الحقوق المدنية في الدستور العراقي
غانم جواد
هدف الدراسة إلقاء نظرة أولية على أهمية الحقوق بشكل عام، وبهدف النقاش والحوار وليس التدليل القاطع الشامل على أهمية ادراج حقوق الانسان في مشروع الدستور، و على أمل المساهمة في تحديد المشكلات التي تحول دون تمتع الانسان العراقي بحقوقه وكرامته. وجلب اهتمام المشرعين لأهمية تنصيص مواد الدستور للحقوق المدنية والسياسية، وكيفية حماية تلك الحقوق ومدى اتساقها مع معايير العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية باعتباره جزءاً من الشرعة الدولية لحقوق الانسان، إذ لا يمكن للمتابع أن يفهم وضعية الحقوق دون أن يلقي نظرة سريعة على إمكانات وأساليب حمايتها وإعمال ضماناتها على أرض الواقع، واستطلاع الضمانات الدستورية لحماية الحقوق، خصوصاً تلك الحقوق التي كانت مغيبه عن العراقيين، مثل حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة، والحق في الترشيح والاقتراع وفي الانتخاب، وحق التمتع بالحياة والكرامة الإنسانية بعيداً عن العقوبات الحاطة بها،... بالرغم من أن تلك الحقوق على درجة من الخصوصية الفردية وما جلبه الحرمان منها من تعقيدات حياتية وأزمات خانقة. ثم نتطلع أن تفتح المداخلات باب الدراسة وما يلزمه المزيد من البحث والفهم بهدف إثراء وتقوية حركة حقوق الانسان، اعتقد أنكم تشاركوني في أهميتها وحاجتها الماسة لشعبنا العراقي.
لذلك يعد الدستور أهم وثيقة ابتكرتها الشعوب على امتداد نضالها ضد طغيان السلطة السياسية للحصول على حقوقها العادلة، ومن خلال هذه الوثيقة تمكنت الشعوب من إجبار حكامها على التمسك بقواعد قانونية وأخلاقية لإدارة الشأن العام، وصولاً إلى الاستقرار والعيش الكريم. لذا فقد تراكمت قواعد الدستور عبر الزمن تماشياً مع التطور الاجتماعي والتقني للمجتمعات المتزامن مع تقدمها الفكري وفهمها العقائدي. ورفعت الخشية من فعل المغامرين من طلاب السلطة والتحكم من القيام بحركة تمرد أو انقلاب عسكري مدعوم عربياً أو أجنبياً، يحجم أو يلغي كل الآمال والطموحات، تحت حجج واهية وخادعة، كتعرض الوطن للخطر من التقسيم أو مقاومة غزو أجنبي،...الخ. إذن لا يمكن تصور وجود مجتمعات متمدنة دون دساتير، ولا يمكن الاستغناء عن وجود الدستور طالما أن هذا الوجود يعطي مؤشراً وعلامة فارقة على درجة تطور المجتمع وتمدنه الإنساني الأخلاقي، بيد أن العبرة لا تكمن في وجود الدستور فحسب، بل العبرة تكمن أيضاً في مضامينه وفي العمل الجاد لتطبيق وتحقيق مبادئه .
ساهمت حركة الإصلاح للنظام القانوني للإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر في انبعاث ثقافة دستورية جديدة في منطقة العالم الاسلامي، لما حوته لبعض المفاهيم الجديدة القادمة مع ضغط موجة الإصلاح الأوروبي، واستجابة لمطلب شعوب الدولة العثمانية، فقد تم ولأول مرة الاعتراف بالمفاهيم المستمدة من القانون الفرنسي مثل الحرية الشخصية، وحرية الملكية الخاصة، ومساواة الأفراد أمام القانون، وعدم التمييز وغيرها، مما يشير الى تطورات حصلت في كتابة الوثيقة الدستورية الأولى التي أبرمت في سنة 1839 م، مثلت هذه التطورات ولأول مرة المزج بين مبادئ الشريعة الاسلامية والمبادئ الفرنسية والايطالية في قانون العقوبات العثماني. وشكلت تلك التشريعات الأساس الأول الذي بنيت عليه النظم القانونية للدول العربية القائمة حالياً.
