منزله "مُسح مع الأرض" خلال معارك الموصل التي انتهت عام 2017 بتحرير المدينة من قبضة داعش، إلا أن نكبة المواطن العراقي، صالح يونس، لم تتوقف هنا، فمساعيه لإعادة الإعمار اصطدمت بـ"منع حكومي".
صالح ليس الوحيد الذي لم يعد لمنزله في الموصل، فهناك آلاف العائلات الموصلية بعيدة عن منازلها في المنطقة القديمة الواقعة على الضفة اليمنى لنهر دجلة، حيث حظيت بنصيب الحرب الأكبر من الدمار.
فبعد مضيِّ نحو ثماني سنوات على تحرير المدينة من سيطرة تنظيم داعش، لا تزال قضية إعادة الإعمار جرحًا مفتوحًا عند الموصليين، فهي، وفق رأيهم، مسألة مستعصية دون حلول قريبة وجذرية تلوح في الأفق.
ورغم جهود المنظمات الدولية والمحلية والمبادرات المجتمعية، فضلًا عن صرف الحكومة الاتحادية تعويضات مالية للمتضررين، فإن آلاف المنازل في منطقة الموصل القديمة لا تزال متضررة جزئيًا أو بالكامل.
ومنذ سنوات، يترقب أصحاب العقارات المدمرة مبادرات حكومية فعّالة وعاجلة لإعادتهم إلى منازلهم ووضع حد لمعاناتهم. وتختلف العوائق التي تمنعهم من إعادة إعمار أو ترميم منازلهم بين عراقيل إدارية وأخرى مادية وتقصير حكومي.
فصالح يونس قال لموقع "الحرة" إن منزله المطل على نهر دجلة قد مُسح مع الأرض، بعد أن تعرض لقصف جوي بثلاثة صواريخ خلال الحرب على تنظيم داعش، وفقًا لروايته.
ورغم أنه لا يحتاج إلى دعم أي منظمة أو تعويض من الحكومة، فإن صالح، وهو في بداية السبعينيات من عمره، تفاجأ بعد أن حدد خريطة لمنزله من نوع خاص "تراثية"، لإعادة بنائه وشرع بالفعل في المشروع.
ولكنه اصطدم بمنع جهة حكومية معينة، رفض ذكر اسمها، حيث إنها منعته من استكمال العمل لأسباب سياسية واقتصادية، حسب قوله، بهدف إنشاء مشروع الواجهة النهرية.
وهذا الحال ينطبق على جميع المواطنين الذين تقع منازلهم على ضفة النهر، وفق ما أضاف يونس.
وطالب الحكومة الاتحادية بمحاسبة تلك الجهة والسماح له بإعادة بناء منزله الذي يمتلكه وورثه عن أجداده، حيث يشعر بحسرة لعدم تمكنه من العودة إلى منطقته القديمة.
وفيما يتعلق بعمليات الإعمار، أوضح صالح أن الأولوية ينبغي أن تكون للمرافق الحيوية، مثل الصحة والتعليم والكهرباء والخدمات الرئيسية في المنطقة القديمة.
واعتبر أن إعادة إعمار هذه المرافق يجب ألا يكون على حساب إعادة بناء المنازل التي دُمّرت بسبب الحرب على داعش، خاصة أن المواطنين ليس لهم أي ذنب فيما حدث.
أما المواطن رسول محمد، وهو شاب من منطقة الموصل القديمة، فيقطن حاليًا في منزل بالإيجار في الجانب الأيسر من مدينة الموصل، بعد أن تهدم منزله بشكل كامل.
وهو عاجز عن إعادة بناء منزله، لا سيما أن الأمر يتطلب مبالغ ضخمة لا يمكنه تأمينها، خاصة أنه يعمل في مطعم محلي، بأجر يومي لا يتعدى 15 ألف دينار عراقي.
