تشاينا تاون بانكوك : الحياة في أكبر حي صيني في العالم
تشاينا تاون بانكوك
تشاينا تاون بانكوك | الأحمر، اللون الوطني والمفضل لدى الصينيين يسيطر على المكان، ورائحة توابل صينية، أعلم أنها قد تكون مزعجة لمن لم يعتادها، تنبعث من هنا وهناك. وكلمات باللغة الصينية تلتقطها الأذن، وأخرى بنفس اللغة لا تخطئها عين من سافر الصين مرات عدة، مكتوبة في كل لافتات الفنادق والمحلات والمطاعم وغيرها.
للوهلة الأولى ستشعر أنك في أحد أحياء بكين أو شنغهاي. قد تضطر إلى مراجعة جواز سفرك، لتتأكد من أن ختم الدخول على جوازك، صادر من مطار سوفارنابومي الدولي في بانكوك.
زرت الصين وتايلاند أكثر من مرة، إلا أنني هذه المرة أجمع بينهما في نفس الرحلة ونفس الوقت والمكان، هنا في تشاينا تاون بانكوك ، الوجه الصيني للعاصمة التايلاندية بانكوك، والحي الأكثر حيوية ونشاطًا وبيعًا وشراءً، وكذلك جذبًا للسياح الذين يرغبون في التعرف على جانب من الثقافة والحياة الصينية، أثناء زيارتهم إلى تايلاند.
تشاينا تاون بانكوك
مدن كثيرة حول العالم، يحمل أحد أحيائها اسم تشاينا تاون ، والحقيقة أنني كنت محظوظ بزيارة بعضها من قبل في دول مختلفة، بينها ماليزيا، التي يمثل الصينيون أكثر من 20% من عدد مواطنيها. إلا أن المختلف في بانكوك، أن الحي الصيني بها هو الأكبر من نوعه في العالم، ويضم أكبر جالية صينية خارج الصين، ظلت متمسكة بثقافتها وهويتها وعاداتها وتقاليدها وأعيادها ومهرجاناتها ومعابدها وحتى أطباقها الشعبية.
كنت محظوظًا هذه الرحلة عندما قررت حجز هوستيل في الحي الصيني في بانكوك، قضيت فيه أسبوعًا كاملًا للتعرف أكثر على بانكوك الصينية. عبر بوابة حمراء كبيرة مزخرفة بزخارف صينية ذهبية، دخلت تشاينا تاون بانكوك من مدخلها الغربي في طريقي إلى الهوستيل. البوابة التي افتتحت في عام 1999، والتي كانت بمثابة رسالة تأييد وولاء للصينيين التايلانديين للملك الراحل بومبيول في عيد ميلاده الستون، وكذلك إعلانًا عن هوية المكان وثقافته.
حاملًا حقيبتي على ظهري، أسير في شارع يوارات، الشريان الرئيسي الذي يمد جسد الحي الصيني في بانكوك بالحياة. الساعة الآن الحادية عشر صباحًا، يكتظ الشارع بالمتسوقين، وخاصة في الشوارع المتفرعة منه، والتي كان علي السير فيها للوصول إلى الهوستيل.
بعد الخامسة مساءً قررت بدء جولتي الاستكشافية الأولى للحي، اختلفت الشوارع الفرعية المزدحمة عما كانت عليه في الصباح، اختفى المتسوقين وكأن أحدًا لم يكن هنا، والكل يغلق محلاته. بحكم زياراتي المتعددة للصين، لم يكن الأمر مفاجئًا، عرفت الصينيين ملتزمين بالعمل حتى إذا دقت الساعة الخامسة، رأيتهم شعبًا مختلف تمامًا.
الأخطبوط المشوي
من الأزقة الصامتة ليلًا الصاخبة نهارًا، انطلقت إلى شارع يوارات الصاخب ليل نهار، وإذ بالشارع الذي تصطف على جانبيه نهارًا البنوك ومكاتب الصرافة والفنادق نهارًا، لا ترى فيه إلا طوفان بشري على الجانبين، وعربات أكل الشارع قد احتلت الأرصفة. في ثقافتنا العربية، يعد أكل الشارع من الأمور غير المحببة، أو لنقل من العادات السيئة، أما في ثقافة دول جنوب شرق آسيا، فإنه جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية لأي إنسان.
قد لا تكون حاسة الشم لديك معتادة على رائحة التوابل الصينية، وقد تشعر أنها منفرة، لكنني في الحقيقة اعتدتها، وأحببت أكلات بعينها مثل الأخطبوط المشوي على الفحم. في هذا اليوم، بحثت كثيرًا عن أي طعام مناسب في مئات العربات المصطفة على جانبي الطريق والشوارع الجانبية، إلا أنني لم أجد ما تقبله نفسي سوى الأخطبوط المشوي.
بكل بساطة وثقة تقدمت نحو البائع وطلبت أخطبوط، فإذ به يشير لي إلى نهاية طابور طويل، حيث يتوجب علي الوقوف للحصول على وجبة العشاء والغداء معًا. نظرت إلى حيث هناك، وقررت النوم دون عشاء، رغم أنني جئت من بلد تؤمن بأن “محدش بينام من غير عشا”.
