تكاتف الحضارات بلوحات العراقي ضياء العزاوي
"مسار" هو عنوان المعرض الذي انطلق حديثا في غاليري كلود لومان الباريسية للفنان العراقي ضياء العزّاوي، ويهدف إلى تسليط الضوء على غنى إبداع هذا الفنان على مدى نصف قرن من الزمن، أي منذ بداياته في بغداد عام ١٩٦٣ وحتى اليوم.
ولهذه الغاية، تم جمع اللوحات الزيتية وتلك المنفذة بمادة الغواش التي لم يشأ العزّاوي التفريط فيها فبقيت بحوزته، ولم يتم عرضها إلا في مرات نادرة.
وسواء في ممارسته لفن الرسم، أو لفن الحفر أو النحت أو في ابتكاره كتبا فنية فريدة، نستشفّ في أعمال التشكيلي المولود بالعراق سنة 1939 حداثة إيجابية، ورغبة عميقة في المساهمة في انبثاق حضارة عربية جديدة، في حالة تناغم مع ذاتها ومع الحضارات الأخرى.
وفي هذا السياق، يمكن فهم قوله: "عملي ينخرط ضمن حركة نهضة الفن العربي، لكنه يتميّز ببُعد شامل، ويرتبط بشكل حميم سواء بالتاريخ أو بقيَم الثقافة المعاصرة".
لوحة "الطائر الأزرق" لضياء العزاوي
قوة إيحاء
والمتأمّل في لوحات المرحلة الأولى من "مسار" العزّاوي يرى حروفا تشكل مجموعة كتابة أو تخطيطا يمنح هذه الأعمال حركيّتها وإيقاعاتها.
وسواء تمكنا من قراءة هذه العلامات أم لا، فإن أكثر ما يثيرنا فيها هو قوّتها الإيحائية ودقّة خطوطها التي تتشابك وتتناغم أو تتنافر بشكل يمنح اللوحة الرشاقة أو الثقل الفاعلَين في تشكيلتها.
ولعل هذا ما دفع الفنان الهولندي الكبير كورناي عام ١٩٨١ إلى تشبيه لوحات العزّاوي "بواحةٍ زاخرة بالأشكال والألوان". فثمّة مناخٌ شرقي حاضر بقوة فيها، تعكسه تلك الإضاءة المشعّة التي تتحرّر منها، أو تصاميم قصور ومساجد تنبثق من ليال عميقة وعطِرة.
ولأن الواقع الآني المؤلم لعالمنا العربي لا يغيب عن بال الفنان، نشاهد في بعض لوحاته أيضا طيورا ممزّقة تسقط من السماء بأجنحة مفروجة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العزاوي -المقيم بلندن منذ 1986- هو أحد أكثر فناني جيله التزاما بكشف مآسي أمتنا العربية الناتجة عن الاضطرابات السياسية. فمنذ بداية السبعينيات، استكشف معاناة الفلسطينيين بلوحات مختلفة، كلوحة "شهادة على عصرنا" (١٩٧٢) التي استوحاها من أحداث "أيلول الأسود" في الأردن، وسلسلة اللوحات والرسوم التي أنجزها عام ١٩٧٦ حول معارك مخيم تل الزعتر في بيروت، ولوحة "صبرا وشاتيلا" الضخمة التي رسمها في اليوم التالي من وقوع هذه المجزرة.
ومع انطلاق حرب الخليج الثانية (١٩٩١)، أنجز مجموعة من الأعمال أطلق عليها عنوان "بلاد السواد"، كلوحة "روح مجروحة.. نبع ألم" (٢٠١٠) ولوحة "مرثية لمدينتي المحاصرة" (٢٠١١).
واللغة التشكيلية التي صقلها العزّاوي مع مرور الزمن بلغت اليوم نضجا مذهلا يتجلّى في قيمة تشييداته وحدّة ألوانه الجديدة. فتدريجيا توارت الكتابة أو الحروف لصالح تركيبات شكلية هي كناية عن تصوير موجز لأشياء أو مشاهد يعكس انفعالاته أو مشاغله الجمالية.
