من عنك.. نجاح من طين.. مريم المشهد 7 أعوام تزرع «الإنجليزية» في ألسن الأطفال.. وقرار بـ رفضها يحولها من معلمة إلى خزافة
سبع سنواتٍ سمان قضتها بين أصوات الأطفال وضحكاتهم، بين ألوان الطباشير، ورسم الكلمات وترديدها. أمضت صباحات أيامها وهي تسقي بذرة لغة جديدة على ألسنة صغارها وتنتظر نهاية العام لتراها وقد أزهرت وأصبحت تتآخى مع لغتهم الأم.. السبعة أعوام عاشتها مريم إبراهيم المشهد وهي تعمل مدرسة للغة الإنجليزية في إحدى رياض الأطفال الخاصة، لكن موسم "السمان" انتهى على حين غفلة منها، فقد فوجئت بتسريحها من عملها دون سابق إنذار.
وعلى الرغم من صعوبة الأمر فإنها قررت ألا تستسلم للإحباط، أو تعقد علاقة صداقة مع "الزعل"، فانغمست في تطوير مهاراتها ومحاولة تطويرها للأفضل؛ كمهارة التصوير والرسم على القهوة؛ ومن رائحة القهوة فُتِح لها باب رزق جديد، باب من "طين"؛ ما إن فُتِح لها حتى تحولت من "أبلة مريم" إلى "الخزافة لافندر".
ألف باء البداية
بداية الحكاية، طالبة جامعية في قسم اللغة الإنجليزية تحلم بأن تمسك شهادة البكالوريوس، لتدخل عالم الوظيفة، ومنذ تخرجها عام 2009م، كررت طلب التقديم لتحظى بفرصة الحصول على وظيفة حكومية، لكن في كل مرة يعود لها طلبها وهو "صفر اليدين" من قبوله.
بقيت مريم في انتظار وظيفة حكومية، لكن انتظارها لم يؤتِ أكله، فما كان منها إلا أن اتجهت للبحث عن وظيفة في إحدى الروضات الخاصة، لتبني هناك جزءًا من حلمها حتى يأذن الله لها بأن تحتضن أمنيتها الأولى، وفي عام 2014م عاشت دور المعلمة بتخصصها الجامعي "لغة إنجليزية" لأطفال دخلوا لتوِّهم عالم الدراسة.
بنَت "المشهد" علاقة وثيقة بينها وبين وظيفتها، واستمر عطاؤها حتى عام 2021م، حين فوجئت بقرار الاستغناء عنها، وتسريحها من وظيفتها، فما كان منها إلا أن لملمت باقي حلمها، والكثير من محبتها للأطفال الذين عدتهم بمنزلة أبنائها وغادرت وظيفتها كما طلب منها.
تجاوز بـ الحب
كالآخرين تمامًا، كان قرار إبعادها عن وظيفتها دون سبب يذكر أمرًا مؤلمًا بالنسبة لها، فلم يكن سهلًا عليها أن تتجاوز إنهاء خدامتها وحرمانها من عملٍ أحبته واعتادت عليه، لكنها قررت ألا تسند وجه "الحزن" على راحتي يديها، كان قرارها: "لن أستسلم".
تقول: "بُعدك عن عملٍ تحبه، أمرٌ مؤلم حتى وإن كان باختيارك، فكيف به وقد جاءك دون ذنبٍ منك ولا تقصير، لكنني شخصية لم تعتد الاستسلام، لذلك لم أسمح لنفسي بأن أمتلئ بالإحباط، فقررتٍ أن أنغمس في أي شيء أحبه، واخترتُ أن أعمل على تطوير مهاراتي في التصوير، والرسم على القهوة، وقد كان هذا الأمر يستهويني، فعملتُ على أن أتقنه أكثر وأتمكن منه".
