اللقاء الذي أضاء القلوب
دخلتُ العيادة، فوجدتُ أمامي سيدة مسنّة، تحمل بين تجاعيد وجهها حكايا الزمن، وترتدي على كتفيها وشاحًا من الصبر والرضا. بجانبها، وقفت ابنتها، ملامحها تنبض بالمحبة، لكن في عينيها شبح الاعتياد الذي يُنسي النعم حين تصبح جزءًا من تفاصيل الحياة.
ابتسمتُ للحاجة زكية، ذات الخمسة والثمانين عامًا، وسألتها برفق:
”كيف حالكِ يا حجة زكية؟“
أجابتني بصوت يفيض سكينةً وطمأنينةً، كأنما مرّ العمر ليمنحها حكمةَ الكون:
”الحمد لله، يا بنيّ.“
التفتُّ نحو ابنتها، وفي قلبي يقينٌ لا يتزعزع:
”هذه والدتكِ، أليس كذلك؟“
أجابت بثقة لم تتجاوز الكلمات:
”نعم، هي أمي.“
نظرتُ إليها، ثم قلتُ بصوتٍ هادئ، لكنه حمل كل ما في قلبي من صدق:
”هذه ليست مجرد أم… هذه كنزٌ من الأجر والثواب، ينبوعٌ من البركة والخير. حافظوا عليها، ففي وجودها تحلّ السكينة، وفي دعائها تفتح لكم أبواب السماء.“
رأيتُ في عينيها لمعة دهشة، وكأنها تسمع هذه الحقيقة لأول مرة. ربما لم تفكر يومًا في أمها بهذه الطريقة… ربما كانت تراها واجبًا أكثر من كونها نعمةً تستحق الشكر.
أضفتُ، وصوتي يختزن وجع الفقد:
”لا تتعجبي… في الشهر الماضي، فقدتُ أمي، وعندها فقط أدركتُ كم كانت بابًا للخير، ومصدرًا للبركة. رحلت، فشعرتُ أنني فقدتُ ظلًّا كان يسترني، ودعاءً كان يحميني، وحنانًا لم ولن يعوّضه أحد. رحلت، فأدركتُ أن البيت فقد نوره، وأن القلب فقد جزءًا منه لا يُعوّض.“
التفتُّ إلى الحاجة زكية، وسألتها بلطف:
”هل أديتِ فريضة الحج؟“
أجابتني بابتسامة حملت معها ذكريات الطواف والسعي، ودموع المهابة أمام الكعبة:
”نعم، مرتين.“
نظرتُ إلى ابنتها، وقلتُ بحزم ممزوجٍ بالودّ:
"لو لم تكن قد أدّت الحج، لوجب عليكم أن تحجّوا عنها. والآن، وقد حجّت، فاجعلوا لها طريقًا إلى مزيدٍ من الخير…
قالت ابنتها إنها ترغب في أداء العمرة…
قلت: لبّوا رغبتها. لا تحرموها من هذه السعادة، وكونوا بارّين بها، فخدمتها بابٌ مفتوحٌ للرحمة، وزيادةٌ في حسناتكم."
ثم تنهدتُ، وقلتُ بصوتٍ يملؤه الشوق والحسرة، كأنني أخاطب روحًا لم تفارقني رغم غيابها:
”أماه… كم كنتِ عظيمة، وكم كنتُ صغيرًا في إدراكي لمعنى وجودكِ! ظننتُ أنكِ باقية، وظننتُ أن الأيام ستطول بنا معًا، حتى رحلتِ فجأة، فأدركتُ أني كنتُ غافلًا. رحلتِ يا أمي، فذهب معكِ دعاؤكِ الذي كان يسبقني إلى الخير، ويدفع عني البلاء… رحلتِ، وعلمتُ أن برّ الوالدين ليس مجرد كلمات، بل حياة تُعاش، وقلوب تُملأ بحبٍّ لا ينضب، ويدٌ تمسك يدًا لتقودها إلى الجنة.“
ختاما إلى كل من يقرأ هذه الكلمات، أقول:
”يا من لا تزال أمّه على قيد الحياة، لا تضيعوا الفرصة… قبّلوا أيديهن، استمعوا إلى وصاياهن، اسهروا على راحتهن، وكونوا لهن ظلًّا كما كنّ لكم ملجأً في صغركم… فبرّ الأم ليس مجرد واجب، بل طريقٌ إلى الجنة، ومسلكٌ إلى الرحمة، وعنوانٌ للسعادة في الدنيا والآخرة.“