صحيح أن المأكولات البحرية تستحوذ على نصيب كبير من الأطعمة الصينية المعروضة، إلا أن طريقة طبخها قد تجعلك تفكر بدلًا من المرة ألف قبل الإقدام على تجربتها. أكثرهم تشويقًا كانت الاستاكوزا، وهي الأغلى إلى جانب وجبة زعانف أسماك القرش، فالواحدة منهم يتراوح سعرها بين 1000: 1500 بات.
قررت هذه المرة كسر قواعد الإنفاق، كنت حذرًا كون الأمر سيمس بالضرورة ميزانية سفري المحدودة، إلا أن مشاهدة الاستاكوزا التي يتجاوز وزن الواحدة منها كيلوجراًما، على النار وهي منقسمة إلى شطرين، والجبن الموتزريلا يذوب من فوقها، كان كفيل بأن أتخذ القرار.
الحي الصيني في بانكوك
عربات الطعام في تشاينا تاون بانكوك
اخترت واحدة، وبعد وزنها، لمعرفة السعر وقد اقتربت من الألف جرام، اتخذت مكاني على إحدى طاولات المطعم الصيني، متابعًا مراحل طهو الاستاكوزا أمامي، قبل أن يضعها هذا الشاب التايلاندي الجنسية الصيني الهوية والثقافة، في طبق أمامي، وإلى جوارها طبق صغير به صوص من الفلفل الأخضر. تختلط رائحة الطعام البحري برائحة الجبن الذي يذوب على جوانبه، ويتداخل لون قشر الاستاكوزا الأحمر مع لون الجبن الأصفر، قبل أن أتذوق الاستاكوزا بالجبنة لأول مرة في حياتي، في تجربة هي بحق ممتعة وتستحق الـ 1000 بات التي دفعتها في هذه الوجبة.
على كل حال، تحتوي عربات الطعام في الحي الصيني ببانكوك، على البط البكيني الشهير، لا أعرف في الحقيقة كيف يطهى، لكن طريقة عرضه غير مشجعة على الإطلاق على تناوله. تًعلق البطة وكأنها مشنوقة أو مصلوبة، وتطلب منها ما تريد ليقوم البائع بإعداده لك.
عقارب وحشرات مقرمشة
هذا إلى جانب الكثير من المأكولات والعصائر والفواكه الاستوائية، ومن أشهرها الدوريان، وهو فاكهة ذات قيمة غذائية عالية، إلا أن له رائحة نفاذة ستلتقطها أنفك في كل شوارع الحي الصيني، ورغم شعبية هذه الفاكهة، إلا أنه لا يُسمح بدخولها إلى الفنادق أو المطارات أو غيرهم من الأماكن، بسبب رائحتها.
في شوارع تشاينا تاون بانكوك أيضًا قد تجد مجموعة من الأجانب وقد التفوا في شكل نصف دائرة حول إحدى عربات أكل الشارع، ليلتقطون الصور معها. صادفني المشهد عدة مرات فاقتربت، ومن اقترب اكتشف، ومن اكتشف عرف.. عرفت أنها عربات لبيع أنواع مختلفة من الحشرات المقرمشة والمحلاة بالسكر.
أعرف أن ثمة غثيان قد يصيبك الآن، سأحاول أن أخفف عنك وسأخبرك بالأسعار دون وصف: العقرب 60 بات، الصرصار الكبير 50، الضفدع الصغير 25، إضافة إلى تشكيلة أخرى من الدود والحشرات المقرمشة، التي يأكلونها كسناكس بين الوجبات، فتجد أحدهم يحمل علبة صغيرة يده وهو يتجول في تشاينا تاون، بينما يلتقط بعصا صغيرة مدببة ما لذ له وطاب من حشرات مقرمشة ومحلاة.
تايلانديون صينيون
التايلانديون الصينيون، الذين يمثلون حوالي 14% من مواطني تايلاند، هم أقدم جماعة عرقية في البلاد، ويرجع تاريخ وجودهم فيها إلى قرنين من الزمان، ورغم اعتزازهم بأصولهم الصينية، إلا أنهم لا يعيشون كجالية منفصلة وسط المجتمع التايلاندي، حيث نجحوا باقتدار في الاندماج فيه كمواطنين من الدرجة الأولى، يمارسون حقوقهم السياسية كمواطنين تايلانديين، حتى أصبح منهم عدد ليس بقليل من رؤساء الوزراء، كما نجحوا في دمج الثقافة الصينية بالتايلاندية، تمامًا كما اختلطت الدماء الصينية بالتايلاندية في الأسرة الملكية، متمثلة في الملك الأسبق تاسكين، الذي ولد لأبوين صيني وتايلاندية.
