أول الانقلابيين العرب.. حسني الزعيم وأيام سوريا السوداء
في فاتحة القرن العشرين، كانت الأقطار العربية تعيش حالة من الغليان والصدمة بسبب السياسات الخاطئة التي تعرَّضت لها من قِبل العثمانيين في فترة حكومة الاتحاد والترقي تارة، ومن قِبل العرب أنفسهم تارة أخرى، وهم الذين اتَّحد جزء منهم مع السياسة البريطانية في المنطقة التي هدفت إلى السيطرة على تلك البلدان واحتلالها وتفكيكها على أساس عِرقي وقومي، وبسبب تبدُّل العالم القديم وإمبراطورياته في خضم الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وصعود القوتين الإنجليزية والفرنسية، فقد قرَّرت القوتان المهيمنتان تقسيم الأقطار العربية وفق اتفاقية “سايكس-بيكو” الشهيرة في عام 1916.
حين انهزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وأُجبرت قواتها على الرحيل من سوريا عام 1918، وكانت القوات العربية التابعة للشريف حسين متحالفة مع الإنجليز في المنطقة العربية بقيادة أبنائه فيصل وعبد الله، أُعلِن فيصل بن الحسين ملكا دستوريا على سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 1918، لكن سرعان ما انقلبت فرنسا وبريطانيا على هذا الاتفاق، ونفَّذوا اتفاقهم الشهير “سايكس-بيكو”، ومن ثَمّ وقعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي في يوليو/تموز 1920، الذي استمر 26 عاما ذاقت فيها سوريا ويلات الاحتلال وألاعيبه الخبيثة.
سوريا من رئاسة عابد إلى شكري القُوَّتلي
في ظل الاحتلال الفرنسي، نشطت الحركة الوطنية بزعامات مختلفة، وحاولت إنشاء المجلس الوطني “البرلمان”، وسعت بكل سبيل ممكن لإنهاء الانتداب الفرنسي في البلاد، وكان من جملتهم “شكري القُوَّتلي”، الذي يعود نسبه إلى أسرة عربية عريقة جاءت من الجزيرة العربية واستوطنت سوريا، وقد تمتعت بالمكانة الاقتصادية والتجارية العالية حتى باتت من كبار العائلات في دمشق. وفي الفترة بين عامي 1908 و1913، مكث القُوَّتلي في إسطنبول، ودرس العلوم السياسية والإدارية من المعهد الشاهاني الملكي العثماني، وعاد متأثرا بأفكار جمعية الاتحاد والترقي التي انقلبت على السلطان عبد الحميد، ولهذا السبب كان من مؤيدي استقلال العرب عن الدولة العثمانية، وكان من المقربين من الشريف حسين وابنه الملك فيصل.
على مدار العشرينيات والثلاثينيات انخرط القوّتلي في الحركة الوطنية ضد الوجود الفرنسي، وأسس عام 1932 “الكتلة الوطنية” للدعوة إلى استقلال سوريا مع مجموعة من رفاقه، منهم “هاشم الأتاسي” و”جميل مردم بك” و”فخري البارودي”. وقد شاركت الكتلة في “جمعية تأسيسية” وافق عليها الشعب السوري للتواصل مع سلطة الانتداب الفرنسي وصياغة دستور للبلاد، كانت أبرز بنوده “إقامة حكومة تمثيلية ودستور ليبرالي”، لكن الانتداب الفرنسي عطَّل خمسة من بنوده بحجة “تعارض البنود مع سلطات الانتداب”، وانتهى الأمر باتفاق آخر عام 1936 على غرار المعاهدة العراقية البريطانية.
وفقا للاتفاق الذي جرى بين فرنسا والحركة الوطنية، انتُخِب “محمد علي العابد” أول رئيس للجمهورية السورية (1932-1939)، وكان من الطبقة الأرستقراطية الدمشقية، حيث وقف على الحياد بين مؤيدي الانتداب الفرنسي والحركة الوطنية، وحين اشتعلت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/أيلول 1939 سرعان ما وقعت فرنسا تحت الاحتلال الألماني عام 1940، وانقسمت بين حكومتَي “فيشي” الموالية للألمان، وحكومة “فرنسا الحرة” بزعامة الجنرال ديغول.