وسواء بتشكيلاتها أو بألوانها، فإن لوحات العزّاوي تستحضر أيضا إلى أذهان البعض السجّاد الشرقي المشحون بالرموز والدلالات، والمسيّر للغة سرية وأنيقة تفوح منها شعرية عميقة. وبالتالي، فإن هذه اللوحات لا تُشكل متعة للنظر فقط، فخلف هندسة مضمونها ذات الإيقاعات الموسيقية، يقف رجل يتحدّث عن بلده بطريقة غنائية، ويتطلب من أعيننا أن تنظر وتصغي معا.
جزها ضياء العزاوي سنة 1986 لوحة "ليالي عربية" التي أن
طريقة فريدة
وأبعد من حدود بلده، يبتكر العزّاوي -بين ماض وحاضر- مشاهد خيالية ولكن دائما انطلاقا من تجربته الخاصة، معتمدا في ذلك على أداة أساسية هي مخيّلته التي تسمح له بإسقاط تساؤلاته ورؤاه على حدود الحقب والفضاءات التي تفصل أو تربط البلدان والحضارات.
وبذلك يقف على طرف التاريخ والجغرافيا لقياس حدّة ودرجة حساسيّة اللقاءات التي يؤسّس لها ويعمد إلى تحقيقها، تماما كما لو أنه يجمع قطعا مُربكة (puzzle) مانحا إياها ألقا وألوانا، ومرتّبا إياها على شكل خطابات أكثر معاصَرة وأكثر صوابا لأعيننا وآذاننا.
وفي هذا السياق، لا يكتفي الفنان بحركة ذهاب وإياب بين الشرق والغرب داخل عمله، بل نجده يُدخِل علامات ووجوها ورثها من ماض سحيق، وتنتمي خصوصا إلى الفن السومري والآشوري.
وغنى هذا الفن هو بدون شك يشكل تحديا لا يقاوَم لأي فنان عربي وعراقي تحديدا مثل العزّاوي. فالانتماء له يعني بشكل ما أيضا مقاومته، وهذا ما يفسّر قيام الفنان بدمج صورية هذا الفن وهندسته بديناميكية الحداثة، وهو ما يمنح الطريقة الفريدة التي يعتمدها في ذلك كل قيمتها.
وبالتالي، لا فائدة في محاولة استخلاص ما هو عربي وما هو غير عربي في لوحات العزّاوي، فجميع عناصر هذه الأخيرة تبدو مترابطة بشكلٍ يتعذّر تفكيكه، كما يستحيل العثور على عنصرٍ مجلوب داخلها، بما فيه اللوحات التي رصدها لمدينة مرّاكش واستخدم فيها ألواناً وطريقة ترتيبٍ للأشكال، تستحضر من بعيد اللوحات التي أنجزها بول كلي على أثر اكتشافه ضوء تونس وألوانها.
باختصار، يبتكر العزّاوي لوحات حديثة تبدو فنون الإسلام وما قبل الإسلام فاعلة فيها، بدون أن تجعل منها على الإطلاق أعمالا بأبعاد "ماضوية" أو حنينية أو قومية. فهذه الفنون تحضر كطُرُق فريدة ولكنها شاملة وآنية للنظر، وهو ما يحوّل كل لوحة من لوحات الفنان إلى تأكيدٍ لسرمدية تتكاتف فيها ثقافاتٌ وحضاراتٌ عديدة.
لوحة الروح الجريحة، الشاهد الصامت (2011) تعكس تفاعل ضياء العزاوي مع أسئلة العصر
لوحة بلاد السواد (1994) من إبداعات ضياء العزاوي على ضوء جروح العراق النازفة
لوحة صبرا وشاتيلا