سيفار مدينة الجن الغامضة بصحراء الجزائر التي حيرت العلماء
في قلب الصحراء الجزائرية، حيث يحكم الصمت المطلق والهدوء العميق، تتكشف لوحة طبيعية تحبس الأنفاس، في تلك البقعة الصحراوية، يمكنك سماع ذرات الرمال تحت قدميك، تحيطك تشكيلات صخرية غريبة نحتتها البراكين والعوامل الطبيعية، ولا تقل فنا وإبداعا عما تراه في معارض النحت المعاصر، وعلى مدى النظر تلتقي السماء الصافية مع أرض الصحراء القاحلة في نقطة واحدة، لوهلة تشعر أن الأرض تحوي السماء، بينما تقترب السماء لتربت على الأرض، التي كانت يوما ما واحة خضراء مفعمة بجميع أشكال الحياة منذ آلاف السنين.
فمدينة سيفار (بالفرنسية: Sivar) ، يطلق عليها أحيانًا مدينة الأحجار أو مدينة الجن ، أكبر مدينة كهفية في العالم. تقع في قلب سلسلة جبال طاسيلي ناجر، على بعد 2400 كلم جنوب الجزائر العاصمة، بالقرب من الحدود الليبية. هذا الموقع ، ويعد أيضًا أكبر متحف في الهواء الطلق لفن ما قبل التاريخ في العالم، يضم عشرات الآلاف من الرسومات والنقوش واللوحات الصخرية، التي اكتشفها المستكشف الفرنسي وعالم الأنثروبولوجي، هنري لوت في الخمسينيات من القرن الماضي. وهي مصنفة ضمن التراث العالمي للبشرية منذ تصنيف حظيرة الطاسيلي ناجر من طرف اليونيسكو سنة 1982.
أرض الخرافات
مدينة سيفار الواقعة في صحراء الجزائر تحتوي على واحد من أهم النقوش على جدران الكهوف التي تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ.
تلك النقوش التي أثارت الكثير من الشائعات والأقاويل حول هذه المنطقة، وساهمت صعوبة التجول بين دهاليز جبالها وممراتها الضيقة في تغذية تلك الشائعات والنظريات الغرائبية والخرافات المنسوجة حول طاسيلي. يصدق البعض أن هناك كائنات فضائية عاشت منذ آلاف السنين على أرض طاسيلي، بينما تقول نظريات أخرى إن المدينة كان يسكنها الجن وهم مَن نقشوا تلك النقوش.
وقد وصفها علماء آثار أميركيون بـ "برمودا البر"، بينما أشارت وثيقة أحد متاحف بريطانيا إلى أن الناجي الوحيد الذي تجول في كل أزقتها هو آليستر كراولي أشهر ساحر في التاريخ.
وسميت بالمدينة اللغز وأعجوبة العالم الثامنة والغابة الحجرية أو الصخرية، كما أطلق عليها مدينة الجن وتجمع السحرة والشياطين، وتشبه متاهة وسط صحراء "جانت" في محافظة إليزي جنوب شرقي الجزائر، وتضم متحفاً لرسومات ونقوش تعود لأكثر من 15 ألف سنة، وصنفتها منظمة "يونسكو" كأقدم وأكبر مدينة صخرية عبر العالم بمساحة تقدر بـ 89342 كيلو متراً مربعاً.
وتتميز بكثرة الكهوف والرسومات، منها ما حير العلماء مثل مخلوقات بشرية تطير في السماء مرتدية ما يشبه أجهزة الطيران، وأخرى لنساء ورجال يرتدون ثياباً تشبه ما هو موجود في الزمن الحاضر، وكذلك رجال يرتدون معدات رياضة الغطس، وبعضهم يجر أجساماً أسطوانية غامضة، وكذلك سفناً ورواد فضاء.
تاريخ المدينة
يعود تاريخها إلى الباليوزويك ما بين 550 و370 مليون سنة، تحكي قصة الأرض في أقدم حقباتها. وتسجل النقوش المكتشفة على جدرانها التغيرات المناخية الكبرى وهجرات الحيوانات، بالإضافة إلى تطور الحضارة البشرية قبل حوالي 8000 سنة، مُظهرةً كيف كان الفن وسيلة للتعبير والتواصل لدى أسلافنا.