وأكد رسول أنه قدم جميع الأوراق المطلوبة لمعاملة التعويض في عام 2019، لكنه لا يزال ينتظر الحصول على التعويض المادي من الحكومة.
وطالب الحكومة المحلية والاتحادية بالتحرك بشكل عاجل لإنهاء أزمته، ليتمكن من التخلص من بدلات الإيجار التي أرهقت ميزانيته وميزانية والده المتقاعد.
وأعرب رسول عن تشاؤمه، لا سيما أن الحكومة لا تُولي اهتمامًا كبيرًا لهذه المنطقة التي شهدت دمارًا هائلًا وفقدان الآلاف من أرواح سكانها.
ورغم بدء عمليات الإعمار في الموصل، فإن البنى التحتية الأساسية لم تحظَ بالاهتمام الكافي، مثل مجمع المستشفيات الذي لا يزال مدمَّرًا، وكذلك المدارس، إضافة إلى خدمات الكهرباء والماء، التي لم تُستكمل بعد في عموم المنطقة القديمة.
تعويضات لا تُعيد الحياة
يؤكد المواطن عبدالله سمير، الشاب في الثلاثينات من عمره، أنه استلم مبلغ التعويض البالغ 19 مليون دينار عراقي، ما يعادل نحو 13 ألف دولار أميركي.
ويضيف، في حديثه مع موقع "الحرة"، أنه رغم ذلك، لا يزال يعيش وأفراد عائلته الأربعة في منزل مستأجر في منطقة أخرى بالجانب الأيمن من مدينة الموصل.
وبيّن أن مبلغ التعويض لا يكفي لترميم منزله الكبير، الذي دُمّر أكثر من نصفه إثر تعرضه لصاروخ خلال الحرب.
وطالب الحكومة بإيجاد حلول جذرية لهذه المشكلة، رغم يأسه من أن تنصفه وتنصف آلافًا من أقرانه.
كما يعتقد أن إعادة الحياة بالكامل إلى المنطقة القديمة ستستغرق سنوات طويلة، ويشعر بالإحباط من بطء عملية إعادة الإعمار في تلك المنطقة، حسب قوله.
وأكد أن عمليات الإعمار جارية في الموصل، لكنها أكثر وضوحاً في الجانب الأيسر مقارنة بالمنطقة القديمة، التي طالها دمار الحرب، معتبراً أن حملات الإعمار، سواء كانت عبر مبادرات شبابية أو منظمات دولية، لن تكون منصفة للجميع، على حد تعبيره.
ويرى سمير أن هناك حاجة لحملات حكومية حقيقية بميزانيات خاصة لتلك المنطقة.
أما نزار السماك، الذي يعمل في مهنة الصيد وبيع السمك في المنطقة القديمة، فيقول إن المدينة خرجت من حرب وبالتأكيد تحتاج إلى فترات زمنية طويلة لإعادة الحياة فيها.
ويشير إلى أن منزله تضرر بشكل جزئي، وبعد أن يأس من الحصول على مبلغ التعويض، خصوصاً مع مرور ست سنوات على تقديم معاملته، قرر بيع سيارته وترميم منزله ليعود مع عائلته إلى المنطقة القديمة.
ويؤكد نزار أن العديد من المنازل المتضررة تم ترميمها بفضل مبادرات شبابية، في حين أن المنظمات الدولية رممت العشرات من المنازل المتضررة.
وطالب بضرورة اهتمام الحكومة بهذه المنطقة، خاصة فيما يتعلق بتعويض الأهالي وتوفير الخدمات فيها بشكل جيد، لإعادة الحياة إليها من جديد.
12 ألف منزل مدمر و72 ألف تعويض
وتواصل موقع "الحرة" مع قائم مقام قضاء الموصل للحديث عن هذه القضية، وتحديداً عدد المنازل المدمرة في الموصل القديمة، إلا أنه اعتذر عن التعليق، قائلاً إن البيانات لا تتوفر لديه في الوقت الحالي.
