسيفه على رأس الإمام، شق جبهته حتى وصل إلى موضع السجود…
اهتز المسجد بصوت الإمام وهو يقول:
"فزتُ ورب الكعبة!"
تردد صدى كلماته في أرجاء المكان، وانطلقت صرخة في أرجاء الكوفة: "قتل أمير المؤمنين!"
وصيته قبل الرحيل
حُمل الإمام إلى داره، والدماء تسيل من جرحه، وكان وجهه مغمورًا بنور لم يخبُ رغم الألم. اجتمع أهل بيته من حوله، وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) يبكيان، فأوصاهما قائلًا:
"الله الله في الأيتام، لا تغبوا أفواههم جوعًا، ولا تضيعوا حقهم وأنا حي، فإني سمعت رسول الله يقول: من عال يتيمًا كان معي في الجنة."
أما قاتله، فقد قُبض عليه وجيء به مكبلًا. كان الإمام ينظر إليه نظرة رحمة، ثم قال:
"أطعموا أسيركم، واسقوه، وأحسنوا إليه. إن أعش، فأنا ولي دمي، وإن أمت، فاقتصوا مني بضربة واحدة، ولا تمثلوا بالرجل، فإن رسول الله (ص) نهى عن المثلة حتى بالكلب العقور."
كانت تلك دروسه الأخيرة… حتى مع قاتله، لم ينسَ العدل ولم ينسَ الرحمة.
وفي ليلة الواحد والعشرين من رمضان، ارتفعت روحه الطاهرة إلى بارئها، وأظلمت الدنيا برحيله… دفنه أبناؤه سرًا في النجف الأشرف، بعيدًا عن أيدي الظالمين، وبقي قبره مخفيًا حتى كشف عنه الأئمة فيما بعد.
وهكذا، طوى التاريخ صفحة من أنبل صفحات العدالة، لكنها لم تُمحَ من قلوب المؤمنين، فكل دمعة تُسكب في ذكرى استشهاده، وكل لطم صدرٍ في عزائه، هو صرخة تقول: يا ليتنا كنا معك، فنفوز فوزًا عظيمًا!