اللغة الأم لغة اشتقاق
لا يخفى على الباحث في أصل اللغات الخلاف بين العلماء هل هي بتوقيف أو هي بالمواضعة والاجتهاد ؟ ولقد ذهب كل فريق من العلماء إلى رأيٍّ أيَّده بدلائل نقلية أو عقلية .والذي يظهر لي أن أصلها بتوقيف من الله ، ثم إنها يدخلها المواضعة بين البشر .
أما التوقيف فدليله أن آدم أبا البشر كان في السماء يخاطب ربَّه ، ويخاطب ملائكته ، ويخاطب زوجه بكلام قد ألهمه الله إياه ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وعلَّم آدم الأسماء كلها ) ، إذ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأن يعبِّر عن هذه الأسماء بكلام يُفهم عنه ، وهذا الكلام المركَّب من حروف إنما أُلهمه في أول الأمر .
وفي السنة النبوية ما يشير إلى هذا أيضًا ، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك . يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة ـ إلى ملأ منهم جلوس ـ فسلِّم عليهم ، فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله ، ثم رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم ) رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما بسند صحيح .
فهذا يدل على الإلهام لأول الكلام ، إذ لا يعقل وجود حيين متقابلين بدون أن تكون بينهما لغة للتفاهم فيما بينهم ؛ أيًّا كانت هذه اللغة التي يتفاهمون بها .
وإذا كان أصل اللغة إلهامًا فلا يعني هذا أن البشر لا يوَلِّدون كلامًا ، ويفتعلون مصطلحات ، بل الأمر كذلك من التوليد في اللغة التي يتكلمون بها .
واللغة فيها ما يُولَد وفيها ما يموت وفيها ما يُبعث بعد موته أو تناسيه ، ولكل من هذه أسبابه التي يتسبب عنها .
فاختلاف البيئة ـ مثلاً ـ سبب في نشوء بعض الأسماء ، فليس ما يُستخدم في بادية نجد كالذي يستخدم في حاضرتها ، ولا الذي يستخدم في بادية نجد وحاضرتها كالذي يستخدم في جنوب الجزيرة أو شمالها أو شرقها أوغربها ، فالبيئة لها أثر في إحداث الأسماء وتوليد بعض المعاني ، وصرف بعض الدلالات إلى معنى خاص بها عند القوم يخالفهم فيها غيرهم ، وهذا أمر ظاهر بالموازنة بين كلام القبائل ودلالاته .
واندثار بعض الآلات التي كانت تُستخدم سبب في موت بعض الأسماء ، وهذا ما تشهده اليوم من موت أسماء كانت تُستعمل ، فتُركت بسبب ترك الناس لتلك الآلات التي كانوا يستخدمونها . وقد تموت في منطقة وتبقى في منطقة ، بل قد تموت في الجزيرة العربية وتبقى في شمالها . وكل هذا وغيره مما يحدث للغة إنما يقوم على التتبع والاستقراء للألفاظ التي يستخدمها الناس في كلامهم . أما اللغة الأم فكيف يمكن لها البقاء والاستمرار ؟
وجواب هذا السؤال أن (لاشتقاق) هو أكبر عنصر في بقاء اللغة الأم التي تحدث بها أبونا آدم لما خلقه الله سبحانه ، ثم نزل بها إلى الأرض لما نزل ، وتكلم بها هو وبنوه من بعده .
واللغة العربية التي نزل بها القرآن وهي حاضرة بين يدي عرب الجزيرة تشهد أنها متولدة عن هذه اللغة الأم ( لغة الاشتقاق ) فالأحرف الثماني والعشرين الأصلية ، وما عداها من الحروف الفرعية تشهد بثراء اللغة العربية من جهتين :
ـ عدد الحروف الذي يتولد عنه عدد من المعاني لا تكاد تُحصر ، ففي العربية أحرف لا تكاد توجد في لغة من لغات العالم ؛ كالحاء ، الذال ، الصاد ، الضاد ، الطاء ، الظاء ، وانظر كم من الكلمات التي تتولد في دخول هذه الأحرف في تركيب الكلمة .
ـ نماذج متكاثرة ومتناثرة من الصوتيات التي كان يؤديها العرب ؛ كإشمام الكسرة الضمةَ في مثل ( قِيل ، غِيض ) ، والإمالة في مثل ( والضحى ) ... الخ من الأمور الصوتية التي يطول الحديث عنها .
ولا يبعد أن تكون هذه الصوتيات تولدة شيئًا فشيئًا حتى صارت إلى ما آلت إليه ، واندثر منها ما اندثر بفعل عوامل عديدة .
