بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
هما كالدرتين، وكالفرقدين، طفلان يتيمان لمسلم بن عقيل، عنوانهم البراءة، وشهادتهم بسببها، طيب الولادة وشرف الإنتساب لسفير الحسين مسلم بن عقيل، هذان الطفلان ورثوا مصائب وتحملوا الآلام على صغرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما ضاقت على أباهم من قبلهم، ولاقوا محناً وتحملوا الآلام، فشُردوا وعُذبوا وقتلوا، وقطعت رؤسهم كما حصل لأباهم من قبلهم، في زمان قل فيه الناصر والمعين لذرية آل المصطفى، وتملّك أمرَ الناس مجموعةٌ من الوحوش أبناء الطلقاء.
مصيبة هؤلاء الطفلان تهز القلوب وتزرع الهم والغم في النفوس، وهي استكمالاً لفصول جريمة بني أمية في الأطفال يوم عاشوراء، حيث بعد واقعة كربلاء استوى ابن زياد هذا اللعين إبن اللعين على هذان الطفلان اليتيمان، وأودعهم السجن ومارس عليهم أبشع أنواع العذاب النفسي والجسدي في سنة كاملة، تحملوا فيها ما تحملوا، وبعد مضي هذه الفترة، هرب هذان الطفلان المظلومان من سجنهم بمساعدة السجان، هرباً من ظلمة السجن لظلم العالم الخارجي الذي تملكه أبناء الطلقاء.
يروي الشيخ الصدوق في هذه المصيبة أنه:
لما حان الليل، اخرج الرجلُ الطفلين وسارا في الليل حتى وصلا إلى بيت امرأة عجوز.
وكانت المرأة العجوز واقفة عند الباب تنتظر صهرها، فعرفاها بأنفسهما وقالا: نحن من آل رسول الله ، ولا نعرف شخصاً في هذه المدينة.
فطلبا منها أن تضيفهما في تلك الليلة.
فرحبت المرأة العجوز بهما وأخذتهما إلى غرفة وقدمت لهما ماءً وطعاما.
فأكلا وشربا ثم وضع كل منهما يده على رقبة الآخر وناما.
وفي تلك الليلة جاء صهر المرأة العجوز إلى البيت وأخبرها بفرار طفلين من السجن، وقال لها ان ابن زياد قرر جائزة تعادل الفي درهم لمن يأتي برأسيهما.
فحذرته المرأة العجوز من عقاب الله وقالت له: ان عملك هذا بمثابة حرب لرسول الله وليس فيه لك فائدة دنيوية وأ ُخروية.
وأثارت نصيحة المرأة العجوز الشك لدى الرجل واحتمل ان الطفلين موجودان في بيتها، فأصر عليها أن تخبره بكيفية مجيء الطفلين إلى البيت، فاجتنبت المرأة العجوز بيان الحقيقة وكتمت القضية.
فقام الرجل بالبحث عنهما في البيت ورآهما نائمين، فايقظهما وسألهما عن اسمهما وقضيتهما، فقالا: هل تعطينا الأمان أن صدقنا؟
فقال: نعم.
فأخذا منه عهداً باسم الله ورسوله وأشهدا الله عليه وذكرا لذلك الرجل الموضوع.
وفي صباح اليوم التالي استدعى الرجلُ غلامه وأمره بأخذ الطفلين إلى نهر الفرات ويقطع عنقيهما ويأتي برأسيهما إليه.
فأخذ الغلام الطفلين إلى الفرات، فقال له ابني مسلم: أيها الشامي، كم هناك شبه بين لون بدنك ولون بدن بلال الحبشي مؤذن رسول الله؟ وهل تريد أن تقتلنا ونحن من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
وذكرا له قصتهما ومعاناتهما وشرحا له كيفية التخلص من السجن وضيافة المرأة العجوز لهما.
فاعتذر الغلام وألقى السيف ودخل في ماء النهر وذهب إلى الشاطئ الآخر للنهر، فصاح الرجل بغضب: هل تعصيني؟
فقال الغلام: كنت تحت تصرفك ما دمت لم تعص الله، أما الآن حيث قصدت ارتكاب الذنب فإنني لن أخضع لك أبداً وأنا بريء منك.
ولم يتعظ الرجل الشقي من رؤية هذا المشهد وأصر على طلبه، فنادى ابنه وقال له: لقد جمعت حلال الدنيا وحرامها من أجلك وأحرص على الدنيا، والآن اريد منك أن تقطع عنقي الطفلين كي آخذ رأسيهما إلى ابن زياد.
فقبل الابن بأمر الأب واستعد لارتكابه الجريمة، فخاطبه الطفلان المظلومان وقالا: أيها الشاب، ألا تخاف من نار جنهم، حيث تعرض نفسك لها وانت في بداية شبابك؟ ونحن من أولاد آل رسول الله محمد بن عبد الله .
فاهتز قلب الشاب وألقى نفسه في الماء كما فعل الغلام وهرب من أبيه.
فغضب الرجل وقال: سأقوم بنفسي بهذا العمل.
فقال له الطفلان: إن كنت تبحث عن المال فخذنا إلى سوق الغلمان وبعنا، ولا تجعل نفسك في زمرة أعداء عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولم ينفع هذا الاقتراح ولم يمنع الرجل من الضلال، فقالا: خذنا إلى الأمير كي يقرر بشأننا كيف يريد.
فلم يقبل، فقالا: ألا ترع حرمة رسول الله بشأن آله؟
فقال: أنا أنكر قرابتكم لرسول الله .
فقالا: نحن طفلين، فارأف بنا.
ولم يدخل ذلك الكلام في قلبه القاسي.
وأخيراً طلبا منه أن يسمح لهما بالصلاة، فقال: صليا إذا كانت الصلاة مفيدة لكما.
فصليا ورفعا أيديهما بالدعاء وقالا: يا إلهنا الحي الحليم، يا خير الحاكمين، أحكم بيننا وبين هذا الرجل.
وحانت اللحظة النهائية وتهيأ الطفلان للموت.
وفي البداية قُتل الأخ الأكبر، فأخذ الأخ الأصغر من دمه ومسح به ثوبه وبدنه وقال: هكذا سوف ألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فذبحه الرجل، ثم ألقى جسديهما المطهرين في نهر الفرات وأخذ رأسيهما لابن زياد وذكر له قصتهما.
واستُجيب دعاء الطفلين وحرم الله القهار ذلك المجرم الخبيث من خير الدنيا والآخرة، وقال له عبيد الله: لقد أصدر خير الحاكمين أمر قتلك ويجب تنفيذ هذا الحكم من دون تأخير.
فأخذوا الرجل إلى المكان الذي وقعت فيه الجريمة، وضربوا عنقه ورفعوا رأسه على الرمح، وقام الأطفال بالقاء الحجارة عليه وبعضهم يقول لبعض: هذا رأس قاتل آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).