مسلم بن عَوسَجة
هو: مسلم بن عَوسَجة بن سعد بن ثَعلبة بن دودان بن أس بن خُزَيمة، يكنّى بأبي جحل. من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله،
ومن عُبّاد الكوفة ومُلازمي جامعها الأعظم.
مواقف مشهورة
عُرِف مسلم بن عَوسَجة بالبطولة والشهامة، وكانت له مواقف بطوليّة في حياة الإسلام.. ففي السنة (22) من الهجرة النبويّة المباركة، وقف جيش الإسلام على
أبواب أذربيجان ـ وهي أقصى حدود البلاد الإسلاميّة من جهة الشمال يومذاك. وكان مسلم بن عوسجة في طليعة الجيش الإسلاميّ الذي دكّ حصون الشرك،
فسجّل له التاريخ حضوره المِقْدام حتّى شاهد بطولتَه بعضُ أهل الكوفة ممّن حضروا ثمّ شهدوا له بذلك يوم عاشوراء بعد مصرعه، حيث صاحت جاريته:
يا ابن عَوسَجتاه، يا سيّداه!
وتباشر جيش عمر بن سعد بمقتل مسلم، فقال شَبَث بن رِبْعي ( قائد ميمنة ابن سعد ) لبعض مَن حوله: ثَكَلَتكم أمّهاتُكم! إنّما تَقتلون
أنفسَكم بأيديك،
وتُذلّلون أنفسكم لغيركم، وتَفرحون أن يُقتَلَ مِثلُ مسلم بن عوسجة ؟! أمَا والذي أسلَمتُ له لَرُبَّ موقفٍ له قد رأيتُه في المسلمين كريم،، لقد رأيتُه يومَ
( سلق أذربيجان ) قَتَل ستّةً من المشركين قبل
أن تَتامَّ خيول المسلمين.. أفَيَقتل منكم مِثْلَه وتفرحون ؟! (1)
• كان مسلم رجلاً شجاعاً في خوضه حرب الكفّار وفي التفوحات الإسلاميّة، ثمّ أصبح من خواصّ أمير المؤمنين عليه السّلام. وقد لازمه في مواجهته للناكثين
والقاسطين والمارقين.. في معارك: الجمل وصِفّين والنهروان (2).
• وأمّا في حركة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ـ وهو سفير الإمام الحسين عليه السّلام إلى أهل الكوفة ـ فقد كان مسلم بن عَوسَجة الرجلَ المؤيِّد
والمُعاضِد لهذه الحركة، وكان ممّن يتّصل ببيت هاني بن عروة، بل كان أحدَ أقطابها.. إلى أن استُشهد مسلم بن عقيل.
• حتّى إذا قَدِم الإمامُ الحسين عليه السّلام نحو الكوفة، كان ابن عوسجة في طليعة المناصرين المخلصين.
• وافَتِ الأنباء عن ردّة الكوفة وخذلانها مسلمَ بن عقيل، فتوقّف أبو عبدالله الحسين عليه السّلام يعلن خبر الفاجعة:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع: قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبدالله بن يَقطُر. وقد خَذَلَتْنا شيعتُنا ( أي مَن أيَّدَنا وشايَعَنا ظاهراً )
، فمَن أحبّ منكمُ الانصرافَ فلْينصرِف، ليس عليه منّا ذِمام ( أي عهد ).
فتفرّق البعض عنه، آخِذين شمالاً ويميناً، حتّى بقيَ أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة (3).
وكان الإمام الحسين سلام الله عليه يصفّي أصحابه، ويجتبي إليه الأخيار الأوفياء، وكان صلوات الله عليه صريحاً معهم، حيث أقدَمَ بهم على الشهادة وهو
يعرّفهم طريقه إليها؛ لكي لا يتّبعه طامعٌ بدنيا ظانّاً أنّه مُقبِلٌ على نصرٍ دنيويّ.. فخطَبَ في مكّة، وكان في ندائه قولُه: ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه، مُوطِّناً على لقاء
الله نفسَه، فَلْيرحَلْ معنا (4).
وكتب إلى بني هاشم: مَن لَحِق بنا منكمُ استُشهِد، ومَن تخلّف لم يَبلغِ الفتح (5).
وليلة عاشوراء، خاطَبَ الحسينُ عليه السّلام أصحابه: إنّ القوم يطلبوني، ولو أصابوني لَهَوا عن طلب غيري، وهذا الليل قد غَشِيَكم فاتّخِذوه جَمَلاً..
فقال له أهلُ بيته ـ وتقدّمهم العبّاس عليه السّلام بالقول: لِمَ نفعلُ ذلك ؟! لنبقى بعدَك ؟! لا أرانا اللهُ ذلك أبداً (6).
ثمّ ماذا كان من مسلم بن عوسجة ؟ لقد أدلى بموقفه الشجاع الغَيور، وعبرّ عن رأيه وعن ولائه ووفائه: أنحنُ نُخلّي عنك ؟! وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟! أمَا واللهِ لا أُفارقك حتّى أطعنَ في صدورهم برمحي، وأضرِبَ بسيفي ما ثبت قائمُه بيدي، ولو لم يكن معي سلاحٌ أقاتلهم به لَقَذَفتُهم بالحجارة حتّى أموت معك. ثمّ تكلّم أصحابه على نهجه (7).
