كل إناء بالذي فيه ينضح!
كانت أواني الماء والطعام قديمًا من الفخار، فإذا وضع الماء في الآنية رشح الماء منها. وقفة قصيرة هنا لأذكر أنه من غير المستبعد أن يكون الماء الذي يوضع في الزير أو الجرة الكبيرة فيه فوائد صحية.
كلّ إناء يرشح بما فيه فإذا كان في الإناء ماء رشح الماء وإن كان سمنًا أو عسلًا رشح الإناء بما فيه. أما نحن فنتصرّف ونعمل حسب أصولنا وعناصرِنا، وفي لهجتنا العامية نقول: "كل يعمل حسب أصله". ظاهرة إنسانية قيل فيها الكثير ولا يبعد أن تكون من المسلمات:
ويأبَى الّذي في القلبِ إلاَّ تَبَيُّنًا
وكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ
من الذين قالوا في هذا الشأن الخليفة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "ما أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيئًا، إِلاَّ ظَهَرَ في فَلَتَاتِ لِسانِهِ، وصَفَحاتِ وَجْهِهِ". ومن الشعر المنسوب إليه عليه السلام:
مَن لَم يَكُن عُنصُرًا طَيّبًا .. لَم يَخرُجِ الطِّيبُ مِن فيهِ
كُلُّ اِمرئٍ يُشبِهُهُ فِعلهُ .. وَيَنضَحُ الكُوزُ بِما فيهِ
من ينتبه يرى أننا لا نستطيع أن نخفي ما في داخلنا ولا بدّ أن تظهر صفاتنا غير المنظورة يومًا ما لسبب ما وكما يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ .. وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
جاهل، أحمق، حليم، عالم، شرير، طيب، كريم، بخيل! ما أكثر الصفات التي تظهر على الوجه وتخرج من اللسان؛ مهما حاولنا إخفاء سلوكنا وأفعالنا وما نعتقده فإنها لا بدّ تظهر. هذا وإن بعض الصفات ليست أصيلة ومن الممكن أن نستبدل بها ما هو أفضل وأرقى. يقول الخليفة الإمام علي عليه السلام: "إن لم تكن حليمًا فتحلم فإنه قلّ من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم". من يصاحب العلماء يتعلم منهم ومن يصاحب الحلماء يتخلق بأخلاقهم ومن يصاحب الجهال والحمقى لا يستبعد أن يكون منهم.
تعرف المحاكاة بأنها: "عملية تقليد لأداة حقيقية أو عملية فيزيائية أو حيوية"، فبإمكان الإنسان التشبه ومحاكاة غيره ويعتاد ما هو أفضل وبعد مدة يكون جزءًا من واقعه وبرنامجه الحقيقي. هذه المحاكاة اختصرها رسول الله -صلى الله عليه وآله- في كلام بديع: "يا أبا ذر الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من جليس السوء وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر".
غاية المرام: الطيّب يرشح بالطيب والكريم يرشح بالكرم والبذيء يرشح بالبذاءة فاختر أي إناءٍ تكون وأي إناءٍ تقتني فإن خفي الخلق على الناس يومًا فإنه لن يخفى كلّ يوم!