في كل مكان في الدولة يعيش الصينيون، إلا أن مركز تجمعهم الأكبر يقع في حي سامفانثاوانغ، المعروف باسم تشاينا تاون بانكوك ، وشارع يوارات شريانه الرئيسي، الذي نعود إليه الآن لنجده قد تقلص كثيرًا عما كان عليه في الصباح. من السادسة مساءً يتم رص أقماع المرور البرتقالية اللون، على جانبي الطريق، يربط بين أقماع كل جانب حبل، بما يمنح للمشاة حارة إضافية من الطريق كانت في الصباح ملكًا للسيارات، وذلك لاستيعاب هذا العدد الضخم الذي يقصد الشارع ليلًا، بما لا يعيق حركة المرور.
إلى جانب عربات الطعام والعصائر على رصيف شارع يوارات، تصطف أيضًا العديد من العربات التي تبيع الأغذية المجففة، وهو أمر شائع جدًا في هذا الحي، كل شيء مجفف، من الفواكه إلى الأسماك والمأكولات البحرية إلى اللحوم. إلى جوارهم تصطف أيضًا عربات لبيع التحف الصينية التي يطغى عليها اللون الأحمر، ويتربع على عرشها تمثال بوذا بملامحه الصينية الشهيرة.
تشاينا تاون
المعابد البوذية في الحي الصيني في بانكوك
وعلى ذكر بوذا، ما كان ممكنًا لي أن أكون في الحي الصيني في بانكوك ، دون زيارة معبد وات تريميت، الذي يضم أكبر تمثال ذهبي لبوذا في العالم، وهو واحد من أهم المعابد الصينية في تشاينا تاون وتايلاند كلها. المعبد يقع بالقرب من محطة مترو هو لامبونج، وهي المحطة التي ستستخدمها دائمًا للانتقال إلى أي مكان في العاصمة التايلاندية من تشاينا تاون.
لم يحالفني الحظ في زيارة الحي الصيني في بانكوك في وقت أي من الاحتفالات أو المهرجانات الصينية، مثل عيد الربيع ورأس السنة، لكن إذا خططت رحلتك في هذا التوقيت من العام، فاسمح لي أن أنصحك بزيارة معبد وات مانجكول كامالاوات، أو معبد التنين. يقع المعبد الذي تأسس عام 1872، ويعد من أهم وأكبر المعابد الصينية ببانكوك، في قلب تشاينا تاون، وهو مركز الاحتفالات والمهرجانات الصينية، إلا أن أهم ما يميزه، أنه معبد قومي قبل أن يكون ديني، فهو معبد صيني، لكن به العديد من المزارات البوذية والطاوية والكونفوشيوسية.
حدائق وأسواق تشاينا تاون بانكوك
بعد إحدى الجولات الممتعة المرهقة في تشاينا تاون، دخلت لألتقط أنفاسي في حديقة رومانينارت، غرب تشاينا تاون. في أزمنة ماضية، كان هذا المكان موقعًا لسجن بانكوك، بالتأكيد هنا ارتفعت أنات المظلومين ونحيب ندم المذنبين، إلا أن لا صوت يرتفع الآن هنا سوى صوت الطيور ومداعبة النسيم لأوراق الشجر، وضحكات من هنا وهناك، حيث يقصده الصينيون التايلانديون للتريض وممارسة الرقص الصيني وكذلك ممارسة الرياضة سواء بالجري تحت الأشجار أو في منطقة اللياقة البدنية المفتوحة للجميع في الحديقة، هذا بالطبع إلى جانب الاسترخاء، وهو ما فضلت القيام به أثناء وجودي في المكان.
زيارة الحي الصيني العريق، لا يمكن أن تكتمل دون جولة تسوق في العديد من المولات والأسواق المختلفة والمتنوعة، والتي يجمع بين منتجاتها جملة “صنع في الصين”. مثل مول سيام بلازا، وسوق خلونج توم، وهو مخصص للسلع المستعملة، وسافان لي ماركت، وهو مول من دورين متخصص في الالكترونيات وكل ما يتعلق بها.
من بين العديد من الأسواق في تشاينا تاون، اسمحي لي بأن أنصحك بسوقين، الأول هو تالات كاو، وفيه ستجد بشكل أكبر الأغذية المجففة وبعض المسليات، ويقع في شارع صغير وعلى جانبيه محلات أصغر تعرض المنتجات المختلفة. ما يميز هذا السوق في رأيي أنه مقام في نفس المكان الذي شهد أول أسواق الصينيين الذين جاؤوا إلى تايلاند قبل قرنين من الزمان.
السوق الثاني، وهو مناسب تمامًا لشراء الهدايا التي ستحتاجها حتمًا بعد رحلتك للأصدقاء والعائلة، وهو سوق سامبينج، وهو عبارة عن حارة ممتدة، على جانبيها محلات، منها الصغير ومنها الكبير، إلا أنه يتميز بكمية هائلة من المنتجات المختلفة والمتنوعة، فما من شيء قد تحتاجه إلا وقد تجده في هذا السوق.. زره مرة واحدة قبل عودتك إلى الوطن، فقد تجد فيه إجابة عن سؤال الجميع لك: “ماذا أحضرت لي من تايلاند”.