• وتجلّت الفضائل والمكارم في معسكر الإمام الحسين عليه السّلام، كما ظهرت ـ واضحةً ـ كلُّ الرذائل في معسكر عبيدالله بن زياد.. فقد أقبل أحد الأراذل يبغي الهجوم على أصحاب الحسين عليه السّلام مبتدئاً القتال، وكان الإمام الحسين عليه السّلام قد حَمى جانباً من عسكره من جهة الخيام بخندقٍ ونارٍ أشعلها فيه، فرجع الباغي ونادى:
ـ يا حسين، استعجلتَ النارَ في الدنيا قبل يوم القيامة ؟!
فقال الحسين عليه السّلام: مَن هذا ؟! كأنّه شِمْر بن ذي الجوشن!
فقالوا: نعم ـ أصلحك الله ـ هُوَ هُو!
فأجابه ( يذكّره بخسّة أصله ): يا ابنَ راعية المِعْزى! أنت أولى بها صِلِيّا!
فقام مسلم بن عوسجة لا يصبر على شمرٍ يتجاسر على المقام الشامخ للإمام الحسين عليه السّلام، فترجّاه: يا ابن رسول الله ـ جُعِلتُ فداك ـ
ألا أرميه بسهم ؟ فإنّه قد أمكنني،وليس يسقط منّي سهم، فالفاسق هذا من أعظم الجبّارين.
فأبى الإمام الحسين عليه السّلام مجيباً إياه: لا تَرْمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم ( بقتال ) (8).
السعادة العظمى
روى ابن أبي الحديد: قيل لرجلٍ كان شَهِد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: ويحك! أقَتَلتُم ذريّةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟! فقال: لو شهدتَ ما شَهِدنا،
لَفَعلتَ ما فَعَلنا! ثارت علينا عصابةٌ أيديها في مَقابِض سُيوفها كأسُودٍ ضارية، تحطم الفرسانَ يميناً وشمالاً، وتُلقي بأنفسها على الموت، لا تَقبَل الأمان
ولا ترغب في المال... فلو كَفَفْنا عنها رُوَيداً لأتَت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين ـ لا أُمّ لك ؟! (9).
وكان أحدَهم: مسلمُ بن عوسجة.. حيث ذكرت كتب المقاتل أنّه:
خرج إلى ساحة المعركة ممتلئاً شجاعةً وبسالةً وغَيرة، وهو يرتجز قائلاً:
إنْ تسـألوا عنّي فإنّـي ذو لبَدْ
مِن فَرعِ قومٍ مِن ذُرى بني أسَدْ فمَن بَغـاني حائـدٌ عن الرَّشَدْ
وكافـرٌ بديـنِ جبّـارٍ صَمَـدْ
فتابَعَه نافع بن هلال الجَمَليّ وهو يرتجز ويقول:
إنّـي على دينِ علي
إبـنُ هلالِ الجَمَـلي أضرِبُكُـم بمِنـصَلي
تحت عَجاجِ القَسْطَلِ
فخرج لنافعٍ رجلٌ من بني قطيعة قائلاً: أنا على دين « فلان »، فقال له نافع: أنت على دين الشيطان. ثمّ حمل عليه نافع فقتله.. فأخذ نافع ومسلم
بن عَوسَجة يَجُولانِ في مَيمنة ابن سعد، فصاح عمرو بن الحَجّاج ـ وكان على مَيمنة عمر بن سعد: ويلكم يا حَمقى مهلاً! أتدرون مَن تُقاتلون ؟!
إنّما تُقاتلون فُرسانَ المِصر وأهلَ البصائر، وقوماً مُستَميتين، لا يَبرزنّ منك أحدٌ إلاّ قَتَلوه على قِلّتهم.. واللهِ لو لم تَرمُوهم إلاّ بالحجارة لَقَتلتُموهم.
فقال ابن سعد: صَدَقتَ، الرأيُ ما رأيتَ. فأرسِلْ في العسكر مَن يَعزِم عليه: ألاّ يبارزَ رجلٌ منكم، فلو خرجتم وُحْداناً لأتَوا عليكم مُبارَزةً.
ثمّ حَمَل عمرو بن الحجّاج نحو الفرات، فاقتتلوا ساعة، وفيها قاتَلَ مسلمُ بن عَوسَجة.. فشدّ عليه: مسلمُ بن عبدالله الضَّبابيّ، وعبيدالله بن خشكارة البَجَليّ.
فثارت ـ لشدّة الجِلاد ـ غُبرةٌ شديدة، ما انجَلَتْ إلاّ ومسلمُ بن عوسجة صريعاً، وبه رَمَق، فمشى إليه الحسين عليه السّلام بنفسه الطيّبة الكريمة ـ
ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين: رحمك الله يا مسلم. ثمّ قرأ قوله تبارك وتعالى: فِمنهُم مَن قَضى نَحْبَهُ ومِنهُم مَن يَنتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبديلاً (10).