مراحل تكوين الدستور :
تستلزم عملية صناعة وتكوين الدستور الجديد لكل وحدة سياسية تسمى "الدولة" المرور بثلاث مراحل متوالية أو متداخلة، حسب طبيعة وظروف هذه الدولة أو تلك وهذه المراحل هي : الأولى: مرحلة وضع وإعلان المبادئ الدستورية العامة، وهي بمثابة مرحلة توضح وتعلن خلالها الأسس والمنطلقات العامة لمشروع الدستور المنشود، وتلك الأسس وهذه المنطلقات تحدد بدورها طبيعة الدستور المطلوب من حيث أصل ومصدر شرعية السلطة السياسية في الدولة شكل السلطة السياسية في الدولة (شكل النظام السياسي) وظيفة السلطة السياسية في الدولة أن المهمة في هذه المرحلة تقوم بها جهة تتمتع بالصفة السياسية، والأفضل أن تكون جهة متمتعة بالرضا والقبول، وهذا الرضا والقبول يمكن تلمسه في أفضل حالاته من خلال جهة سياسية منتخبة، وليست معينة تعييناً يرضي الطبقة السياسية في الوطن، بضمنها النخبة الحاكمة، وغالباً ما يكون اعضاؤها من العاصمة.
الثانية: مرحلة كتابة أو صياغة مشروع مواد وفقرات الدستور، وهي مهمة قانونية تقوم بها جهة تتمتع بالصفة التخصصية الفنية القانونية الدستورية، وتسترشد في عملها بالمبادئ والمنطلقات الأساسية لمشروع الدستور المشار اليه أعلاه.
الثالثة: مرحلة إقرار وتصديق الدستور، وهي مهمة تقوم بها جهة ذات طبيعة سياسية صرفة تحظى برضا أو قبول عام من قبل الناس، ولا يمكن تلمس هذا الرضا أو ذلك القبول العام عن الجهة التي تقوم بهذه المهمة من دون أن تكون جهة منتخبة، وموضع اعتراف وطني وإقليمي، وتستكمل هذه المهمة باستفتاء شعبي لإتمام إقرار هذا الدستور وتصديقه. الاستفتاء الشعبي يمثل "وسيلة للتأكد من موافقة الشعب على القوانين والقرارات المهمة قبل إصدارها والتصديق عليها، ويمكن للشعب من خلال هذه الآلية أن يمارس حقه في الاعتراض على أي تدبير أو قانون لا يوافق عليه".
فقد جرى العرف عند الحكومات العربية أن تشكل لجنة من الأخصائيين لكتابة الدستور ويعرض على السلطة لإبداء الموافقة عليه ليصبح دستور البلاد، أو يكتب الدستور بناءً على رغبات وتصورات قادة الانقلابات العسكرية كما شهادتها منطقتنا العربية بعد الاستيلاء على زمام السلطة، ومن ثم تصادق على الدستور الذي تريده. ويكتب الدستور بطريقة ثالثة بعد انتصار ثورة شعبية أو نتيجة تحولات كبرى تحدث في بلد ما. وغالباً ما تشترك كل كتابات الدساتير أعلاه بتضييق الحقوق المدنية والسياسية أو خلوها منها، أو تسطر تلك الحقوق إلا إنها تقيد وتعطل في قوانين أو قرارات لاحقة، حسب رغبة العسكر أو الحكام المستبدين.
إلا إن تطورا قد حصل في الآونة الأخيرة، تجسد في اختيار أعضاء منتخبين ينشغلون بكتابة التوجهات والخطوط العامة للدستور، يشاركهم أخصائيون في كتابة مسودة فقراته وتفاصيل مواده، ثم يعرض على الشعب للاستفتاء عليه بعد مصادقة البرلمان، بذلك يكون أكثر شرعية وأشمل في مواده لمتطلبات و حاجات وأماني المواطنين.