وكان قائم مقام قضاء الموصل السابق، أمين الفنش، قد قال في تصريح سابق لـ"الحرة" منتصف العام الماضي، إن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن عدد المنازل المدمرة بنسبة ضرر تتراوح بين 80 و100 بالمئة في المنطقة القديمة بالجانب الأيمن يصل إلى أكثر من 12 ألف وحدة سكنية.
ويُقدّر عدد المنازل المتضررة بنسبة 60 إلى 80 بالمئة بقرابة 25 ألف وحدة سكنية في منطقة الموصل القديمة ومحيطها، التي شهدت معارك عنيفة فضلاً عن القصف الجوي والمدفعي الذي طالها، وفق الفنش.
وبحسب إحصائيات منتصف عام 2024، بيّن الفنش أن نحو 10 آلاف منزل لا يزال مدمراً حتى الآن.
وأكد الفنش أنه منذ عام 2018 حتى منتصف عام 2024، تم التصديق على نحو 72 ألف معاملة تعويض من قبل القضاء والجهات المعنية الأخرى.
وحسب قائم مقام قضاء الموصل السابق، صرفت الجهات المختصة تعويضات لأكثر من 25 ألف مواطن تضررت منازلهم ومرافقهم التجارية، على غرار العمارات والمحال، سواء بشكل جزئي أو كلي.
وبعد انتهاء الحرب على تنظيم داعش وتطهير المناطق المحيطة بالمنطقة القديمة من المخلفات والألغام الحربية، قال الفنش إن حكومة نينوى المحلية بدأت بتوجيه كافة جهودها وإمكاناتها نحو المنطقة القديمة.
وعمدت إلى إعادة تأهيل شبكات الكهرباء وتوفير المياه الصالحة للشرب، بالإضافة إلى ترميم المدارس والمراكز الصحية في محيط تلك المنطقة، كما تم إجراء صيانة لشبكة المجاري.
وأكد أن هناك صعوبات كبيرة في إعادة الحياة داخل المنطقة القديمة، بسبب وجود كميات كبيرة من المخلفات الحربية والألغام حينها، فضلاً عن تداخل أزقتها وضيق شوارعها، مما يصعب استخدام الآليات في المنطقة، خاصة أن المنازل فيها بُنيت على تلال ومرتفعات.
وكانت حكومة نينوى المحلية أعدت، وفق مشروع الواجهة النهرية في المنطقة المطلة على نهر دجلة، الواقعة بين الجسر القديم والجسر الخامس، في الجانب الأيمن من الموصل، بطول 1083 متراً وبعمق 350 متراً، بتكلفة تتجاوز 62 مليار دينار عراقي.
وبيّن الفنش أن هذه التكلفة تشمل دراسة المشروع وتصاميمه التي تتناغم مع العمارة الموصلية التراثية، حيث سيكون المشروع معلماً حضارياً، يعيد المنطقة إلى حالة أفضل مما كانت عليه، كما سيتم تعويض المواطنين الذين يمتلكون المنازل المطلة على نهر دجلة ضمن نطاق المشروع.
منعطفات التعويضات
وأكد المتحدث باسم الأمانة العامة لمجلس الوزراء، حيدر مجيد، لموقع "الحرة"، أن الأمانة العامة كانت قد شكلت لجنتين بناءً على الطلبات المتزايدة لتعويض المتضررين من جراء العمليات الإرهابية والأخطاء العسكرية، وأيضاً العمليات الحربية في عموم المحافظات.
وقال إن التعويضات تشمل المنازل المتضررة جزئياً وكلياً، بالإضافة إلى الممتلكات الخاصة والمركبات.
وأضاف أن اللجنتين تعملان بالتنسيق مع عدة وزارات، ولها لجان فرعية في المحافظات تقوم بترويج معاملات المواطنين، ويتم تدقيق هذه المعاملات بعدة مراحل، منها التدقيق الأمني، والتأكد من وجود ما يثبت الضرر بشكل ملموس بتأييد من الجهات المعنية.