ما يميز نقوش طاسيلي في مدينة سيفار عن غيرها من المواقع حول العالم هو استمراريتها وتجددها عبر الزمن، ممتدة من العصور القديمة وحتى القرون الأولى للميلاد. الجانب الديني والسحري الذي كرس له السكان الأقدم للمنطقة معظم نقوشهم يعد الآن مصدراً غنياً لدراسة الديانات قبل التاريخ، خصوصاً في فترة "الرؤوس المستديرة و يرجع تسمية فترة "الرؤوس المستديرة" بهذا الاسم إلى احتواء النقوش التي تعود إليها على رسومات عديدة تجسد رجالا برؤوس مستديرة غريبة الشكل بعض الشيء، تلك الرسومات كانت مادة ثرية لناسجي الخرافات حول منطقة طاسيلي الذين قالوا إنها تجسد الفضائيين أو الجن، الأمر الذي فسره بعض الباحثين أنه يعود إلى قلة الدراسات الموثقة حول المنطقة و"كثرة الهواة" المهتمين بها
في المقابل، اهتمت الدراسات القليلة الموثقة حول منطقة طاليسي بدراسة حضارة الإنسان الأول بالمنطقة من خلال تحليل وفهم النقوش التي خلَّفها وراءه، ومحاولة معرفة أنماط تفكيره ومعتقداته والأشياء التي حاطها بالتقديس، ما منحنا نظرة أعمق وأكثر دقة عمن عاشوا على أرض طاسيلي في حقبة ما قبل التاريخ، وبالأخص في العصري الحجري الحديث.
كان ذلك عام 1969، حين ظهرت الكثير من الرسوم والنقوش الصخرية الموجودة في طاسيلي وخرجت إلى الحياة ليراها كل العالم، وذلك من خلال حملات استكشافية قادها الفرنسي هنري لوت بمساعدة السكان الأصليين للمنطقة. كان هنري مستكشفا وإثنوغرافيًّا (الإثنوغرافيا هي علم يُعنى بالدراسة الوصفية لطريقة وأسلوب حياة شعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات)، واستطاع تسجيل مجموعة تزيد على ألف نقش من الفن البدائي في منطقة طاسيلي
الأِشولينية والموستيرية
لا تقف الكشوف بشأن طاسيلي عند العقائد الدينية. وعادة ما يطلق الأثريون مصطلح "الأشولينية" على الحقبة التي نجح فيها الإنسان القديم في صناعة الأدوات الحجرية بمختلف أشكالها في العصر الحجري القديم، وقد كان لسكان سيفار نصيب من تلك الحضارة وتصنيع تلك الأدوات.
وشهدت منطقة طاسيلي بعد ذلك مرحلة جديدة يطلق عليها الأثريون الحضارة الموستيرية، وهي من أهم حضارات العصر الحجري القديم الأوسط، وعلى عكس الأدوات الآشولية المفلطحة أو البيضاوية غالبا، كانت أدوات تلك المرحلة مصنوعة من الشظايا الحجرية الدقيقة المشذبة والمدببة الأطراف، وقد استخدمها البشر الذين عاشوا في هذه المنطقة كسكاكين ومحكات ومكاشط. وانتشرت الصناعة الموستيرية بشكل أساسي في آسيا وأوروبا، وبشكل أقل نسبيا في شمال أفريقيا كما في منطقة طاسيلي.
وتكشف الأبحاث أيضا أن البشر الأوائل الذين عاشوا في منطقة طاسيلي استخدموا أدوات تعود إلى الحضارة العاترية، وهي حضارة أو ثقافة تنتمي للعصر الحجري الوسيط تمركزت في منطقة شمال أفريقيا وامتدت من موريتانيا إلى مصر، وقد استخدم البشر الكوارتز والأحجار البركانية لتصنيع الأدوات في تلك المرحلة من حضارتهم
بحارة الصحراء
لم تكن شعوب ما قبل التاريخ تعيش في عزلة عن بعضها بعضا، بل إن الشواهد الأثرية تؤكد أنه كان هناك تواصل بين مختلف المناطق، فقد وُجدت أدوات حجرية في أماكن بعيدة عن موقع تصنيعها، وهذا كان من أهم الأدلة على وجود نوع من التجارة القديمة.
في سياق متصل، تُظهر شعوب الصحراء، ومن ضمنها سكان مدينة سيفار في طاسيلي، كيف ساعدت الظروف الطبيعية، كالأنهار التي كانت تخترق الصحراء الكبرى، في إيجاد جسور للتواصل بين الشمال والجنوب والوسط. ومن خلال السفر النهري، استطاعت هذه المجتمعات التعرف على بعضها، بفضل مهاراتها في البحرية وتصنيع القوارب، كما توثق النقوش الموجودة في كهوفها، التي تجسد قوارب متعددة، مدى أهمية الأنهار والسفر بالنسبة لهم.
