أب ينتقم من طليق ابنته
الانتقام والتشفي مرض خطير، يستوطن نفس الإنسان ويستقر في عقله الباطن، ينام الإنسان ويستيقظ ويضحك ويفرح ويمرح ويكبر، فيكبر معه الانتقام والتشفي، يترقب اللحظة التي يخرج فيها مؤذيا وساحقا لمن يريد الانتقام منه.
** أخبرت الشاب الذي دعاني إلى عقد النكاح له أن بإمكاني الذهاب إلى مكان العقد في الوقت المحدّد، لكنه أصر عليَّ أن نذهب سويًا في سيارته، وهذا ما حصل بالفعل، كان من عادتي أن أستفيد من المشوار في التعرف على من أرافقه في الذهاب، وهذه المرة كان العريس وأبوه يرافقاني مما أتاح المجال لحديث أطول وأمتع.
ربما وصلنا إلى المنزل متأخرين بعض الوقت، لكنه تأخير محمول في الوضع العربي، ومألوف بين الناس، فلا المتأخر يعتذر، ولا المنتظِر يُعاتِب، وعلى جاري العادة كان الاستقبال لائقا، والترحيب بين الطرفين - أهل العريس وأهل العروس - رائعا، وكانت الكلمات الجميلة على الشفاه، حتى هدأ المجلس باستقرار الجميع في أماكنهم.
استمر المجلس بحيويته وابتسامات حضوره، وأريحيتهم في الحديث وتبادل الترحيب، حتى أطل علينا رجل في الخمسينات من عمره، فاختطف البسمة من العريس ووالده، وبدت علامات القلق ترتسم على وجهيهما.
سلّم الرجل الداخل على الجميع وأخذ مكانه جالسا، بينما استمر والد العروس وكل أهلها بكامل بسمتهم وحيويتهم، ترى ما الذي حصل؟ ولماذا هذا الوجوم على وجه العريس وأهله؟
كانت التساؤلات متزاحمة في عقلي، لكنّي كنت أجيبها قائلا: ”سبحان مغير الأحوال“.
طلبت من والد الفتاة دفتر العائلة ومن الشاهدين هويتيهما، ومن الزوج هويته وتحليل الدم، فلما اجتمعت كل الوثائق عندي، فتحت دفتر ضبط العقود ”وهو الإجراء المعمول به حينها“، ومع أول حرف شرعت في كتابته، نطق أحد الموجودين قائلًا: يا شيخ عندي كلمة من دقيقتين وبعدها أكتب ما شئت.
لم ينتظر من يأذن له في الكلام، بل عرّف نفسه قائلا: ”أنا فلان بن فلان، وابنتي تكون مطلقة هذا الشاب الذي نجتمع لعقد قرانه وفقه الله، طلّقها منذ 6 أشهر، وقد جئت فرحًا لعقده وإن كانت ابنتي إلى الآن لا زالت تعالج عينها من ضربه، وتراجع طبيبة نفسية بسبب تعامله معها، ثم أبرز تقريرا طبيا، وانتقل بشكل سريع إلى ورقة أخرى أخرجها من جيبه مدون فيها الاتفاق الموقّع بالمبلغ الذي طلبه للخلع“ 150 ألف ريال ”وقال:“ هذه الورقة لا تهمني ولست متأسفًا عليها، وقد دفعتها له". ثم ترك جميع الأوراق في المجلس، وبارك للجميع وطلب التوفيق للعريسين وانصرف بخفة وهمة.
لقد طلب دقيقتين للكلام، لكنه أوجزه في أقل من دقيقة واحدة، ساد الوجوم في المجلس، وأخذ والد الفتاة يحوقل ”لا حول ولا قوة إلا بالله“ ويكررها لأكثر من 3 مرات، هنا بادر أخوه وهو عم الفتاة والتقط الورقتين اللتين تركهما الرجل، وقال: ”شيخنا أوقف كتابة العقد، أنا عندي رأي وأحتاج أن أتشاور مع أخي وابنته“.