وقد أثرت هذه الأحداث على وضع الاحتلال الفرنسي في المنطقة العربية، لا سيَّما في سوريا ولبنان، ومع وعد من ديغول باستقلال سوريا ولبنان شريطة التعاون مع حكومة فرنسا الحرة، حصلت سوريا على استقلالها قانونا أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم واقعيا مع الانسحاب الفرنسي عام 1946.
أسرار انقلاب حسني الزعيم
في عام 1943 انتُخِب شكري القوَّتلي مرشح الكتلة الوطنية رئيسا لسوريا خلفا لـ”تاج الدين الحسني” الذي وافته المنية أثناء رئاسته، وبهذا أصبح القوَّتلي الرئيس الأول لسوريا بعد استقلالها. ولم تمضِ سوى ثلاث سنوات على استلام وحدات الجيش السوري من السلطات الفرنسية، حتى خاض هذا الجيش -ضمن الجيوش العربية الأخرى- حرب فلسطين عام 1948 التي أدت إلى كارثة النكبة. وقد كان الشعور العام لدى قيادة الجيش السوري وضباطه أن القيادة السياسية لم تكن على مستوى الطموحات والآمال المعقود عليها، وأنه كان بالإمكان الخروج بنتائج أفضل لو جرى الإعداد الكافي من المؤسسات السياسية الحاكمة، وهو الشعور ذاته الذي انتاب المصريين آنذاك. وبدورها، أخذت المؤسسات السياسية على القيادة العسكرية ما أفضت إليه الحرب من نتائج وما شهدته من أداء أدنى من المأمول، ولذا عملت على إقالة قائد الجيش “عبد الله عطفة”، وقائد الرتل السوري المُكلَّف بالهجوم العقيد “عبد الوهاب الحكيم”.
تفاقمت أزمة انعدام الثقة وتبادل الاتهامات بين الطرفين مطلع العام 1949 جرَّاء إقدام بعض النواب والزعماء السياسيين على انتقاد قيادة الجيش تحت قبة البرلمان وعلى صفحات الجرائد. وقد كتب “هاشم عثمان” في كتابه “تاريخ سورية الحديث” أن تدقيق النظر في الحوادث التي حفَّزت الانقلاب يكشفه بجلاء، لأنه ما كان ليقع لولا سوء تصرفات رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الجمهورية نفسه، إذ استغل هؤلاء مؤامرة فساد الجيش وضخَّموا من حادثة بعض العقود الفاسدة، لا سيما قضية توريد “السمن المغشوش” إلى الجنود، حيث تفقَّد الرئيس القوَّتلي آنذاك أحد مستودعات الجيش في مارس/آذار 1949، ووجد سمنا فاسدا مورَّدا إلى الجيش، ولذا اتهم رئيس أركان الجيش “حسني الزعيم” بالفساد والخيانة والتآمر مع ملك الأردن عبد الله الأول”.
نتيجة لهذه الحملة البرلمانية والصحفية الشعواء ضد الفساد الحاصل في الجيش، اجتمع كبار الضباط بقيادة رئيس الأركان “حسني الزعيم” وقرروا إرسال مذكرة احتجاج وقائمة مطالب إلى رئيس الجمهورية، وفي 25 مارس/آذار 1949 قدّم الزعيم للقوَّتلي مذكرة خطية مُوقَّع عليها من حوالي خمسة عشر ضابطا من كبار ضباط القيادة بها مطالب بإصلاح الوضع، أبرزها محاكمة المسؤولين عن عدم تحضير الجيش وإعداده وتسليحه وتجهيزه منذ عام 1945 حتى حرب فلسطين، وعدم التعرُّض في المستقبل لمناقشة أمور الجيش في جلسات علنية، والكفّ عن مناقشة المسائل العسكرية من قبل المدنيين، وتعيين اللجان لها من العسكريين الموجودين في الخدمة الفعلية.
