حصن سليمان: ميثولوجيا الطبيعة
عندما تقع عيناك على الحجارة الكبيرة التي بُني منها سور حصن سليمان والتي تصل إلى عشرة أمتار طولًا والمترين ونصف المتر ارتفاعًا، ويصل وزن بعضها إلى 70 طنًّا، تحتار كيف اقتطعت، ونحتت، وبنيت بتلك الدّقّة المتناهية. فتدهش من الأمر، وحتى لو كان لديك تصوّر عمليّ ما عن كيفية عمارتها، إلّا أنّك تتخذ منحى تخييليًّا في حكمك، وتقول: من بنى هذا الحصن قد كان من جنّ سليمان! وهذا التعليل قد قالته العرب، عندما شاهدوا آثار تدمر، ليس لاستحالة القيام بمثلها، بل استنباطًا أحفوريًّا أسطوريًّا للتاريخ الذي قصّ على مسامعهم. ولمّا مرّوا بحصن سليمان كانت خيالات الجنّ تتراءى وراء عمارة تلك الحجارة الضخمة.
إنّ حيازة الواقع وفهمه، لا تقوم فقط على المعطى الحسّي، بل التخييلي أيضًا، وذلك لربطه بالأسطورة النشوئية، أو التعليلية، التي كانت علم وعقائد تلك الأزمنة القديمة.
يذهب الباحث طارق أحمد في مجلة "الحوليات الأثرية السورية" إلى تأصيل بناء الحصن استنادًا إلى المعتقدات الميثولوجية، حيث وجد بأنّ حجارته الضخمة قد قدّت من ذات الصخرة المقدسة التي بني عليها المعبد. وهذه الصخرة الضخمة شكّلت ساحة الحصن الداخلية، وعليها أقيم هيكل ومذبح للإله بعلشمين/ زيوس. ويضيف بأنّ كلّ ما نال الصخرة من تنظيم بنائي، من قطع ونحت وصقل، كان من أجل إبراز وظيفتها كصخرة مقدسة ينبثق منها الهيكل المقدس تعبيرًا عن قوة الآلهة. ارتبطت عناصر الطبيعة قديمًا بالعنصر الميتافيزيقي، حيث تصبح الجبال مساكن أو مجالس الآلهة والينابيع والغابات كذلك. ولكي نعلّل السبب بأنّ حجارة السور اقتطعت من الصخرة الأم، لا بدّ من أن نبحث عن معابد أخرى نحتت بالطريقة نفسها. لعبت الصخور الكبيرة والصغيرة دورًا دينيّا في حياة الإنسان، ليس أقلّها أن تنحت منها الأصنام، أو تتم عبادتها بشكلها الطبيعي، أو عن طريق تشكيلها بالعمارة بصورة تخدم تجلي قوة الإله من خلال بنيتها الصمّاء. هكذا نجد معبد زيوس في فقرا/ لبنان قد نحت ضمن الصخرة الضخمة، فيما تركت حوافها من دون تشذيب، وكأنّ المعبد قد ولد من رحم الصخر. تتكرّر هذه الثيمة الهندسية في كثير من المعابد الدينية الوثنية في العالم، وفي سورية، ولذلك حملت النقود الرومانية نقوشًا للصخور المقدسة، تبيّن الدور الذي لعبته الأحجار في تلك الأزمنة، كما الحجر المخروطي الممثّل لإله الشمس في حمص.
لا يكتمل المشهد الميتافيزيقي لحصن سليمان من دون وجود نبع له من القدسية شيء كثير. وهذا النبع يقع في القسم الجنوبي الغربي من حصن سليمان. تكثر الأساطير المتعلّقة بالماء فقد عدته المادة البدئية التي خلق منها الكون. وهكذا تسلسل تقديس الماء والاهتمام بمعانيه في كثير من العقائد الدينية، فليس غريبًا أن يكون الحصن قد بُني على نبع ماء مقدسٍ. وإذا استندنا إلى كتاب "منتخبات التواريخ والآثار" للدكتور جوزيف عبد الله، الذي يذكر فيه مدونات الرحّالة، من أزمنة الصليبين إلى منتصف القرن العشرين، نجد بأنّ هؤلاء الرحّالة قد دوّنوا ما شاهدوه بين اللاذقية وطرابلس مرورًا بطرطوس ومحيطها الجغرافي من معالم طبيعية وآثار قديمة. وقد ذكروا أخبارًا عن كل الينابيع ذات الصبغة المقدسة، والتي تفيض في أيام محددة من السنة مرتبطة بمناسبات دينية، فيما تبقى جافة طوال العام. وقد لحظ الرحالة ناصر خسرو هذه الاعتقادات الدينية في المنطقة حول الينابيع.