انتقل الأخوان إلى داخل المنزل، ومكثا حينًا من الوقت، ثم قدما ليعلن والد الفتاة أن المجلس مزدهر بوجود الجميع، وأن قدوم الجميع وبقاءهم شرف ومِنّة عليه، لكن الفتاة قد غيّرت رأيها، وهذا شيء أجازه الشرع لها.
كان الخاطب وأهله في وضع لا يحسدون عليه، فلا هم يدافعون عن أنفسهم، ولا هم يستطيعون أن يفتحوا باب النقاش مع أهل الخطيبة عن سبب تغيّر رأيها، وأعتقد أن السبب هو وضوح القضية عند الجميع، وتحميل الخاطب خطأ التصرف مع طليقته السابقة.
كانت اللحظات تمر ثقيلة وكئيبة، وكان الترقب هو السائد، أغلقت دفتر الضبط، وحاولت استثمار الوضع، فقلت: ”أن الحياة تجارب وتحولات وعِبر، ومن الضرورة أن يستفيد الإنسان من تجاربه، وأن يقرّر بينه وبين نفسه أن لا يعود لأخطائه السابقة“. وأطلت الحديث بكلام مريح للطرفين فرضه عليّ حفظ ماء الوجوه، وحتى لا ينفضّ المجلس عن خصام وعداوة، لأن بعض أطراف الحديث كادت أن تتحول غيبة إلى والد الفتاة المطلقة، وإلى انفعالات في غير محلها من بعض إخوة الخاطب.
مستوحيات القصة:
1/ أَلبَس والد الفتاة المطلقة كلامه حلة ناعمة، لكنه كلام في غاية القسوة، وإذا كان يرى أن هذا من باب النصيحة للعروس الجديدة، فمن الأفضل أن يوصل نصيحته بعد أن يختار وقتا وأسلوبًا مناسبين، لقد كان من المحتمل أن ينقضّ عليه طليق ابنته أو أي أحد من طرفه ويوسعه ضربًا وشتمًا وإهانة لا سمح الله.
2/ النجاح هو أن تدار الأسرة بأسلوب أخلاقي راق، جوهره الدين والإنسانية والمودة والرحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، ومن يغادر المودة الرحمة ويعمد إلى الضرب والإهانة فقد أعلن إخفاقه في إدارة حياته الزوجية، وما يقوم به هو تعويض سيئ سيؤدي إلى المزيد من الفشل والإخفاق.
3/ الابتزاز المالي للزوجة حين تطلب الطلاق - بعد الضرب والعذاب والإهانة - وإلجاؤها للخلع بمبالغ كبيرة هو علامة أخرى من علامات السلوك الرخيص، والأخلاق الهشة، والكرامة المنقوصة، وهو استرباح غير مبرر من آهات الزوجة وآلامها، إن بعض الأسر تضطر إلى الطلب والاقتراض لتخلّص بناتها من جشع أزواجهم، الذين اختل ضميرهم وتلاشت أخلاقهم.
4/ تستطيع كل فتاة مقبلة على العقد أن تحمي نفسها من أن تكون فريسة لزوجها إذا اشترطت في العقد أن تكون وكيلة عن زوجها في تطليق نفسها مطلقًا أو إذا تصرف معها تصرفًا معينًا، وإذا كان هذا الشرط غير مقبول رسميا فبإمكانها أن تشترط بألّا يكون للزوج أكثر من المهر الذي دفعه لو حصل الخلع لا سمح الله، وكل فتاة تقصر في حفظ حقوقها بالاشتراط فإنها تُبقِي نفسها بلا حماية.
5/ خجل المرأة وأهلها من الاشتراط والوضوح حين العقد لا يحمي ابنتهم، فتنازل الإنسان عن حقوقه خجلًا واعتمادًا على دِين الآخرين وأخلاقهم، وحسبهم ونسبهم هو حسن ظن قد لا يكون دائما في محله، وأحيانا يكون سببه هو عدم الوعي بمشاكل الحياة، وما آلت إليه قضايا المعلقات التي تملأ أدراج المحاكم.