المعلم الأكثر فسادا في العالم
ما أكثر الظاهر المظل، وما أكثر العمى فيما تبصره العيون، وكم من طمست عيناه وبصيرته حديد، وكم من مبصر يتردى في الظلمة ولا يهتدي سبيلًا..!.
سأروي لكم قصة المعلم الأكثر فسادا في العالم على من أحد طلابه:
عشت عشرين حولا أحمل في نفسي احتقارًا عظيمًا لمعلمي في الابتدائية؛ لأنه كان فاسدا وظالما، ولا يتصف بالحد الأدنى من العدالة، ففي كل يوم. يحضر ومعه «إفطار متنوع».. ولكنه يختار دائمًا من الفصل. ثلاثة طلاب فقط يسألهم أسئلة بسيطة جدا وسهلة جدا، وبعد الجواب عليها يمنحهم الإفطار الشهي. كمكافأة لهم وبقي على هذا الحال حتى نهاية العام الدراسي… كانت الحظوة والثناء لهم دائمًا.
وحين كبرت كنت لا أتورع عن شتيمته بأقبح أنواع الشتائم والسخرية منه، وإخبار الجميع عن ظلمه وتمييزه بين طلابه، وربما كانت له دوافع غير شريفة..! لا سيما وهم غير متفوقين بتاتًا، ولا يكاد يتميز أحدهم في شيء.
وشاء الله تعال أن يتوفى أحد الثلاثة الذين اصطفاهم المعلم الفاسد الظالم بعطاياه ورعايته طيلة العام، فذهبت الأداء واجب العزاء فيه وهناك سقط عني ظاهر العين التي تبتلى بالعمى!.. وأسفت على نفسي وأشفقت عليها، وعضضت على أصابعي حتى حفرتها أسناني، وغارت عيني وأنا أستمع إلى أخيه وهو يروي لي.
إن صديقي المتوفي مصاب بفقر الدم، وسوء التغذية، لأنه ولد يتيما معدمًا، وإن مصدر رزقهم الوحيد هو بيع أمهم البقول المطبوخة على رصيف قريب من بيتهم..!!..
وإن فلان المعلم.. الذي كنت أشيع بين الناس طيلة عمري إنه - المعلم الأكثر فسادا في العالم - هو الذي سجله مع يتيمين آخرين في المدرسة، وتعهد بنفقتهم رغم ضعفه ورقة حاله، وكان يوهم الأيتام الثلاثة أنهم متفوقون فيمنحهم ما هم بحاجة إليه من أحذية.. وملابس رياضية...! حتى إنه كان يحضر وجبات الإفطار من بيته، ثم يسألهم أسئلة سهلة ليحفظ لهم كرامتهم أمام زملائهم....!.
وكان يصرف لهم مبالغ نقدية من خلال جوائز وهمية وغير حقيقية...!. وإنه حين مات المعلم فجأة، أدركنا أن أطهر لقمة معجونة بالكرامة وبالعفة عن الرياء هي تلك التي كانت يسوقها لنا هذا الملاك الصامت، لأنه ظل يخبر الناس، أن هؤلاء الطلاب الثلاثة تصرف لهم وزارة التعليم، جوائز تفوق ونبوغ..! ولم يكن لهم نصيبًا منها..
خرجت من العزاء وأنا في عزاء أعظم منه أقمته على نفسي... ولكن لا أحد يعزيني في هذا العمى والجهل والظلم العظيم، أيقنت أن ليس كل ظاهر يعبر عن حقيقته، وإن العين في المحسوس ترتبك، ومع كل ظاهر نبتلى بغشاوة، مشيت أبحث عن قبر من صلبته حيا على أعمدة سوء السمعة، مشيت إليه، وأنا في كرب لا يفرجه ندم، ولا تقيلني منه مغفرة.
أنا القسام على قدحه وذمه، أنا المحتقر له في كل مجلس، وأنا السادر في تنقيصه في كل حضرة يحضرها، ما كان يرد عن نفسه، وما كان يغضب لها، ويلوذ بصمته كأنه مذنب فرغ من الإقرار بذنبه..!.
من منا يسلم من عمى الظاهر..!!
من منا ينجيه الله من غرور دعوى العلم ببواطن الأمور..!!
لو حضرنا مريم عند رجوعها لكنا أول من يرميها بحجر..!.
ولو حضرنا الخضر بعد خرق السفينة لقطعنا يده على الساحل..!. ولو الفينا يوسف عند الباب الذي انفتق.. لأوسعنا له حفرة تكون له قبرا لا يهتدي إليه أحد..!.
إن غرورنا، وشعورنا بالتفوق.، يجعلنا. نعمم سوء الظن بكل من حولنا.
ربما.. لأننا نشعر أننا أطهر منهم دائمًا، وأفضل منهم لسبب من الأسباب أو بطريقة من الطرق..
وإن أوهن الظنون كافية لنجعلها يقينا لا يقترب منه شك..
حين ذم الحواريون لعيسى (ع) جثة كلب ميت تأكل ديدان الأرض لحمه المتفسخ...!
قال لهم عيسى:.. ما أشد بياض أسنانه...!.
عيناه وبصيرته تلتقط الجمال حتى في الجيف المتحللة...!!

وعند لحظة البصر الحق ووحدة الظاهر والباطن..
بكيت على قبر المعلم الأكثر فسادا في العالم... ولكن هذه المرة بوصفه أطهر نفس.. وأعظم مربي وقعت عليه عيني.. راجيًا عفوه.. طامعًا في نوال مغفرته..!.
حين بلغت هذا المبلغ سألت نفسي...!
كم... قبر.. وعتبة باب.. بحاجة إلى أن أبكي عليها طالبا مغفرة عن سوء ظني فيهم.. لظاهر أعمى يحمل نقيضه ولا يهدي إلى حقيقته..!.
وكم من نفس طاهرة صلبناها على أخشاب سوء ظنونا..!؟.
هنا يتجلى على قلبي وقلبك... عظيم وصية الله تعالى لنا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: آية 12]