وحتّى أنفاسهِ الأخيرة.. كان مسلم بن عَوسَجة ذلك المخلصَ الموالي الغيور، فقد دنا منه حبيب بن مظاهر وقال له: عَزّ علَيّ مَصرَعُك يا مسلم، أبْشِر بالجنّة.
فأجابه مسلم بصوتٍ ضعيف: بَشَّرك الله بخير. قال له حبيب: لو لَم أعلَم أنّي في الأثَر ( أي على مقربة من الشهادة ) لأحبَبتُ أن تُوصيَ إلَيّ بما أهَمَّك،
فقال له مسلم: أُوصيك بهذا ـ وأشارَ إلى الحسين ـ أن تموت دونه. قال حبيب: أفعَلُ وربِّ الكعبة.
وفاضت روحه الطيّبة بين الإمام الحسين عليه السّلام وحبيب بن مظاهر (11).
الذِّكر العطر الجميل
• الإمام الحسين عليه السّلام: رحمك الله يا مسلم، فمِنهم مَن قضى نَحبَهُ ومنهم مَن يَنتظرُ وما بدَّلَوا تَبديلاً (12).
• الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرَجَه الشريف في ( زيارة الناحية المقدّسة ):
السلام على مسلمِ بنِ عَوسَجةَ الأسَديّ، القائلِ للحسين عليه السّلام ـ وقد أذِن له في الانصراف: أنحنُ نُخَلّي عنك ؟! وبِمَ نَعتَذِرُ عند اللهِ مِن أداءِ حَقِّك ؟!
لا واللهِ حتّى أكِسرَ في صُدورِهم رُمحي هذا، وأضرِبَهم بسيفي ما ثَبَت قائمُه في يَدي ولا أفارقك، ولو لَم يكن معي سلاحٌ أقاتِلُهْم به لَقَذفتُهم بالحجارةِ ولم أفارِقْكَ حتّى أموتَ معك.
وكنتَ أوّلَ مَن شَرى نفسَه وأوّلَ شهيدٍ من شهداءِ اللهِ قضى نَحبَهُ ( أي من الأصحاب في كربلاء )، فَفزتَ وربِّ الكعبة، وشكرَ اللهُ لك استقدامَك ومُواساتَك إمامَك
إذْ مشى إليكَ وأنت صريعٌ فقال: يَرحَمُكَ اللهُ يا مسلمَ بنَ عَوسَجة، وقرأ مِنْهم مَن قضى نحبَهُ ومنهم مَن يَنتظرُ وما بدَّلوا تبديلاً .
لعنَ اللهُ المشتركين في قتلك: عبدَالله الضَّبابيّ، وعبدالله بن خشكارة البَجَليّ، ومسلم بن عبدالله الضَّبابيّ (13).
• ابن حجر العسقلانيّ: كان ( مسلم بن عوسجة ) رجلاً شريفاً، عابداً، قارئاً للقرآن، مُتنسّكاً، استُشهد مع الحسين بطفّ كربلاء (14).
• ابن سعد ( صاحب الطبقات الكبرى ): كان ( مسلم بن عوسجة ) صحابيّاً ممّن رأى النبيَّ صلّى الله عليه وآله، وروى عنه الشعبيّ. وكان فارساً شجاعاً، له ذِكرٌ في
المغازي والفتوح الإسلاميّة (15).
• عبدالله المامقانيّ: جلالة الرجل وعدالته، وقوّة إيمانه وشدّة تقواه.. ممّا تَكِلُّ الأقلامُ عن تحرير ذلك، وتعجز الألسنُ عن تقريره، ولو لم يكن في حقّه إلاّ ما تضمّنَتْه
( زيارة الناحية المقدّسة ) لَكفاه (16).
• خير الدين الزركليّ: مسلم بن عَوسَجة الأسديّ، بطلٌ من أبطال العرب في صدر الإسلام، شَهِد يومَ أذربيجان وغيرَه من أيّام الفتوح، وكان مع الحسين بن عليّ
في قصده الكوفة، فقُتِل وهو يناضل عنه (17).
• عبدالواحد المظفّر: إذا كانت البطولةُ عنوانَ المحاسن ومجمعَ الكمالات ومحور الفضائل.. فلا شكّ أنّ مسلم بن عوسجة الأسديّ مِن أتمّ الرجال في المحاسن التي
يتفاخر بأقلِّها عظماءُ الرجال، ويتمادح ببعضها الوجوهُ والأعيان، ويتفاخر بفضليةٍ منها سائرُ أهل الكمال: نحو العلم والتقوى وشدّة البأس والشجاعة والفصاحة
والوفاء والإيثار، مع ما لَهُ من فضيلة الصحبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله، والاختصاص بعليٍّ أمير المؤمنين عليه السّلام (18).
فسلامٌ عليك يا مسلمُ في الشهداء الصالحين،
وخلّدك الله في جِنان النعيم أبد الآبدين.