ويشكل النظام القضائي خط الدفاع الأول لحماية الحقوق، والتي تشمل الإشراف القضائي وما ينتج عنه من التنظيم التشريعي للحقوق. كما يتضمن دور القضاء في تحديد وكيفية التمتع بالحقوق، مثل فرض حالات الطوارئ، أحكام المحاكم الخاصة، مراقبة تنامي قوة السلطة التنفيذية وتماديها في تجاوز القضاء عند تعاملها مع المواطنين، وتشكل المراجعة الدائمة للتشريعات القضائية والأوامر والتعليمات ومدى اتساقها مع المعايير الدولية لحقوق الانسان، إضافة الى نشر الثقافة القانونية والحقوقية، من المهام الرئيسية التي يحث عليها الدستور، بل المطلوب التأكيد على التزامات الدولة الحديثة في العراق، بالشرعة الدولية لحقوق الانسان، والوثائق الإقليمية(الميثاق العربي لحقوق الانسان،...) انقسمت البلدان الاسلامية في كتابة الدستور الى مدرستين، اتجهت أحداهما نحو الآخذ بمزج المنهج العلماني مع المنهج الاسلامي في معالجة مشكلات الدولة، والحياة العصرية، ومواجهة تحديات التحديث والتنمية في المجتمعات، متخذةً من مفاهيم الاشتراكية والقومية أداتين في النهج السياسي والاقتصادي، وإن كان التوجه في بداية الشروع لكتابة الدستور لمعظم دول المنطقة، هو ليبرالي قابل للنمو والتطور، ولم يحقق هذا التزاوج بين المنهجين نتائج متقدمة في مجالي التنمية بأنواعها، ووضع حلول لتفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فكان الإخفاق والفشل من نتائج تلك التجربة التي ولدت كوارث وأزمات خانقة أبرزها ظهور التطرف الأصولي الديني، ونتجت عن تلك المدرسة أيضاً دكتاتوريات عسكرية لم تردعها مبادئ الدستور عن ارتكاب انتهاكات فظة في مجال الحقوق المدنية والسياسية. والمدرسة الثانية اتجهت نحو المسار التقليدي التاريخي لشعوب المنطقة خصوصاً الخليجية منها، المستند الى البنى الأساسية السياسية(حكم الملوك والأمراء) والاجتماعية(القبلية والأعراف المحافظة) القائمة على الشريعة الاسلامية بالرغم من التعدد والاختلافات المذهبية لتكوينات الشريعة.
تعمل الدول وفق دساتيرها بغض النظر عن نظمها السياسية، وتتضمن تلك الدساتير التوجهات العامة والمبادئ الأساسية للدول إضافة الى تفاصيل وآليات تنظيم الحكم، وتندرج الحقوق والواجبات للمواطنين أيضاً. مع وجود استثناءات في بعض الدول مثل سلطنة عمان التي ينعدم فيها وجود دستور أو وثيقة أساسية فكل الحقوق والواجبات مصدرها الشريعة الاسلامية، ويعتمد ضمان الحقوق المدنية على تفسير السلطنة للشريعة الاسلامية المستندة الى المذهب الأباظي، وقريب من هذا الوضع في المملكة العربية السعودية حتى بعد إعلان الملك فهد عن القانون الأساسي سنة 1992، حيث نص في المادة 26 على أن الدولة تحمي حقوق الانسان اتفاقاً مع الشريعة الاسلامية، وإما ليبيا فموقفها من الشريعة جاء بشكل معاكس لما هو تقليدي عن الدول الاسلامية حيث تم استبدال دستورها الصادر عام 1969 بإعلان تأسيس سلطة الشعب الذي أكد على أن القران هو دستور الوطن، وبخصوص حقوق الانسان فقد أصدر مجلس الشعب العام سنة 1988 الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الانسان في عصر الجماهير. بالمقارنة مع جيبوتي التي ينص دستورها الأساسي في المادة 2 أن الجمهورية تلتزم بالإعلان العالمي لحقوق الانسان، وتؤكد على ضرورة تأسيس نظام سياسي تتمتع فيه الحقوق والحريات بكل قوتها. لكن المغرب وتونس وضعا الحقوق المدنية والسياسية في مقدمة الدستور تحت عنوان أحكام عامة.