كان لحصن سليمان اسم قديم، وهو بيت خيخي/ كيكي. ويرى الرحالة رونيه دوسّو بأنّ خيخي/ كيكي مرتبط بنبات الخروع، والكلمة خيخي تعود إلى جذر (قيق) السامي الذي يعني الخروع، وتُنسب له قوى شفائية ضدّ الأمراض؛ إذًا يرتبط المعبد بشجرة معينة، أو بالغابة ككل. كانت الأشجار في القديم ذات أبعاد دينية، لذلك نجد على سواكف أبواب سور الحصن نحتًا لشجرة السنديان، وقربها نحت لسبع مفترس دلالة الخصب والقوة. وقد وجد الباحث ريه كوكيه كتابةً في أحد أجزاء المعبد عن الخاصية الشفائية لنبات لم تحدّد هويته، لكن على ما يبدو أنّه نبات الخروع. ولا ريب أنّ الخروع كان منتشرًا بكثرة في تلك المناطق قديمًا.
بعد أن جمعنا العناصر الثلاثة: الصخرة والنبع والغابة، نستطيع أن نفهم لماذا تم اختيار هذا الموقع لبناء حصن سليمان. فهذا الموقع كان يحتوي على العناصر المقدسة، لذلك كان المكان الأنسب لبناء المعبد. هذه الطريقة في اختيار مواقع المعابد المقدسة منتشرة كثيرًا في تاريخ الأديان الوثنية والسماوية.
كان حصن سليمان مقصدًا للرحّالة في القرون الثلاثة الماضية، حيث ذكره رونيه دوسّو في رحلته عام 1896، ووضع وصفًا مفصلًا له. وقد أشار دوسّو إلى أن النقش على الباب الشمالي هو تثبيت من الإمبراطورين فاليريان وغاليان للامتيازات التي منحها ملوك سورية لسكان حصن سليمان/ بيت كيكي، وذلك في القرن الثالث الميلادي. وينصّ أحد النقوش على أنّ السكان قد شيّدوا هذا المعبد من مالهم الخاص للإله بيت خيخي/ كيكي أواخر القرن الثاني الميلادي. وقد مُنح المعبد التحريمات الملازمة للمعابد الدينية، فقد نُصّ على أنّ من يلجأ إلى المعبد طلبًا للأمان له حق الحماية من دون سؤال. ورأى دوسّو تشابهًا بين حجارة بعلبك وحصن سليمان. وأثبت دوسّو بأنّ الثقوب الموجودة على الأبواب كانت لتثبيت الأحرف بدلالة وجود بقيّة من ألسنة نحاسية تعلّق الأحرف عليها. وأشار إلى وجود منحوتات عديدة على أبواب الحصن، منها منحوتة لسبع وشجرة سنديان، ونسر باسط جناحيه يحمل صولجانًا ويقف حوله ولدان مقدسان. وقد عمل دوسّو على استخراج رأس سبع مزخرف. وهو يرى بأنّ هذا النقش كان يمثل لدى اليونان رمز القوة.
كذلك مرّ بالحصن الباحث هنري لامنس، الذي لاحظ بأنّ هنالك علاقة وطيدة بين الحصن وجزيرة أرواد، وأشار إلى أنّ السبع المزيّن بشريطة، وهو الذي ذكره دوسّو، غير موجود! يذكر عبد الرحمن الخير في مقال له عن حصن سليمان في مجلة "القيثارة" عام 1946 بأنّ أحد المستشرقين الفرنسيين حاول أن ينتزع رأس عشتار من الجهة الداخلية للباب الشرقي بواسطة فأس. فهل لنا أن نظنّ بأنّ السبع المزخرف أصبح في عهدة الرحّالة دوسّو!
بدأت حياة هذه الحصن قبل الميلاد عندما بناه الفينيقيون/ الآراميون، ومن ثمّ ورثه عنهم الإغريق، ومن بعدهم الرومان. وقد ذكره ياقوت الحموي عندما عسكر جند المسلمين قربه. تتابعت القرون وما زال صامدًا ممثلًا ميثولوجيًّا للطبيعة بأبهى حلّلها: صخرة ونبع وغابة.
يقع الحصن في محافظة طرطوس في المنطقة الساحلية الجبلية في سورية. يبعد عن مدينة طرطوس المتموضعة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط حوالي 50 كم شرقًا، وعن صافيتا حوالي 20 كم. ويتوسّط هضبة جبلية تحيط بها التلال. يرتفع حوالي 800 متر عن سطح البحر في الجهة الشمالية الغربية من قمة النبي صالح. كان المعبد محلًّا لعمليات مسح وحفر عديدة في القرن العشرين، لاستكشاف خباياه، لكن نظرة حاليّة إليه لا تستطيع أن تغض النظر عن الإهمال الذي يطاوله، حيث بعض أحجار الهيكل تكاد تتهاوى.