لا تتزوج غيري
تختلط بالناس فترى الفوارق بينهم جلية، وترى لكل شخصيته وسماته وسلوكه الذي يميزه عن غيره، لقد كشف لي هذا العقد الذي دعيت لإجرائه شرطًا عرفته في الفقه، لكني أصدقك القول بأني لم أر من يشترطه في الواقع إلا في هذا العقد.
تجمع الأهل والأقارب من العائلتين، وكان أهل الفتاة هم الأكثر حضورًا، وبعد أن أكملت الأمور الرسمية المطلوب توثيقها في دفتر الضبط لعقود الزواج، طلبت من والدها أن يهيئ الطريق إلى الفتاة، لنسمع منطوقها، ونطمئن لرضاها بالزواج من الشاب المتقدم لطلب يدها.
أخبرتها أن فلانًا يودُّ الزواج منك والصداق الذي سيقدمه لك هو ثلاثون ألف ريال، وأنتظر جوابك بالموافقة، فسكتت الفتاة، مضى بعض الوقت فأعدت عليها القول، لكنها بوعي وذكاء واضحين قاطعتني قائلة: ليس الأمر حياء، لكني أفكر في أمر خطر ببالي قبل قليل، وحاولت الاتصال بخاطبي، فلم يجبني لانشغاله.
أريد صداقي فقط مائة ريال للبركة، لكني أريد أن أشترط عليه أن لا يتزوج عليّ بامرأة ثانية، فهل يمكنني فعل ذلك؟ أخبرتها - بعد أن عرفت منها مرجع تقليدها - أن ذلك ممكن، لكني بحاجة إلى حضور العريس ليعرف الشرط، ويتخذ القرار المناسب له بالموافقة أو الرفض.
جاء الزوج فتأكدت من مرجع تقليده، ثم أخبرته بشرط مخطوبته الجديد، فتردد برهة من الزمن التفت ناحيتها وهو يقول لي: ”أوافق على شرطها، وصداقها كما هو ثلاثون ألف ريال“، فلنمض يا شيخ لإجراء العقد، تمنت المخطوبة على خاطبها أن لا ينزعج، وأخبرته أن الأمر خطر لها دون تخطيط، فابتسم إليها بسمة عريضة هادئة وملامحه تدل على قبوله ورضاه.
حتى هذه اللحظة كانت الأمور تسير على ما يرام، عدنا إلى مجلس الرجال، والتمست من الحضور أن يتبرعوا بدقيقتين من الهدوء كي نجري العقد بمسمع الجميع، لنشارك العريسين فرحتهما، ثم علت الصلاة على الحبيب محمد (ص) وبدأت في إجراء العقد.
حين نطقت الشرط الذي اشترطته الفتاة ”وعلى شرط أن لا يتزوج عليها بامرأة ثانية“ رفع أحد الآباء الكرام صوته، يا شيخ لا يصح العقد بهذا الشرط، ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
قلت له: ”شرطها صحيح، على رأي مرجعيهما، وسنكمل العقد ثم نتحدث في الموضوع“، كان الرجل قاطعا بصحة رأيه فانتصب قائما، وقال موجها كلامه لوالد العريس الذي دعاه للحضور: ”اسمح لي بالانصراف، لا أريد أن أكون حاضرًا وشاهدًا في العقد“.
لاحظت أن الشاب العاقد كان مربكًا، ووالد الفتاة قد أخذ الإحراج منه مأخذه، فرأيت أن الضرورة تستوجب بيان الحكم الشرعي لهذا الشرط، وبالفعل تحدث دقائق معدودة، ثم هممت بإخراج جوالي لأستشهد بما نص عليه الفقهاء في فتاواهم حول صحة هذا الشرط وجواز اشتراطه.
وأنا أنظر للجوال وأقرأ منه انحنى على رأسي شخص وقبّله، رفعت رأسي وإذا هو نفس الرجل الذي انسحب للتو، بادرني سريعًا بالكلام، افسح لي مكانًا بجانبك، ثم جلس وهو يقول: ابدأ العقد على بركة الله يا شيخ.
ابتسمت مليًا، وفي أعماقي كنت أعي سبب عودته، فبادرته بالسؤال، بكم شيخ اتصلت؟ ابتسم وأشار بأصابع يده، فضحك الجميع، لقد اتصل بثلاثة مشايخ، فما كان يقتنع من الشيخ الأول ولا الثاني، والحمد لله أن الثلاثة سدوا عليه أبواب الشك والوسوسة.
أجرينا العقد، ولما وصلت إلى ”وعلى شرط أن لا يتزوج عليها بامرأة ثانية“ رفع الرجل صوته: ولا يفكر بزوجة ثانية، فضحك الجميع، وابتسمت وأنا أواصل النطق بصيغة العقد، والحمد لله تم العقد بخير وبركة وسلام.
مستوحيات القصة:
1/ السؤال ثم الإنصات للجواب خير من الانفعال والتوتر، فالسؤال ينفع في بيان الحكم الشرعي، بينما يدفع التوتر والانفعال إلى التشكيك، وينغّص الفرحة.
2/ الاتفاق المسبق خير من الشروط المرتجلة التي لم يتم التوافق عليها، لأنها قد تولد صدمة للطرف الآخر، فيرتبك ويتوتر، وحينها لا يمكن لأحد أن يتكهن بتصرفه وموقفه.
3/ لو لم يكن العريس عاقلًا حكيمًا لربما اتهم عروسه أنها جعلته أمام الأمر الواقع، وأنها أجبرته على الشرط، لأنه لا يريد أن يوقف العقد فينكسر وينحرج أمام المدعوين، وربما يبقى الموقف في نفسه فيسبب الكثير من المتاعب بينه وبين عروسه في المستقبل.
4/ السعي لتأمين المستقبل، والاحتياط للغد مهم جدا، لكن القلق من المستقبل والخوف من المقبل من الأيام ليس مناسبا لسعادة الإنسان، لذلك عليه يزن الأمور بعقل وحكمة.
ملاحظة:
مشهور الفقهاء يرون صحة هذا الشرط، ووجوب الالتزام به، ولكنهم يقولون لو خالف الزوج الشرط وتزوج بثانية فهو آثم، لكن زواجه صحيح، وفي المسألة تفاصيل أخرى ليس محلها هنا.