الأدلة لا تفيد بأن من عاشوا خلال المراحل الأخيرة من العصر الحجري في شمال غرب المملكة العربية السعودية قد واجهوا تحديات موجات جفاف مما اضطرّهم الي الترحال، بل عاشوا حياة متقدمة ومزدهرة – ترجمة عدنان أحمد الحاجي
A struggling people languishing across barren lands? No, evidence shows life in ancient Saudi Arabia was complex and thriving
(بقلم: جين مكماهون، باحث مشارك في علم الآثار، جامعة سيدني – Jane McMahon، Research Associate, Discipline of Archaeology)
حتى الآن، لا يُعرف سوى القليل عمن عاشوا في شمال غرب المملكة العربية السعودية خلال العصر الحجري الحديث – وهي الفترة التي تميزت تقليديًا بالتحول إلى سيطرة البشر على إنتاج الغذاء والاستقرار في مجتمعات قروية تعتمدعلى الزراعة والحيوانات المدجنة (الأليفة)(1).
أفادت الأدلة المتراكمة المتاحة إلى ضرورة إعادة النظر في الأفكار التقليدية – المتمثلة في مجموعات صغيرة واجهت صعوبات وتحديات موجات الجفاف التي ضربت المنطقة واضطرت إلى الترحال من مكان إلي آخر بصورة مستمرة عبر الأراضي القاحلة(2).
أصدر فريق بقيادة جامعة سيدني الأسترالية مؤخرًا بحثًا جديدًا حول “الدوائر الحجرية الأثرية البارزة”(3). النتائج التي توصل إليها الفريق ساعدت في إعادة تدوين ما نعرفه عن من عاش على هذه الأرض في الفترة الممتدة بين 6500 و 8000 سنة مضت.
الأدلة التي توصلنا إليها كشفت عما كان أولائك الناس يأكلون في ذلك العصر، والأدوات التي كانوا يستخدمونها، وحتى المجوهرات التي كانوا يتحلون بها. وهذا يقودنا إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الناس بالنتيجة لم يعانوا كثيرًا من موجات الجفاف التي مرت على تلك المنطقة، بل وجدوا أساليب متقدمة واستراتيجية للازدهار على تلك الأرض التي استمرت على مدى آلاف السنوات.
مشروع الدراسة
على مدى السنوات الخمس الماضية، قام فريق البحث بدراسة 431 دائرة حجرية لا زالت موجودة في منطقتي العلا وخيبر شمال غرب المملكة العربية السعودية، كجزء من مشروع مستمر برعاية الهيئة الملكية للعلا. من بين 431 دائرة حجرية، تم استقصاء تفصيلي لـ 52 دائرة حجرية منها وتم التنقيب في 11 دائرة حجرية منها.
منظر جوي لبعض الدوائر الحجرية البارزة. المصدر: RCU/ جامعة غرب أستراليا / جامعة سيدني.
أحدث النتائج التي توصلنا إليها جاءت من مجموعة مختارة من الدوائر الحجرية في حرة عويرض، وهي هضبة بركانية تشكلت على مدى آلاف السنوات. المجموعات الكثيفة من الدوائر الحجرية التي لا زالت موجودة في هذه الحرة أثبتت لنا مدى تعقيد (تقدم) هذه المجتمعات الرعوية المتنقلة في الواقع. كما قمنا أيضًا بأخذ عينات من البقايا التي خلفها من عاشوا هناك على مدى أكثر من 1000 عام.
استخدمنا طيفًا من الوسائل الحديثة والتقليدية للتغلب على القيود والموانع العملية للعمل في مثل هذه المناطق النائية والوعرة. ساعدنا المسح الجوي بطائرة هليكوبتر في التعرف على أمثلة للمساكن (الدوائر) الحجريّة الممتدة على مساحة 40 ألف كيلومتر مربع من الصحراء البازلتية [صخور بركانية سوداء] والرملية. كما استخدمنا طائرات بدون طيار لوضع مخططات للمواقع التي تبلغ مساحتها حوالي ثلاثة هكتارات [30 ألف متر مربع].
أكثر من مجرد مسكن
الورقة التي نشرناها كانت أول دليل منشور على الهندسة المعمارية المحلية من هذه الفترة. وهذه الدوائر الحجريّة واسعة يتراوح عرضها بين 4 و8 أمتار. وهي مكونة من دائرتين متحدتي المركز من الحجارة الكبيرة المصفوفة الواحدة منها جنب الأخرى، مشكلةً دائرتين متحدتين في المركز.
أساسات المأوى مشكلة من كتل صخرية بازلتية ضخمة يصل وزن كل منها إلى طن واحد. المصدر: RCU / جامعة غرب أستراليا / جامعة سيدني.
افترضنا أن المساحة بين الدائرتين المكونتين من الأحجار كانت بمثابة أساس للأعمدة الخشبية المثبتة بين صفي (دائرتي) الأحجار لدعم سقف المسكن. لوح آخر في المنتصف يدعم عمودًا خشبيًا مركزيًا مثبتًا عليه.
بناءً على الأدوات وبقايا الحيوانات التي وجدناها هناك، نعتقد أن السكان ربما وضعوا جلود الحيوانات على سقف المسكن لتأمينه، مما شكال منه سقفًا متواضعًا.
هذه الهياكل الحجريّة – التي نعتقد أنها مآوي (موائل) أكثر من كونها “منازل” – استخدمت في جميع الأنشطة. وفي الداخل، وجدنا أدلة على صناعة الأدوات الحجرية وأدلة على الطهي وعلى الأكل، بالإضافة إلى أدوات متروكة ومكسورة استُخدمت في عملية دبغ جلود الحيوانات(4).