وبعد استكمال هذه الإجراءات، تُرسل المعاملات إلى اللجان المركزية في الأمانة، التي بدورها تدقق الأضابير وتصدر قرارها النهائي بالتعويض، ثم تُرسل إلى وزارة المالية للصرف المالي، وفق مجيد.
وأشار مجيد إلى سببين رئيسيين لرفض بعض المعاملات، الأول هو وجود نقص في الأوراق المطلوبة، حيث يتم تبليغ المواطن لاستكمالها خلال شهر واحد، ثم تُعاد المعاملة إلى اللجنة المركزية للنظر فيها وإصدار قرار بشأنها.
أما السبب الثاني، فيتمثل في عدم استيفاء المعاملة للشروط القانونية، وفي هذه الحالة يتم رفضها بشكل نهائي.
وفيما يتعلق بمحافظة نينوى بالتحديد، فقد تم منذ عام 2022 حتى نهاية 2024 إصدار قرارات صحيحة ونهائية بشأن 400 معاملة تعويض للمتضررين.
وتمت المصادقة عليها وإرسالها إلى وزارة المالية، بمبلغ إجمالي قدره 14 مليار دينار عراقي.
وحسب المصدر نفسه، هناك معاملات أخرى، إما غير صحيحة بمعنى غير مشمولة بالقانون، وسيتم رفضها نهائياً، أو تحتوي على نقص في الأوراق المطلوبة، حيث تم إعادتها إلى اللجنة الفرعية في محافظة نينوى، وتُقدّر بأكثر من 1600 معاملة، ليتم اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها.
وبشأن اعتراضات المواطنين على تخفيض المبالغ التعويضية، أوضح مجيد أن هناك فقرة ضمن قانون الموازنة تنص على أن مبلغ التعويض الذي تُحدده اللجان الفرعية في المحافظات، يتم صرفه بنسبة 50 بالمئة من المبلغ الإجمالي، بحسب ما قدّرته اللجنة من أضرار.
وبيّن أنه لا يمكن لأي شخص أو لجنة، سواء كانت فرعية أو مركزية، التلاعب بهذه المحددات القانونية، مؤكدا أن هذا يأتي رداً على شكاوى المواطنين الذين يعتقدون أن اللجان المركزية هي من خفضت نسبة التعويض.
وأضاف أن صلاحية إجراء تعديلات على هذه الفقرة القانونية لزيادة نسبة التعويض محصورة في مجلس النواب.
وعن أسباب رفض بعض المعاملات الخاصة بالتعويض، كشف مجيد عن تدقيق أمني في حالات معاملات تروج لمنازل أو ممتلكات متضررة تعود لأشخاص من عناصر تنظيم داعش.
وكشف عن تدقيق أمني في هذه الحالات، حيث يتم رفض هذه الأضابير نهائياً، بالإضافة إلى ذلك، هناك أعداد كبيرة أخرى من المعاملات المزورة التي تهدف فقط إلى الحصول على التعويضات دون وجه حق.
ويعزو تأخر إنجاز المعاملات إلى اصطدام التوجيهات الحكومية المتعلقة بتقديم التسهيلات بالقوانين، ما يؤدي إلى تأخير في إكمال المعاملات الخاصة بالتعويضات.
ومع ذلك، الحكومة الاتحادية تعمل على تسهيل الإجراءات لتعويض جميع المتضررين، وفق مجيد.
ومن ضمن تلك التوجيهات، تم إنشاء لجنة مركزية ثانية أسهمت في إنجاز قرابة 2000 معاملة من مجموع 7 آلاف معاملة كانت متراكمة في المحافظات المحررة، بينها محافظة نينوى من عام 2022 إلى نهاية 2024، حسب مجيد.
حامد الزبيدي ـ الموصل
مصدر الخبر :
https://www.alhurra.com/iraq/2025/02...AC%D8%B2%D8%A9