ولأسوق لك مثالاً يتبين لك به ذلك :
لو أخذت مادة ( ح ر م ) ، وقلَّبتها على الاشتقاق الأكبر ، لظهر لك منها ستُّ مواد : ( حرم ، حمر ، مرح ،محر ، رحم ، رمح ) وكل هذه المواد مستخدم في لغة العرب ، فلو رجعت إلى أي معجم من معاجم العرب الكبرى ؛ كلسان العرب لابن منظور ، لوجدت لكل مادة من هذه المواد اشتقاقًا أصغر ، فلو أخذت ( حرم ) لوجدت من الاشتقاق الأصغر لهذه المادة الشيء الكثير : ( حرَّم ، أحرم ، يحرم ، يحرِّم ، إحرام ، حرام ، حُرمة ، حرمات .... ) .
وهنا تنبيهات :
الأول : أن الباحثين اختلفوا هل أصل الكلمات ثنائي أو ثلاثي ، والخلاف لا يؤثر على الفكرة التي طرحتها لك ؛ لأن الأصل الثلاثي كثير جدًّا ، مما يجعل القول بأنه أصل في كثير من ألفاظ اللغة صحيح بلا ريب ، ووجود بعض الكلمات يكون أصلها ثنائي لا يعني ان كل ألفاظ اللغة كذلك .
الثاني : أن بعض المواد أسعد من غيرها في كثرة الاشتقاق الأصغر ، فلو نظرت إلى ما اشتقه العرب من ( حرم ) لوجدته أكثر من اشتقاقاتهم لمادة ( محر ) .
الثالث : أن تقليب الكلمة على الاشتقاق الأكبر يُظهر أن بعض المواد لم تستخدمه العرب ، وعدم استخدامها لا يلزم منه عدم وجوده في لغات سابقة لها ، ولها علاقة بها .
الرابع : أن بعض المواد تُستخدم في منطقة أكثر من استخدامها في منطقة أخرى . وكل هذه الأمور تظهر بالاستقراء والموازنة .
والمقصود أنَّ البحث التاريخي في اللغات يثبت ثراء العربية بأحرفها ، فهل هي امتداد لتلك ( اللغة الاشتقاقية الأم ) ؟
لننظر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في إثبات ذلك :
ـ القرآن الكريم .
ـ السنة النبوية .
ـ تاريخ العرب وأشعارها .
ـ تفسير السلف ومن جاء بعدهم من العلماء .
ـ أسفار بني إسرائيل .
ـ اللُّقى من أحافير وورق بردى وكتابات على جبال أو صخور أو غيرها .
ـ الدراسات اللغوية المعاصرة الموازنة بين اللغات القديمة ، مع ما يشوب بعضها من جهل أو تحريف في بعض الأحيان ، وقد يكون تحريفًا مقصودًا يُظهِر خبث طوية صاحبه .
والحق أن هذه الدراسات ـ على ما فيها ـ كانت من مفاتيح إثبات تلك اللغة الاشتقاقية من حيث لا يدري بعض من كتب في الموازنة بين تلك اللغات القديمة ، وسيظهر جانب منه في بعض ما سأذكره في هذا الموضوع من معلومات.
ولست أريد في ذكر هذه المصادر أن أبيِّن مدى الاعتماد عليها ، وكيف عددناها مصدرًا ، وإنما مرادي التنبيه عليها هنا فحسب ، مع ملاحظة أن كثيرًا من دارسي اللغات القديمة لا يعتمدون على القرآن والسنة وأخبار العرب ( ومنها آثار السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم ) ، بل لا يرجعون إليها البتة ؛ لأن كثيرًا من دارسي هذه اللغات ينطلقون من منطلقات توراتية صهيونية ، يريدون بذلك إثبات صحة ما في أسفار بني إسرائيل ، والانتصار للصهيونية العالمية فحسب ، وليس البحث العلمي الجاد المحايد هو هدفهم الرئيس، وهذا ظاهر من طريقة بحوثهم التي يغلفونها بغلاف البحث العلمي ، وفيها من المغالطات في البدهيات فضلا عن غيرها ما فيها .
وليس العجب من هؤلاء أن يكتبوا ، فهم بين معتقد لهذه الأفكار مدافعٍ عنها ، وبين مدفوع له حسابه ، فاشتروه ليقوم بهذا الدور ، لكن العجب ممن يملكون حضارة ضاربة بأوتادها في عمق التاريخ كيف ينطلي عليهم مثل هذه الترهات التي تُلبَّس بلباس البحث العلمي ؟!