فالمطلوب أن تضع لجنة كتابة الدستور العراقي اهتمامها الشديد في التنصيص بوضوح وبدون تأويل لمواد الحقوق المدنية والسياسية، وعدم فرض قيود شديدة تحول دون تمتع المواطنين بحقوقهم على ارض الواقع، بِشكل يفرغ الحقوق من مضمونها عند استحكام تلك القيود، كما أن تغييب المراجعة القضائية المستقلة لإعمال الإدارة يساهم بشكل كبير في فقدان الحقوق، وينتج هذا التغيب عن تفشي ظاهرة السلطة المطلقة لرئيس الدولة، أو الأمير أو الملك والتي تمس جوهر وصلاحيات السلطات التشريعية والقضائية.
إن أهم ما يحتاجه الانسان العراقي هو الاهتمام بحقوق الانسان التي انتهكها النظام الدكتاتوري وغيبها عن الواقع العراقي وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير، والحق في العمل والعيش بكرامة، والمشاركة في الإدارة العامة للبلاد مباشرة أو عبر ممثلين، وحق الحياة الكريمة من دون تعذيب وإهانة للكرامة الآدمية، وحق التجمع السلمي، وحق الأمن والسلامة الشخصية، والحق في محاكمة عادلة. والحق في تداول المعلومات والحصول عليها والحق في الضمان الصحي، وكذلك التعليم، وغيرها....، وعند طرح أمثلة نقصد أمثلة حية نعرضها للنقاش والإثراء.
حرية الرأي والتعبير
يتطلع العراقيون الى وضع تشريع يتسق وينسجم مع ما ورد في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ولا نريد التفريق بين حق اعتناق الرأي، وحق التعبير عنه، ووضع قيود على ممارسة التعبير عنه، لإعطاء السلطات هامشاً من الحرية في التحكم بالحريات والحقوق. ولابد من الإشارة الى أن السلطات تعهد في تنظيم الحقوق وتعريف مداها وحمايتها الى القانون، مما يعطيها مناورة في حرية التحكم بالحقوق والحريات، لأن القانون يتعدل ويتغير بسهولة أكثر من الدستور.
حرية تكوين الجمعيات
جاء في الفقرة 22 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، حرية تكوين الجمعيات مع الآخرين، ويذكر بشكل خاص تكوين النقابات العمالية، ولا يضع العهد الدولي أي شروط أو شروح إضافية. ويشمل هذا الحق تشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية.
ويضمن العهد في فقرة 25 (أ) حق كل مواطن في أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية.
المادة 25 (ب) الحق في أن يَنتخب ويُنتخب. وللمواطن أن يتمتع بهذا الحق دون قيود غير معقولة.
إن تضمين الدستور العراقي هذه الحقوق يجعل منه عصرياً، يتماشى مع متطلبات البناء الجديد الذي يعتمد الانتخابات الوسيلة الوحيدة المشروعة لاستلام الحكم بين الأحزاب أو القوائم المتنافسة. ونأمل من واضعي الدستور أن يسنوا فقرات تشجع وتمنح وتضمن حق تشكيل الجمعيات والمنظمات السياسية والخيرية والاجتماعية والثقافية، في حين يضعوا قيوداً وتحفظات كثيرة على حق تشكيل الأحزاب السياسية ذات التوجهات الفاشية، والأحزاب العنصرية، والطائفية التي تهدم وحدة العراقيين وتستعديهم على بعضهم. بشكل واضح وبأصدق التعابير، ولا يفضل استعمالهم لغة ليست دقيقة، في تحريم التوجهات المدمرة للعراق، بحيث يسهل الالتفاف عليها بتفسيرات ربما تعسفية أحياناً، ليس فقط في التنصيص على هذه المواد، بل في جميع فقرات ومواد الدستور يشترط التعبير بوضوح، وبلغة قانونية تحدد المفاهيم وتضبط المصطلحات، ليكون الدستور المصدر الذي يرجع إليه