أذواق متنوعة
تحليلنا لعظام الحيوانات الموجودة داخل هذه المآوي يدل على أن هؤلاء الناس كانوا يأكلون في الغالب الأنواع المدجنة من الحيوانات، مثل الماعز والأغنام وعدد أقل من الأبقار وضموا إليها حيوانات ببرية من الغزلان والطيور.
وهذا يعني أنهم كانوا قادرين على الاستجابة للتغيرات البيئية التي واجهوها بنوع من المرونة – مما منحهم القدرة على الصمود في فترة كان من الممكن أن يؤثر فيها تغير المناخ على توافر المياه والحياة النباتية.
امتدت هذه القدرة على التكيف أيضًا إلى قدراتهم على استخدام النباتات. لقد تركوا وراءهم العديد من أحجار الرحى، وهي ألواح من الحجر البركاني (البازلت) أصبحت مسطحة بسبب طحن الأعشاب البرية والنباتات المحلية(5).
أحجار الطحن استخدمت لطحن الحجر الأحمر للحصول على الصبغات وكذلك لطحن النباتات. المصدر: RCU / جامعة غرب أستراليا / جامعة سيدني.
شعب مستقر أم رحَّل؟
ونفترض أن هؤلاء الناس لم يبقوا في مكان واحد، بل كانوا يعيشون في بيوت يمكن تفكيكها جزئيا ونقلها معهم. تحتاج الماعز والأغنام أيضًا إلى المراعي الخضراء والماء للبقاء على قيد الحياة.
بيد أن هؤلاء الناس قد أمضوا فترة كافية في كل من هذه المواقع لتبرير الوقت والجهد اللازمين للحصول على كتل الصخور البركانية التي يصل وزن كل منها إلى طن ونقلها لعمل الدائرة الحجريّة. ويفيد هذا بأنهم رحلوا عن هذه الدوائر، ولكن عادوا إليها مرارًا وتكرارًا على مدى مئات السنين، إن لم يكن أكثر من 1200 سنة.
لقد تركوا وراءهم مواد جمعوها من أماكن قريبة وأخرى بعيدة. بالرغم من أن صخور البازلت (الصخور البركانية) المحلية كانت كافية لصنع الأدوات اليومية، فقد جُلبت أفضل المواد المصنوعة من حجر الصوان (صخور رسوبية صلبة)(7) من حرة عويرض لصنع رؤوس سهام ومثاقب وكاشطات حادة.
مجموعة مختارة من المصنوعات اليدوية الصغيرة من حجر الصوان بما فيها من رؤوس أسهم ومكشطة. المصدر: RCU/ جامعة غرب أستراليا / جامعة سيدني
كما قاموا بجمع الحجر الأحمر لسحقه وتحويله إلى صبغة(6). ربما استخدمت لأعمال الفنون الصخرية، أو ربما لطلاء الأبدان والجلود.
جُلبت الأصداف الصغيرة من البحر الأحمر (على بعد حوالي 120 كيلومترًا) لصنع الخرز. وشملت الأشياء الأخرى التي وجدناها أساور وقلائد منحوتة ومصقولة من الحجر الغريب [صخر من الرخام أو الغرانيت أو الكورتزايت].
بقايا زخارف وأساور معلقة (على اليمين). المصدر: RCU / جامعة غرب أستراليا / جامعة سيدني.
التجارة في بلاد الشام
ويبدو أن هؤلاء الناس شكلوا جماغة متميزة ثقافيًا تفاعلت مع جيرانها في بلاد الشام شمالًا، وهي المنطقة التي تضم الأردن وفلسطين وسوريا حاليًا، من بين مناطق أخرى.
تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أنهم استوردوا حيواناتهم وتقنيات صنع الأدوات الحجرية. بعض الأدوات تشبه تلك التي وُجدت في مواقع سابقة في أنحاء الأردن، مما يشير إلى أنهم إما قايضوها أو تعلموا طريقة صنعها من أقصى الشمال.
قطعان الماعز والأغنام المدجنة لابد أنها جُلبت من أماكن أبعد، حيث لم تكن هناك أنواع برية من هذه الحيوانات في المنطقة نفسها. كل ما جلبوه من الأشياء جعلوه بنحو نافع متوافقًا مع أسلوب حياتهم ومتناسبًا مع الأراضي التي عرفوها جيدًا.
دراستنا كانت مجرد بداية لسد الفجوات لمعرفة طبيعة الحياة السائدة في شمال غرب شبه الجزيرة العربية في ذلك العصر.
مصادر من داخل وخارج النص:
“العصر الحجري الحديث 9000 – 4500 قبل الميلاد أو العصر النيوليثي (Neolithic) هو المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ (عصور ما قبل الكتابة) عرف الإنسان فيه الاستقرار الدائم في قرى ثابته من خلال توصله إلى الزراعة وتدجين الحيوانات كما شهد الإنسان في هذه المرحلة تطور الفكر الديني وتوصله أيضاً لصناعة الفخار واستخدامه في الحياة اليومية للتخزين والطبخ وغيرها من الاستعمالات، وتعتبر القرى النطوفية في بلاد الشام العتبة والبوابة الرئيسية لنقل المجتمعات من مجتمعات مستهلكة متنقلة إلى مجتمعات منتجة مستقرة”.
الأستاذ عدنان أحمد الحاجي