من القهوة إلى أكوابها
في بداية علاقتها بالقهوة، اقتنت مريم عددًا من الأكواب ومع مرور الوقت وهي بصحبة القهوة ومحاولة إتقان إعدادها والرسم عليها؛ أصبحت تهوى اقتناءها أكثر وأكثر، لكنها لم تكن تعلم أن خلف ذلك الحب الجديد باب رزق جديد، خاصة بعد أن فكرت أن تزاوج احتراف إعداد القهوة بتصنيع أكوابها.
توضح كيفية دخولها عالم صناعة الأكواب قائلة: "بعد محاولتي في أن أتقن فن الرسم على القهوة، أعجبت كثيرًا باقتناء الأكواب المميزة، لكنني أخذت لحظة صمت بيني وبين عقلي؛ لماذا لا أصنع أكوابي بنفسي؟! وهنا بدأت الحكاية".
تشكيل الفكرة
لتتشكل فكرتها في أن تصنع أكوابها بنفسها اختارت "المشهد" أن يكون عملها مبنيًا على أسسٍ صحيحة، وحتى يكون ذلك التحقت في نفس العام الذي أبعدت فيه عن وظيفتها، بدورة حضورية مع إحدى الفنانات في المنطقة، تعلمت خلالها طريقة عجن الطين، وطرق البناء اليدوي للقطع؛ كطريقة الحفر وطريقة البناء بحبال الطين.
وضاعفت معلوماتها في المجال ذاته، وفي نفس العام أيضًا، بدورة "أون لاين" لكن بحضور مباشر مع إحدى الخزافات السعوديات، تعرفت فيها على طرق اختيار الألوان الصحيحة، لتلوين القطع، وأماكن توفر الحرق.
ولم تكتفِ بذلك، فمن بعدها التحقت بعدة دورات مع مدربين أجانب ومن جنسيات مختلفة، أخذت منهم أسرار الطين وكيفية التعامل معه، حتى أصبح يتشكل بين يديها بكل طواعية.
وتبين أن أول كوب استغرقت صناعته ساعة ونصف تقريبًا، معبرة عن شعورها حين انتهائها، بأنه كان شعورًا يصعب وصفه، لكنها تتذكر أنها أحست بفخر مميز ممزوج بفرحة عارمة.
نجاح من طين
احتاجت ابنة "عنك" إلى عامين فقط لتحول الطين من قصة هواية إلى حكاية مشروع، ففي عام 2023م، افتتحت متجرها الإلكتروني لبيع القطع الخزفية، فهي لم تقف على تصنيع الأكواب فقط، بل أصبحت تصنّع الصحون، والمزهريات، و"الأبجورات" الخزفية، وكل ما تقع عيناها عليه ويلهمها في عالم الخزف.
تقول عن لحظة التحول تلك: "عندما بدأت حكايتي مع الخزف كانت هناك علاقة عجيبة، بين يدي والطين، أحببت التشكيل بشكل مميز حتى أتقنت الكثير من القطع، لكن كانت تسكنني مخاوف قليلة لإكمال المراحل الأخرى؛ وهي حرق القطع حرقًا أوليًا، ثم مرحلة التزجيج، وتلوين القطع، إلى أن حصلت على الدعم النفسي من المحبين لي، عندها بفضل الله ثم دعم أحبتي خضت غمار المغامرة، وقررت فعلًا أن أحول الهواية إلى مصدر دخل فافتتحت متجري "lavender clay"، فأنا ممن يؤمنون بأن الإنسان ليس بالضرورة أن يحصل على ما يتمنى من وظائف، لذلك لا بد له من خلق وظيفة ومصدر دخل حتى وإن كان ذلك مخالفًا لحلمه وشهادته".
ولأن الأهل هم الداعم الأول غالبًا، فإن مريم وجدت في عائلتها خير سند لمشروعها، فكان أول زبون لها هو أخوها حين اقتنى واحدًا من أكوابها كأول منتج لها يتم بيعه، ثم توالى اقتناء قطعها من قبل أهلها وأصدقائها المقربين.
