هذا إهانة لنا ولابنتنا
في ليلة عليلة الهواء، جميلة الطقس، ذهبت لإجراء عقد الزواج لأحد الشباب، وبعد أن كتبت كل شيء ووثقته «تبعا للإجراء المتبع في عقود الأنكحة في ذلك الوقت» طلبت من والد الفتاة أن يسلّك لي طريقا لأخذ موافقة الفتاة، فأشار إلى أحد أبنائه ليرتب الأمر، ذهب الولد، ثم عاد إلى المجلس ليدعوني إلى الغرفة المجاورة، حيث الفتاة ووالدتها وأخواتها، كان والد الفتاة كبيرًا في السن، فذهبت برفقة أخيها وأخي العريس، فهما الشاهدان على العقد.
كانت شروط الفتاة عادية ومقبولة عند العريس حين عرضناها عليه، وكانت موافقة الفتاة وأهلها سلسة وسهلة، غير أن ما لم يكن متوقعًا حصل في أمر جزئي بسيط، حينما قلت للفتاة: ”أن خاطبك أحضر معه عشرين ألف ريال «20,000 ريال» كصداق للزوج، فهل أنت موافقة على هذا الصداق؟“.
يبدوا أن الشيطان الذي يكمن في التفاصيل، كان ينتظر هنا، فقد وجمت الفتاة للحظات، بعد أن تمتمت أمها القريبة منها بكلمات لم أسمعها بدقة، لوجود مسافة تقرب من 3 أمتار تفصلني عنهما، أعدت سؤالي عليها: ”هذا صداقك فهل أنت موافقة؟“.
لم تمض ثوان حتى قالت إحدى الحاضرات «وأظنّها أختها»: هذا الصداق قليل، وعقّبت الأم ما توقعنا ذلك من الخاطب ولا من أسرته، البنت ليست أقل شأنا من أختها التي سبقتها في العقد قبل 10 أشهر، هذا إهانة لابنتنا ولنا!!".
كان يهمّني رأي الفتاة فقط، لكنّها كانت صامتة، فقلت لهن: ”لا بأس، سأعود مرة أخرى إلى مجلس الرجال لمعالجة الأمر، ولن يحصل إلا الخير والصلاح“. عدت إلى المجلس وعاد معي أخوها وأخو العريس، وكنت أنوي أن أعالج الموضوع بهدوء لمعرفتي بالعريس وبأسرته، ولكن حصل ما لم يكن متوقعًا.
بدأ أخوها موجها كلامه لأبيه: ”مهر أختي قليل، وهو أقل من مهر أختها، والوالدة غير موافقة، وأختي كذلك لم تعط الموافقة، ولم نتوقع من الجماعة أن يتقدموا لأختنا بهذا المهر القليل“.
بادر والد العريس بالرد: ”نحن نعرف الأصول، واسألوا عنا الناس، وأنتم أهل أصل معروفون، لكن هذا الكلام الذي يوجه لنا ونحن في ضيافتكم هو إهانة مؤذية لنا“.
كان بإمكان كلمة واحدة من العيار الثقيل أن تفجّر الوضع، وكان يمكن لتصرف منفعل كأن ينسحب والد العريس مع بقية أولاده أن ينهي كل شيء.

طلبت من الجميع أن يذكروا الحبيب المصطفى وأن يصلّوا عليه، وقلت لهم كل شيء قابل للعلاج، والأمر بسيط إن شاء الله، ولن يستعصي على الحل، ونحن قدِمنا لأمر يحبه الله ورسوله، ولن نخرج إلا برضا الله ورضا رسوله ورضاكم جميعًا، فأعيدوا ذكر الحبيب ثانية وصلّوا عليه.
قلت لوالد العريس: ”ما الأمر؟“. قال: ”حصلنا على موافقة البنت بالزواج عن طريق والدها، وجئت له قبل 5 أيام لترتيب أمر هذه الليلة، وسألته كم تأمرون علينا صداقا للعروس، فقال ما يأتي منكم فهو مقبول، وأنا زوّجت ابنتين هذا العام وصداق كل واحدة منهن 20,000 ريال، فعاملتها كبنت من بناتي، وما يأمر به أبو فلان «والد العروس» والعروس فهو قليل في حقهم ونحن حاضرون“.
فهدأت النفوس، وتبدد التوتر، وبدأت الكلمات الهادئة، وتم كل شي على خير وتوافق من الجميع، ولله الحمد أولًا وأخيرًا.
مستوحيات من القصة:
1/ إذا جئت لغرض وأمر لله ولرسوله فيه رضى، فلا تغفل عن هدفك لأن موقفا صدر من شخص هنا أو آخر هناك، فالكلمة الطيّبة الهادئة بإمكانها معالجة المواقف الصعبة مهما كان حجمها.
2/ لا تُحمِّل الآخرين ما يدور في خلدك، ولا تتهمهم بقصد إهانتك، فربما تكون منطلقاتهم منطلقات احترام وتقدير لك ولعائلتك، فوالد العريس افترض للعروس مهرا كمهر ابنتيه اللاتي زوّجهن قبل عام، فرضي لعروس ابنه ما رضيه لابنتيه.

3/ العروس «ووالدها»، هما فقط من له الكلمة والرأي، والأفضل مع وجود الأب ألّا يتدخل أحد من الأولاد، مهما كبرت أعمارهم.
4/ الوضوح في الشروط والصداق خير من ترك الأمور بلا بيان وتوضيح، لقد كان بإمكان والد العروس - مثلا - أن يخبرهم أن صداق أختها كان 25,000 ريالا، فتفضلوا والبنت بنتكم.
لكنه إذا لم يشترط أو يقرّر مع الخاطب صداقًا معينًا فعليه أن يقبل بما يقدم من صداق، وأن يجعل العروس في الصورة، لأنها المعنية بالقبول والموافقة، وأن يخبر من لهم صلة بالأمر كأمِّها وإخوانها وأخواتها أنه لم يطلب شيئا، وأنه قابل بما يقدّم.
5/ زيادة الصداق لواحدة من البنات ليس فخرًا ولا عزًا لها، ونقصه عن أختها الأخرى ليس ذلاً وإهانة لها، فهذه خُزعبِلات، لا صحة لها ولا مكان لها في النفوس السليمة والمعافاة.
6/ كلمة عن كلمة تفرق كثيرا، كان بإمكان الأم أن تقول بدل كلمة ”هذا إهانة لابنتنا ولنا“، أن تقول: ”نود أن يتساوى مهرها مع مهر أختها التي سبقتها“. وكان بإمكان والد العريس أن يقول بدل كلمة ”هذا الكلام الذي يوجه لنا ونحن في ضيافتكم هو إهانة مؤذية لنا“ أن يقول: ”البنت بنتنا قصدناها وقصدناكم لأنكم كرام وقربكم لا يقدر بثمن“. اختيار الكلمات مهم في كل وقت وكل موقف، وفي المواقف المهمة والمفصلية تتضاعف أهميته.