بيد أن الرئيس القوتلي لم يقرأ المذكرة ولم ينظر في مطالب القادة العسكريين الذين قدَّموها، بل وجَّه اللوم إلى حسني الزعيم على استلامها منهم وتقديمها باسمهم، قائلا إنه من الأفضل الاهتمام بتدريب الجيش وتنظيمه بدلا من تقديم الاستدعاءات. وقد كانت هذه المذكرة، أو بالأحرى رفض استلام هذه المذكرة والنظر في محتواها، السبب المباشر الذي حفّز حسني الزعيم على أن يجمع قادة الضباط في القنيطرة ومفاتحتهم في أمر الانقلاب.
لكن مناقشة الانقلاب العربي الأول بمنأى عن الأوضاع العالمية بعد الحرب العالمية الثانية وبروز القوتين الأميركية والروسية يحرمنا من زاوية مهمة، فقد سعى الروس آنذاك إلى تصدير الشيوعية ومد نفوذهم إلى الشرق الأوسط، وأدركت أميركا أهمية الشرق الأوسط بوصفه قاعدة لمواجهة هذا المد بعد أن نجحت في جذب تركيا واليونان إلى مدار نفوذها، ولذا تواصلت واشنطن مع شكري القوَّتلي، واقترب جواسيسها ومحللوها عن قرب من الأوضاع الداخلية في البلاد، وخلصوا إلى أن الوضع الداخلي “يتراوح بين ثورة دموية يُسلّحها السوفييت، أو انقلاب عسكري يقوم به ضباط من الأقليات المذهبية والعرقية في الجيش السوري ضد القوَّتلي”، على حد وصف المؤرخ “كمال ديب”.
حسني الزعيم.. البداية والنهاية السريعة
قطعت إذاعة دمشق برامجها المعتادة وبثَّت الموسيقى العسكرية، وفي السابعة صباحا قطع المذيع “المارش” العسكري وأعلن بصوت جهوري مرتجف النبرات ما يلي: “بلاغ رقم واحد، مدفوعين بغيرتنا الوطنية، ومتألمين مما آل إليه وضع البلد من جراء افتراءات وتعسُّف من يدّعون أنهم حكامنا المخلصون؛ لجأنا مضطرين إلى تسلم زمام الحكم مؤقتا في البلاد… وسنقوم بكل ما يترتب علينا نحو وطننا العزيز، غير طامحين إلى استلام الحكم، بل القصد من عملنا هو تهيئة حكم ديمقراطي صحيح، يحل محل الحكم الحالي المزيف. كان هذا جزءا من البيان رقم واحد في تاريخ الانقلابات العسكرية، لا في سوريا فقط التي شهدت بين عامي 1949 و1970م عشرين انقلابا، بل في كامل بلدان الشرق الأوسط التي ستتتابع فيها الانقلابات العسكرية وتغيِّر نمط وأفكار الأنظمة الحاكمة إلى يومنا هذا.
بعد القبض على رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته ثم صدور قرار بنفيه، أصبح القائد العسكري الانقلابي “حسني الزعيم” رئيس الجمهورية بالانتخاب، وهو صاحب الأصول الكردية القادم من مدينة حلب، وابن الثانية والخمسين عاما في ذلك الحين. وقد عمل على خطين متوازيَينِ: الأول توجيه رسائل إلى الشعب عبر الإذاعة أطلعه فيها على حقيقة حركته وأسباب قيامه بها وبرنامجه الإصلاحي المنشود، من حيث تقليل عدد النواب، وإعطاء المرأة حق الانتخاب، وتطهير الجهاز الحكومي، ومكافحة الغلاء، وتحديد الملكية الزراعية، والقضاء على البطالة، ثم محاربة المذاهب الهدامة وعلى رأسها الشيوعية، وتدعيم الجيش وتقويته. أما الخط الآخر فهو إصدار الأوامر العسكرية والمراسيم التي عزَّزت مركزه وحصرت السلطة بيده، إذ بات الحاكم العسكري والمدني لعموم سوريا، وحصر كذلك حق إصدار المراسيم في القيادة العامة للجيش، وبذلك صار على رأس السلطة التشريعية والتنفيذية ريثما تعود الحياة النيابية”.