في عالم الخزافة
تتحدث "المشهد" عن عملها كخزافة قائلة: "العمل في الخزف كالبلسم في تهدئة النفس وتدريبها على الصبر وإبعاد القلق والتوتر وتفريغ الطاقة السلبية فالخزاف يمضي في الطين قرابة ساعة ونصف إلى ساعتين لتشكيل كوب واحد، فكيف لو كان سيقوم بإنتاج قطعة أكبر وأكثر صعوبة من الكوب!
وتضيف: "وهو كعمل يعد مصدرًا من مصادر الدخل الجيد عندما يتوفر التسويق والدعم الممتاز، لأنه عمل بالبناء اليدوي".
وتسرد مراحل التصنيع قائلة: "أولى مراحل العمل هي التشكيل، ثم تجفيف القطعة بالشكل الصحيح، يليها تلوينها، ثم الحرق الأول، بعدها تأتي مرحلة التزجيج، وأخيرًا الحرق النهائي".
وعن منتجات الطين، وكيفية الحصول عليها، قالت: "أحصل على منتجات الطين من مواقع الأون لاين المتوفرة في المنطقة، والمتخصصة في منتجات الطين وأدوات أغلب الفنون، أو أستوردها من خارج المملكة، مضيفةً: "ولأن أسعار أداوت الخزافين مرتفعة جدًا كالطين والألوان وأفران الخزف لذلك ترتفع أسعار القطع الخزفية بشكل كبير".
أما عن أبرز االمصاعب فذكرت بأن مشكلات الخزف تظهر من العدم، كالتكسرات، وتغير درجة الألوان، وعدم توفر الطين بشكل كبير وكذلك عدم دعم هذه الحرفة.
من حكايات أكوابها
ترتبط مريم بالأكواب التي تصنعها بيديها، وتدون ذاكرتها عددًا من المواقف التي لا يمكن أن تغيب عنها يومًا أو تمحى، تحكي بعضًا من تلك الحكايات: "لا يمكنني تجاوز بعض المشاعر التي سكنتني وأنا أشكل بعض الأكواب أو انتهيت من تشكيلها، وأكثر تلك المواقف قربًا إلى قلبي هو عندما رأى أبي ما صنعته، رأيت في عينيه نظرة الفخر التي لن أنساها ما حييت، وكأنه يقول هل أنتِ حقًا من صنعته!
وتضيف: هناك أيضًا بعض الطلبات من الزبائن والتي سجلت لنفسها مكانًا في ذاكرتي، على سبيل المثال، طلب اعتبرته مميزًا حيث أعدت صناعته مجددًا لشدة إعجاب زبونة به، أيضًا هناك طلب أصفه بأنه من أكثر الطلبات صعوبة، حين طلب مني صناعة كوب وعليه مجسم للشخصية الشهيرة هاري بوتر، أما أغرب طلب فكان عبارة عن كوب عليه نحت لملامح بشرية غريبة.
سعيٌ لـ العودة.. وتمسك بالطين
تحلم "المشهد" بأن تتوج سنوات صبرها بقبولها في وظيفة حكومية بشهادتها الجامعية؛ لذلك هي ما زالت تسعى لتقديم الطلب للالتحاق بالوظيفة كلما فتحت الفرص، ومع ذلك فإنها لا تود التخلي عن مهنتها الجديدة كخزافة.
تقول: "أن أكون معلمة هو حلم والدي، كما أنه ثمرة سنوات من جدي واجتهادي للحصول على الشهادة، لذلك أنا لا أفكر بالتخلي عنه حتى مع وجود دخل في يدي من صناعة الخزف، وفي المقابل أنا لن أركن مهنتي الجديدة على الرف إذا وفقت لنيل الوظيفة الحكومية، فقد تعلقت بالخزف كثيرًا ووجدتُ فيه متنفسًا لأي ضغط أمر به، كما أنني أطمح أن أقدم دورات للأطفال في الصناعات الطينية".
.