يبدو أن طاسيلي، التي تعد اليوم صحراء قاحلة، كانت في الماضي أرضاً خضراء مليئة بالحياة، حيث كانت سهولها الخضراء موطناً للزرافات وأفراس النهر والغزلان والأبقار والأغنام. وقد كشفت دراسات أثرية طويلة أن سكان طاسيلي القدامى مارسوا الرعي والزراعة، مستفيدين من تلك الظروف الطبيعية الخصبة.
هذا التبادل والتفاعل الحضاري، الذي شهدته طاسيلي مع المناطق المجاورة والبعيدة، أوجد بيئة ثقافية غنية ومتنوعة. وقد أسهمت هذه الظروف في جعل المنطقة نقطة جذب للمهاجرين، سواء من الجنوب بامتداد الغابات الاستوائية أو من الشمال، ما أدى إلى اندماج ثقافات متعددة في بوتقة واحدة.
تعتبر النقوش الحجرية، التي تحتوي على تنوع بشري ملحوظ وتصف بعضها بأنها "لغز محير"، شاهداً على هذا التلاقح الثقافي، مظهرةً أفراداً بملابس وتسريحات شعر مختلفة. وهذه النقوش تُظهر أيضاً ثمار رحلات التجارة والتبادل الحضاري، التي قام بها سكان المنطقة، ما يُشبه إلى حد ما لوحات الاستشراق التي رسمها الأوروبيون.
تحمل هذه الكتابات والنقوش القديمة قيمة تاريخية عظيمة، لأنها توثق ليس فقط الحياة اليومية لأصحابها وعلاقاتهم بالمجتمعات الأخرى، وإنما أيضاً عاداتهم وعقائدهم وأوضاعهم الاجتماعية. ورغم أن بعض هذه النقوش قد تحمل مبالغات أو تصورات غامضة، فإنها تبقى المصدر الأساسي لفهم طريقة حياة هؤلاء البشر القدماء
وبالنسبة لشعوب الصحراء، التي تُعَدُّ مدينة سيفار الواقعة في طاسيلي واحدة منها، فقد كانت ظروف الطبيعة وقتها عاملا مساعدا على التبادل الحضاري، فالأنهار كانت تخترق الصحراء الكبرى لتربط بين الصحاري الشمالية والجنوبية والوسطى، ومن خلال التنقل النهري عرفت شعوب تلك المنطقة بعضها.
كانت تلك الاتصالات الحضارية والتجارية تتم عبر الأنهار على القوارب من أطلس إلى هقار، ومن الساحل الليبي حتى طاسيلي، فقد كان سكان منطقة طاسيلي بحارة ماهرين. وقد أظهرت النقوش الموجودة في كهوفهم، التي تجسد الكثير من القوارب، مدى شغف سكان مدينة سيفار بالأنهار والسفر عبرها وتصنيع القوارب وأهميتها في شكل حياتهم.
الشجرة الفريدة
ويوجد في الصحراء العظيمة شجرة يعود تاريخها إلى آلاف السنين وهي غير موجودة في العالم والوحيدة الموجودة في الصحراء. وهي مسجلة ومحمية في منظمة اليونيسكو.
ويبلغ عمر هذه الشجرة حوالي 2000 أو 3000 سنة .
"مثلث برمودا الجزائر"
يسمي البعض المدينة بـ"مثلث برمودا الجزائر" كون أن أجزاء منها لم يصل إليها المستكشفون بعد حتى الذين قاموا بالاكتشافات الكبرى في المدينة لم يستطيعوا الدخول لكامل هذه المدينة بسبب شساعتها ولصعوبة طرقها.
وعلى الرغم من تداول هذه الروايات لعقود من الزمن إلّا أن هناك من يفنّد تلك الأساطير ويقول إنها مجرّد شائعات.
وتجذب المدينة الغامضة والزاخرة بالعجائب آلاف السياح سنويًا، ويتوافدون منذ عقود متحدين صعوبة الطريق الواصل إليها. وتسمى أول منطقة تبدأ بها الرحلة إلى سيفار "تاسا توفت". وتتوقف السيارات هناك وتستخدم الحمير فقط في الرحلة إلى المدينة.