الشاهد الصامت
منذ أن أقمتُ في هذه الغرفة مع هذا الشاب، وأنا أشعل حطب الانتظار بمراقبته، وأشغل فراغ الثواني بتحسس ما يفعل.
إنني أغبطه على كل هذه النعم التي يرفل فيها، فكم تعبت من الوقوف وأحببت أن أتمدد على الأرض كما يتمدد على سريره المصنع من خشب الصنوبر عالي الجودة والمحشو بالإسفنج، وتحمله أرجل من معدن الفولاذ المجلفن، وتعلوه مرتبة من القماش الأبيض الذي يبدوا ناعمًا، وتمنيت أن أقف عند الشرفة لأنظر للحديقة المجاورة، لابد أنها حديقة غناء، لم اشاهدها من قبل لكن اللحظات التي يقف فيها مشرعًا درفتيها ينتعش وتبدوا عليه السعادة، كما أن أصوات الطيور تغري بالفرح.
وأحبُّ الساعات عندي ساعة يقف بين يدي ربه، ويناجيه: «سَيِّدي اَنَا الصَّغيرُ الَّذي رَبَّيْتَهُ، وَاَنَا الْجاهِلُ الَّذي عَلَّمْتَهُ، وَاَنَا الضّالُّ الَّذي هَدَيْتَهُ، وَاَنَا الْوَضيعُ الَّذي رَفَعْتَهُ، وَاَنَا الْخائِفُ الَّذي آمَنْتَهُ»، حتى كأني أبكي لبكائه.
صديقنا شاب لم يبلغ الثامنة عشر بعد، أبيض البشرة، تكسي خدوده حمرة وردية، شعره فاحم، ليس بالطويل الفارع، ويميل أكثر إلى النحافة، لا يعتمد في مظهره الأنيق على ارتداء ملابس باهظة الثمن، بل على تناسق الألوان واختيار المقاسات المناسبة، عندما تشاهده لأول مرة تظن أنك تعرفه منذ زمن.

لم يكن هذا سلوكه قبل بضغة أشهر، كان عصبيًا عنيفًا متهورًا، حتى أنا تأذيت منه مرارًا، ليس لأنه فوضوي يلقي ملابسه أينما اتفق، وإنما لأنه كان يصفق أبوابي بلا رحمة، حتى أن أحد رفوفي سقط وانكسر.
لم يسلم من أذاه حتى الكرسي، والسرير، فكان يحذف الكرسي عندما يتأخر في النوم، ويخلط الثياب بالمفارش على السرير حتى كأنه ينام في وسط بسطة بسوق شعبي، وقد شكا لي السرير ذات مرة من روائحه وإهماله للطعام على ظهره.
أما الساعة فقد كانت الضيف الجديد الذي يستقر بيننا لأيام ثم يذهب، فقد كان عقابها لأنها تنبهه لوقت الجلوس بأن يرميها بعيدًا، فإما أن تسقط أرضًا، أو تصطدم بالجدار فتنكسر، ويكون مصيرها للقمامة، وتأتي أخرى مكانها لتبدأ نفس المسلسل.
كان لا ينام إلا بعد أن يحرق من السجائر ما يملأ الغرفة بالدخان، ويأكل على السرير، والمتبقي من أكله وشربه وأعقاب سجائره تجده منثورًا على الأرض.
كانت تدخل أمه الغرفة كل صباح، فتواجهها الروائح المختلطة، فتضع يدها على أنفها لتحميه من هذه الروائح المتعفنة، ثم تبدأ بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، والدعاء له بالهداية، ثم تفتح النافذة لنتنفس كلنا هواءً نقيًا، وتقوم بتنظيف وترتيب الفوضى التي أحدثها.
وفي المساء يعود فتعود الغرفة للفوضى المزرية، والروائح الكريهة التي تعمّ المكان.

قبل 3 أشهر تقريبًا دخل معه الغرفة صديق، كان مهذبًا نظيفًا مرتبًا، وجهه مشرق، ابتسامته مريحة، عطره نافذ، يلبس ثوبًا جميلًا ناصع البياض، وكأنه من ثياب العيد.
سأله: لماذا لا تفتح النافذة؟ للغرفة رائحة غريبة.
قال: لا أحب الازعاج.
- الازعاج في عقلك، فأنت تعيش الفوضى في كل حياتك، الهواء النقي يساعد الإنسان على الراحة والاسترخاء.
- يزعجني صوت السيارات والعصافير.
- أكثر مما يزعجك هذا الحال؟
? أنا راضٍ ومقتنع، والقناعة كنز.
? يقاطعه: أي قناعة هي الكنز؟ وأي رضًا يحبه الله؟
? أن ترضى بحالك.
? هناك قناعة ورضًا مصدرها الكسل، وأخرى خنوع وذل، وثالثة هزيمة وانكسار..
? يقاطعه: ‎هي القناعةُ فالزَمْها تعِشْ ملكاً.. ‎لو لم يكنْ منكَ إلاّ راحةُ البدنِ

? الرضا يا صديقي أن تقبل ما قسمه الله لك، وتعمل على أن تكون في مكان أفضل، فالله يحب المؤمن القوي.
?
? في يوم تالي سأل صاحبه: كيف أكون سعيدًا بما حولي.
? فسأله: هل تبحث عن السعادة؟
لا يجيب فيكمل صاحبه: إذًا ابحث عن السعادة هنا - أشار إلى صدره - فإن لم تكن سعيدًا من داخلك فلن تكون سعيدًا أبدًا.
? هل يجلب المال السعادة؟
? يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا جدًا وهو لا يمتلك إلا القليل من المال، وقد يكون تعسيًا وهو يملك الملايين.
يتركه ويتجه للنافذة فيفتحها ويملأ رئتيه من الهواء النقي.
يقول: يا صديقي يظن البعض أن السعادة هي الفرح، لكن يغيب عنهم أن الفرح جزء من السعادة.
يلتفت نحوه ويكمل: السعادة هي العطاء، هي عمل ما تحب لمن تحب.
يبتسم ويضيف: السعادة أن تحبَّ من يحبك، وتعشقه كما يعشقك.
يضع يديه على كتفي صديقنا ويهزه: السعادة أن تعيش السلام والانسجام والرضا في داخلك.

وتكررت زياراته، وأحاديثه الجميلة، حتى تغيّر حال صاحبنا، بدأ يخفف من تدخين السجائر، ويهتم بالصلاة والنظافة، كما أنه بدأ يقرأ القرآن، ويهتم بترتيب ما يضعه في جوفي.
وذات صباح دخلت أمه الغرفة، فرأت النظافة تبتسم لها، والترتيب يروي قصة تحوّل لطالما دعت به في صلواتها، واستقبلتها رائحة العطر التي تعبق في الأرجاء، فقالت بروح الرضا والتفاؤل: صدق القائل ”الصاحب ساحب“.
فأجبتها: دعواتك الصادقة كانت النور الذي أضاء درب صلاحه.