دعمت الولايات المتحدة من فورها انقلاب حسني الزعيم وباركته، وكانت الحكومة السورية السابقة قد رفضت توقيع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل وتردَّدت في توقيع اتفاقية خطوط التابلاين لصالح شركة أرامكو السعودية-الأميركية (في ذلك الحين)، فجاء حسني الزعيم ووقّع على الاتفاقيتين، بل إننا نجد في كتاب ضابط المخابرات الأميركية والمتصل بحركة الانقلابات العسكرية هذه في سوريا ومصر “مايلز كوبلاند” قوله: “إن الزعيم وعد الأميركيين بأنه سيقوم بحركة إيجابية تجاه إسرائيل إذا نجح الانقلاب”.
كانت خطوات حسني الزعيم وتقاربه مع الولايات المتحدة حتى ذلك الحين سرية؛ ولهذا دعمه العديد من الأشخاص والأحزاب القومية والوطنية، وعلى رأسهم “أكرم الحوراني” السياسي القومي و”أديب الشيشيكلي” و”عدنان المالكي” وغيرهم من الضباط المؤيدين للحركة القومية واليسارية، لكن شهر العسل الذي رافق الانقلاب كان قد شارف على الانتهاء سريعا بسبب ظهور الوجه الحقيقي لحسني الزعيم وتقرُّبه من أميركا وفرنسا بل وإسرائيل، إذ أعلن الزعيم دعمه لمشروع عسكري أميركي يضم عددا من دول الشرق الأوسط للوقوف بوجه الشيوعية، فبادر إلى حل “الحزب الشيوعي” السوري ثم أحزاب أخرى، ووضع قيودا على النشاط السياسي المعارض وقمع الصحف، وفي يونيو/حزيران 1949 نُصِّب رئيسا لسوريا عبر استفتاء صُوري، تسبَّب في القطيعة بينه وبين القوى المؤيدة له والداعية إلى الإصلاح الحقيقي.
وضع الحوراني يده على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى نفور الطبقات الشعبية والعسكرية وابتعادها السريع عن حسني الزعيم بعد انكشاف وجهه الحقيقي وتبعيته للولايات المتحدة وفرنسا في مذكراته التي قال فيها: “تولى الإدارة الحكومية الجديدة كثير من المتقاعدين من العهدين العثماني والفرنسي، وبعض الفنيين الشباب من خريجي الجامعات الفرنسية والأمريكية… كان الشعب في سوريا كثير الحساسية بالنسبة لعودة النفوذ الفرنسي ورجال الانتداب، وإذا لم تجد عودة النفوذ الفرنسي امتعاضا في أوساط كبار ضباط الجيش فإنها أوجدت نقمة في أوساط صغار الضباط حتى تسرَّبت شائعات عن نية حسني الزعيم لتشكيل فرقة أجنبية تدعيما لسلطانه وعودة نفوذ فرنسا”.
أمام هذه الحقائق قرَّر الفرع القومي داخل الجيش السوري، بدعم من العقيد “أديب الشيشكلي” وبقيادة العقيد “سامي الحناوي”، تدبير انقلاب عسكري في أغسطس/آب 1949 ضد حسني الزعيم؛ حيث سقط صيدا سهلا أمام هؤلاء دون مقاومة تُذكَر، بل تواطأ حُرَّاسه على تسليمه لأعدائه. وفي صبيحة يوم 14 أغسطس/آب قرروا إعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه “محسن البرازي”، وأرسل العقيد الشيشكلي للأميركيين يقول لهم: “إننا نقدم لكم خدمة بمعاملة حسني الزعيم كعميل فرنسي لا كعميل أمريكي”؛ لأن حسني الزعيم دُفن في المقبرة الفرنسية، ثم انتخب البرلمان السوري “هاشم الأتاسي” رئيسا شكليا للبلاد واستلم العسكر السلطة. وبذلك انتهى حسني الزعيم وانقلابه الأول من نوعه في سوريا، لكن تسعة عشر انقلابا تبعه في البلاد حتى انقلاب حافظ الأسد عام 1970، وتخضَّبت فيها سوريا بالدماء والتقلُّبات السياسية والاجتماعية والطائفية العاصفة، كما فُتح الباب على مصراعيه منذ ذلك الحين أمام الانقلابات العسكرية في العالم العربي.