فالذي يطّلع على تجارب السابقين، ويسعى من خلالها لئلا يقع بما وقعوا فيه من أخطاء، ويستفيد من نقاط القوة، فإن ذلك سيكون مدعاة لنجاته، وعدم سقوطه في المهالك، وهذا هو بالضبط ما فعله العظماء والناجحون في مختلف ميادين الحياة؛ فإنهم استشرفوا الأحداث والمواقف، فعرفوا الحق فاتبعوه، وشخصوا الباطل فاجتبوه...
كيف نعتبر؟
قال تعالى: (لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ)(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فتفكروا أيها الناس وتبصّروا واعتبروا واتعظوا وتزوّدوا للآخرة تسعدوا»(2).
لا بد للمرء إذا أراد التقدم والخير لنفسه وللآخرين، أن يتأمل ويحقق في أربعة أمور مهمة، وعندها يعرف ماذا ينبغي له أن يصنع؟ وماذا يترك؟ وكيف يستفيد من التجارب الماضية؟
وهذه الأمور الأربعة هي:
متابعة التاريخ
أولاً: التاريخ، فاللازم متابعة التاريخ بالتحليل والتدقيق الصحيحين، حتى يعرف الأسباب والمسببات، والخلفيات والدوافع وما أشبه؛ وعندها سوف تنكشف علل سقوط الأشخاص والدول في التاريخ، وعلل سمو ونجاح البعض الآخر، وتنكشف عوامل الضعف والقوة عند الأمم والأفراد.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من فهم مواعظ الزمان لم يسكن إلى حسن الظن بالأيام»(3).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «من اعتبر بتصاريف الزمان حذر غيره»(4).
التجارب الشخصية
ثانياً: التجارب الذاتية؛ إذ الإنسان في حياته العملية يمر بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من حفظ التجارب أصابت أفعاله»(5).
فمثلاً الشخص الذي يحترم الناس ويبادلهم الحب والود، سوف يرى نتائج مرضية من قبل الناس، فإنهم سوف يبادلونه الاحترام والتبجيل، وهذه حالة بسيطة يلزم أن يتصف بها المؤمن وهي ذات مدلول كبير تعطي للإنسان انفتاحاً على المستقبل، وعلماً بحوادث الأمور، فلا يقع في المطبات التي وقع بها هو أو الآخرون سابقاً، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في قوله: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين»(6).
فالإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته، لكي لا يقع بها ثانية ولا يصاب بمثلها في المستقبل.
وكذلك قال الإمام الصادق (عليه السلام): «أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي»(7).
حيث يبين الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث قانوناً كلياً للتطور، فإن من يبين للإنسان معايبه يشخص له الأسباب الخفية والدواعي الباطنية التي كانت تسبب له التأخر والاضطراب في الحركة، ليصحح الإنسان حركته في حياته اليومية ذات المَساس بالمجتمع والدين.
فمن هنا كان للتجارب الذاتية أثر فعال في تصحيح أفكار وسلوك الإنسان. فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كفى عظة لذوي الألباب ما جربوا»(8).
الأحداث المعاصرة
ثالثاً: دراسة الأحداث المعاصرة والتأمل في كيفية جريانها، بأن ينظر الإنسان إليها، ويرى ما هي مقدمات نشوء الحدث؟ وكيفية السيطرة عليه واحتوائه واستثماره؟ ومقارنته مع العبر والحوادث السابقة، والاستفادة من الماضي في معرفة الحدث المعاصر، ووضع الاحتمالات المتوقعة، ووضع الحلول والبرامج لهذه الاحتمالات والنتائج.
فعلى الإنسان أن لا يقف مكتوف اليدين أمام الحوادث المحيطة به، بل عليه أن يلاحظ الحوادث السابقة المشابهة لهذا الحدث ويستفيد منها، ويقوم بدفع الشر الذي فيه؛ إذ أن الجهل بالحوادث، والجهل بمقدماتها، سوف يعرض الإنسان إلى أضرار خطيرة، ربما أدت إلى هلاكه؛ ولذلك صار دفع الضرر واجباً عقلياً في الجملة. فعلى كل إنسان أن يدفع الضرر الكثير أو الخطر الجسيم عن نفسه، فإذا لم يدفعه يعد ذلك قبيحاً في عرف العقلاء.
أما كيف يمكن دفع الأضرار والحوادث التي ترهبه وتضره؟ فذلك لا يمكن ـ عادة ـ إلّا إذا عرفها، أما إذا كان جاهلاً بالأمر، فإنه لا يعرف الضرر من غيره، فكيف يمكن له أن يدفعه؟!
ولذلك صارت المعرفة واجبة، إذ بها يتم معرفة الأضرار والمخاوف ودفعهما... ومن هنا كانت دراسة مجريات الأحداث أمراً مهماً لنجاة الإنسان.
دراسة المستقبل
رابعاً: دراسة المستقبل طبق المحتمل العقلائي؛ وذلك بأن يلاحظ الأثر المترتب على النتائج. فمثلاً: إذا كان أحد الأشخاص يسرق أموال الآخرين فالمحتمل العقلائي له الوقوع بيد السلطة القضائية، ومن ثم السجن.
أما إذا كان إنسان ينفع الآخرين، يجيد الخطابة والتعليم للناس، فإن المحتمل العقلائي له أنه يكون في موقع احترام وتقدير الآخرين.
فكل شيء إذا فكر الإنسان فيه واعتبر منه، فإنه يستطيع أن يختار أفضل الطرق المؤدية إلى الحياة السعيدة، ويشخص الطرق الملتوية والسيئة، ويسلك أفضل الطرق.
فغالباً هناك أربع أو خمس حالات أو طرق يتمكن بها الإنسان أن يتوصل من خلالها إلى غايته:
أحدها: طريق سيئ جداً، والآخر بين السيئ والحسن، وأحياناً سيئ، وأحياناً فاضل، وبعض الأوقات هناك طرق أفضل، وهذا المطلب العقلي موجود في الأحكام الشرعية، إذ أن الحكم الشرعي التكليفي ينقسم إلى: واجب، وحرام، ومستحب، ومكروه، ومباح، فالعمل بالواجبات هو من أفضل الطرق للتقرب إلى اللّه. والطريق الفاضل، وهو العمل بالمستحبات، كما أن المباح أمر متوسط بين الفعل وعدم الفعل، كشرب الماء والقيام والجلوس، وما أشبه، أما الطرق السيئة، والتي لا توصل الإنسان إلى شيء، فهو العمل بالحرام، وهذا العمل سيئ جداً، وأقل سوءً منه العمل بالمكروه.
والتاريخ هو أحد الأمور المهمة التي يستطيع الإنسان أن يأخذ العبرة منه، ويبني حياته على أساس ذلك، فعادة الأشخاص الناجحون في الحياة، والذين يؤدون الأعمال الصالحة للمجتمع هم الذين قد اعتبروا بِعبَر التاريخ، واستفادوا من تجارب السابقين، وكذلك استفادوا من الأحداث الجارية، التي تمر عليهم، وهكذا ينظرون إلى المستقبل حسب المحتمل العقلائي الصحيح، ويضعون النتائج ويرسمون الخطوط العريضة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «... واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(9) بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة والتحاض عليها والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم(10)، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، أ لم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب وجرعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى اللّه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً وأئمةً أعلاماً، وقد بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين. فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، وقد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم، فيكم عبراً للمعتبرين»(11).