وإن الأمر في هذا لذو شجون ، ولا أريد أن أستطرد فيه لكيلا أخرج عن صلب الموضوع الذي أريد أن أوقِّفك عليه .
* كيف سارت اللغة ؟
لو نظرت إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن ـ والحديث في تفاريع ذلك يطول ـ لخرجت بفائدة مهمة ، وهي ان القرآن ثبَّت اللغة المتداولة آنذاك ، فوقفت اللغة العربية على أكمل صورها التي وصلت إليها ، وتنادى العلماء لجمعها وحفظها ، فكانت علوم العربية الأساسية من لغة ونحو وصرف ، وصارت هذه اللغة معيارية يقاس عليها ، ويوزن بها لمعرفة الصحيح من الضعيف من الباطل ، وصار في مصطلحات العلماء اللغة الكثيرة ، واللغة القليلة ، واللغة الشاذة ... الخ .
ومع ثراء ما جمعه اهل اللغة إلا أنهم لم يستطيعوا جمع كل كلام العرب ، بل ندَّ عنهم منه شيء بشهادة جمع من العلماء المعتنين بهذا الشأن ؛ كأبي عمرو بن العلاء ، والكسائي ، أبي عبيد القاسم بن سلام ، وغيرهم .
ولغة العرب إبَّان نزول القرآن لغة يقاس عليها ما قبلها وما بعدها من كلام العرب ، فهي من أكبر الأدلة على أصول كثيرٍ من لغات المنطقة التي نُسبت إلى أقوام أو بلدان ؛ كالكنعانيين أو الفينيقيين أو البابليين ، أو الآشوريين أو الأكاديين أو الآراميين أو التدمريين أو النبطيين ... الخ من الألقاب التي اطلقت على أقوام عاشوا في شمال جزيرة العرب : عراقها وشامها ، بل يتعدى إلى مصر وساحل البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد المغرب كما هي جغرافية العرب اليوم .
وقد قام جمع من الباحثين بهذا العمل ، فبيَّنوا أصول لغات بعض هذه الأقوام بالقياس على عربية التنزيل ، فبرزت أبحاثٌ فائقة في الجدَّة والعلمية الموضوعية ، وإن كان الإغراق في مثل هذه البحوث لا يخلو من تكلف إلا أن ثبوت أصل المسألة كافٍ في التدليل عليها .
ونحن اليوم نرى كلام عامة العرب في جميع أقطارهم ، فيظهر للدارس ارتباط كثير من العامي بأصوله الفصحى ، وإن اختلف من حيث أداؤه أو تصريفه وخلوه من الإعراب ، وذلك أمر واضح عند من يقرأ في البحوث التي تُعنى بردِّ العامِّي إلى الأصيل من كلام العرب .
والمقصود أن لغة العرب التي حُفِظت لنا اليوم دليل واضح على ارتباطها بأم اللغات ، وارتباط غيرها بها ، على أنها مرحلة من مراحل تطور اللغة الأم وتفرعها في محيط الاشتقاق .
والحق : إن دراسة تلك الروابط يعوزها كثيرٌ من فقه اللغات التي تحدثت بها تلك الشعوب قديمًا ، ولقد كُتِب في ذلك كتابات كثيرة ، لكن شاب كثيرًا منها ما ذكرت لك سابقًا ، ومن أكبر ذلك الشَّوب أنهم اخترعوا مصطلح ( السامية ) ليطلقوه على شعوب منطقتنا العربية ، وعلى لغاتها ، فجعلوا السامية أصلا تتفرع منه لغات شمالية وجنوبية ، وجعلوا منها : العربية والعبرية والحبشية والأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية ... الخ . وهذا التقسيم غير صحيح البتة ، وقد نقده باحثون ، وأظهروا زيفه وبطلان ، وإن اغتر به آخرون أو رأى غيرهم أن لا أهمية تُذكر في هذا المصطلح ، فساروا عليه (1) .
* نظرة تحليلية لبعض المفردات الواردة في القرآن لأقوام عريقين في القِدم :
إذا جعلت اللغة المعيارية التي ارتضاها العلماء للقياس عليها ، وكذا ما حُكي من لغات عربية استهجنوها ؛ إذا جعلنا هذه اللغات ( اللهجات ) أصلاً نستفيد منه في تبيُّنِ مسار هذه اللغة وقِدمها (2) ، فإننا سنجد ذلك واضحًا ساطعًا في أسماء نُقلت إلينا كان يتكلم بها أقوام يفصل بينهم وبين لغة العرب القرون الطويلة .
الاشتقاق