عود عينيك على البحث عن الجمال، فهو موجود حولك وقد لا تدري.
أذكر واحدة من نصائح جدتي في أيام طفولتي الأولى وهي أن أمشي دائمًا مرفوعة الرأس، ولكن لم يكن لمثل تلك النصائح صدىً في داخلي، فالطرقات مليئة بالكثير من أشكال الحفر، ومن العسير أن تجد رصيفًا مستويًا في شوارع المدينة. وجدت نفسي يومًا بعد يوم مضطرة لأن أطأطي رأسي حتى أتلمس طريقي بين تلك العثرات. كانت نفسي تحدثني في ذاك الوقت، أو عساها تخدعني، بأن هذا من سمات المتواضعين. تمر الأيام تلو الأيام وعيناي تداعبان ما تقعا عليه هنا وهناك. لم يكن من العسير على عيني الفاحصة أن تلمح بين حفرة هنا ومجموعة من الأحجار هناك جمالًا خفيًا عن عيون الآخرين، حتى كان هذا اليوم الذي وقعت فيه عيناي على منظر بديع يمثل تحفة فنية بكل ماتعنيه الكلمة.. تلك التحفة لم تكن سوى غطاءًا معدنيًا لبالوعة من بالوعات الصرف الصحي المنتشرة بالشوارع.
كان المشهد في مدينة أوساكا باليابان. فاليابانيون مولعون بكل ما هو جميل، واليابان هي الدولة التي لها السبق في فكرة تزيين أغطية البالوعات، حيث يوجد أكثر من ٦،٠٠٠ تصميمًا مختلفًا، تمثل في معظمها أماكن تاريخية وشخصيات لها قيمتها في تاريخ اليابانيين. من التصاميم الشهيرة والمنتشرة في العديد من الشوارع ذلك المنظر البديع لقصر أوساكا تحيط به أزهار الكرز، رمز اليابان، حتى أصبحت مثل هذه البالوعات مزارًا سياحيًا يرتاده السائحون على مدار العام.
أذكر أيضًا ما استرعى انتباهي عندما علمت أن بلدية تلك المدينة قد تذعن لضغط من مواطنيها وتوقف تنفيذ بعض الأغطية إذا ما رأت أنه من غير اللائق أن توضع صورة بعينها على غطاء بالوعة تدهسه الأقدام، كبطل قومي أو طائر نادر مهدد بالانقراض أو ما شابه.
البداية كانت رؤية إبداعية من الدولة التي ترعى الفن والجمال لتغيير الصورة الذهنية السلبية عن نظام الصرف الصحي والمرتبطة بالقذارة والرائحة الكريهة.
رسالة بسيطة في شكلها، ولكنها عظيمة في محتواها. أراها كمصرية تعشق وطنها وتدري جيدًا ما يحدثنا به تراث المصريين الضارب في التاريخ وما تركته لنا آثاره من رسوم أيقونية ثرية بالرقي والجمال، أرى لتلك الرسالة صداها في تراثنا الشعبي عندما نقول بلهجتنا العامية عن كل مبدع استطاع إنجاز عمل راق (عمل من الفسيخ شربات). أتركك عزيزي القاريء مع بعض أمثلة مما التقطته الكاميرا:
بالوعه تحمل رسم لجبل فوجي الشهير وهو من المعالم الأساسية في اليابان بالإضافه أنه من التراث العالمي. يمكنك رؤيته من على مائة كيلومتر عن العاصمة طوكيو حينما يكون الجو صافيًا.
معبد هوريوجى وبني منذ حوالي ١،٤٠٠ عامًا، يحتوي على أحد أقدم المباني الخشبية في العالم، بالإضافة لذلك يصور التصميم نهر تاتسوتاجاوا وأشجار الصنوبر وأوراق شجر الخريف تم رسمه وتصميمه علي هذه البالوعه
مهرجان “أموري نيبوتا”، ويقام في أوائل شهر أغسطس من كل عام حيث يقدم فيه عرض لبالونات هائلة الحجم، والغطاء هنا يظهر إحدى هذه البالونات لمحارب حوله راقصون يرتدون قبعات مزينة بالزه
والطريف أنه في شهر يناير من عام ٢٠١٧، أقيمت قمة لأغطية البالوعات في مدينة كاواجو شمال طوكيو حيث شاهد الزوار حوالي ٥٨ تصميما مختلفا وحضر حوالي ٣،٠٠٠ شخصًا.