”بيوت الطين“ بين أنسٍ كان وذكريات حاضرة
يقولون إن في بيوت الطين من الأنس والسعادة ما لم توفره أي بيوت مسلحة ومبنية على الطراز الحديث كما هي في وقتنا الحالي! هل أنت مع هذه المقولة؟ وهل لو خُيِّرت بين أن تسكن في بيت من الطين وتحصل على ذلك الأنس، وبين أن تسكن فيلا حديثة تخلو منه، هل ستختار بيت الطين؟
من الغريب جدًا أن المستبعد حاليًا هو أن يختار أحدنا أن يسكن بيتًا من الطين ويترك التصاميم الحديثة التي تزدان بها مباني شوارع العالم، والتي تزداد تألقًا يومًا بعد يوم. ولكن حين نقرأ عن السعادة التي كانت تسكن جدران بيوت الطين في سنوات طويلة مضت، يشدنا ذلك إلى السعي وراء كشف سر تلك السعادة وذلك الأنس المتواجد بين تراكم طين شُيِّد على هيئة دور وممرات وأفنية.
كونك لم تعش تلك الحقبة من الزمن ولم تسكن تلك البيوت، قد تجد أن الحديث عنها مجرد هراء لا فائدة منه. ولكن إذا كنت مهتمًا بفهم سر تلك السعادة، ستقرأ لتقف على تلك الأسرار التي ما زالت كتب علم النفس تكتب عنها وتبحث عن مصادرها وترشد إلى منافعها، أعني بذلك ”السعادة“.
بُنِيت تلك الدور في سابق أوان وزمان من زماننا، واستُخدمت في بنائها مواد طينية من مادة الجص، وهي مادة تُحضَّر بطريقة بدائية عن طريق حرق الصخور الجيرية الهشة وطحنها لتصبح ملاطًا ”مونة“ مناسبًا لتشكيل القوالب وتماسك البناء. وغالبًا ما يُمزَج الطين بالقش، ويمكن تثبيته عن طريق إضافة الجير أو الأسمنت أو الجص، كما يمكن رصُّه في تربة صخرية.
ولتسريع عملية البناء، استُخدم الطوب اللبِن أو اللبنات المشكَّلة مسبقًا، أو الكُتل الترابية المضغوطة، أو الأكياس الترابية، أو الطوب الطيني المحروق. وقد استغل السكان الذين يسكنون السواحل البحرية أو القريبين منها حجارة الفروش البحرية المرجانية وحجارة الملح في بناء مساكنهم قديمًا، والتي كان يتم رشها باستمرار بالمياه لحمايتها من التفتت بأشعة الشمس. وتميزت هذه الحجارة بخاصية الامتصاص، حيث تختزن فيها المياه المكثفة من الرطوبة لتقليل درجات الحرارة المرتفعة، مما مكنهم من تلوينها أو الكتابة عليها دون أن تتضرر، لا سيما الأبواب والمداخل وقباب المساجد وأعمدتها، حيث حفرت عليها الرموز وكتبت فيها آيات من القرآن الكريم وزُخرفت بالزخارف الإسلامية المشهورة.
لم تكن هناك خرائط هندسية لتخطيط تلك البيوت، بل كان البناؤون يعتمدون على الخبرة والحاجة. فكانت البيوت والقصور تُبنى بشكل طبيعي؛ الشوارع تبدأ مستقيمة ثم تتعرج يمينًا ويسارًا ثم تستقيم مرة أخرى. وكذلك عرضها يبدأ بما يقارب خمسة أمتار أو أقل أو أكثر، ثم يضيق ثم يعود إلى عرضه السابق. وتنتهي بعض الشوارع في براحة أو ميدان تتفرع منه شوارع أخرى. وأحيانًا يشترك بيتان متقابلان في فضاء الشارع العلوي حيث يُسقف الشارع ويُستفاد منه لغرف سكنية لأحد البيتين أو كلاهما بالاتفاق بين الملاك أثناء البناء. وهكذا ينشأ شارع مظلل يستفيد منه المارة، ويسترخي فيه كبار السن من الجيران في لقاء اجتماعي يومي بعيدًا عن حرارة وأشعة الشمس صيفًا، ويمارس فيه الشباب والصبية ألعابهم المفضلة.
داخل البيوت الطينية، كانت الغرف تُفرش ببساط خفيف مع مراتب بسيطة ومخدات تُطوى في الصباح وتُفرش عند المساء وقت النوم. ومنهم من كان يفترش السطوح حيث نسمات الهواء الباردة. وعند شروق الشمس يُطوى الفراش ويُنزل إلى داخل الغرف حتى لا يتأثر بالغبار أو المطر أو أي عوامل أخرى.
أما ”البراحة“ أو ما تسمى غرفة المعيشة حاليًا، فهي المكان الذي كان يلتقي فيه جميع أفراد الأسرة بعد عودة الأهالي من أعمالهم أو الأطفال من مدارسهم. تتوسطها تلفاز - إن كانت الأسرة تمتلكه - يجتمعون حوله في أمسياتهم، أو يتشاركون الأحاديث الطويلة بعد يوم مضى.
اليوم لا نرى تلك البيوت إلا في أماكن متفرقة مترامية في وطننا العربي، بين المهجورة أو المتداعية، وبين من تبقى منها زاوية أو عامود فقط يشعرك بأنها كانت هنا في وقت من الأوقات بيوت وأسر، نار وطعام، ضحكات وفرح، حزن وألم، وقصص كثيرة.
بعض القصور الهامة في وطننا اعتنت بها الحكومة، فأعادت بناءها وترميمها لتبقى حاضرة بذكرياتها وبما حصل فيها من أحداث أو قرارات. وبعضها حُول إلى متاحف ليشهد الناس طريقة بنائها وما تحتويه من أدوات معيشة وكيف عاش فيها الناس قبلنا؛ تاريخ وحضارة لم تشهدها أعيننا بل سمعنا عنها الكثير وربما القليل.
ما هي السعادة التي يتحدث عنها الناس في بيوت كهذه؟ أهي بساطة البناء أم تقشف المعيشة؟ أم ثقافة الجوار بين الناس وتعايشهم الممزوج بعدم التكلف؟ فقد كانت الدور تكاد تكون مفتوحة، والأسطح مشرعة، والأحاديث شبه مسموعة، تتسرب من بين طين الجدران وقشها. وكل جار كان لا يتحرج أن يدخل بيت جاره ليعبر منه إلى آخر الشارع إن كان بيته يقود إليه.