العقائد العرفانيّة


اعتادت ميادين البحث العقائدي أن تلتزم في معالجاتها خصائص ومناهج ومسائل ولغة علم الكلام، مما أرسى في الذهن عَقْدَ علاقة وثيقة بين الاثنين، بحيث صار البحث العقائدي يساوي المنهج والعلم الكلامي.. وهذا ما حرَّض في بعض الأحيان أصحاب الدراسات الفلسفية من المسلمين على خوض غمار البحث العقائدي على أسس من اللغة الفلسفية، ومن موقع الرفض لمآلات التحليل الكلامي للمسائل العقائدية الحساسة.
ولعل العلّامة الطباطبائي في مباحث “الميزان في تفسير القرآن”، والشهيد مرتضى المطهري في كتابه “العدل الإلهي” يمثلان نموذجًا واضحًا لهذا الاتجاه بين علمائنا المعاصرين.. وأظن أنه وبرغم ما يمثله الاتجاه الفلسفي في المعالجة العقائدية من متانة، فهو لم يستطع أن يخرج من سلطة المنهج الكلامي، الذي يعتمد على التقرير البياني في طرح المسائل العقائدية، ليمارس الكلام بعد تقريرها تأويلًا وسجالًا يوظِّف المسائل بمفادات خاصة من الفهم، الذي يستقوي باستحضاره المكثف للبيان النصوصي المقدس من قرآن وحديث… ثم يبيت بين أحضان إرث واسع من نتاجات علماء أعلام لا تشق لهم عصًا.
وإذا كان الاتجاه الفلسفي أثناء معالجاته العقائدية قد أضفى روح وسمة البرهان على تلك المعالجات، فهو قد اضطر أن يخضع لأمور منها:

الأمر الأول: الانطلاق من خلفية المقرَّر العقائدي كمسلَّم يعمل البرهان على تسويغه عبر الكشف عن معاليله الموصلة إليه.. وعلى تفريغ بعض القواعد العقلية والمسائل المعرفية المستقاة منه. وهذا ما عرَّض الاتجاه الفلسفي العقائدي للمساءلة الفلسفية أساسًا.
الأمر الثاني: اضطر بعض فلاسفة الشيعة، على وجه الخصوص، للتمييز بين ما تقوله الإماميه، وبين ما يقوله علماء الكلام، في فصل غير مفهوم. علمًا أن الإمامية تمثّلت اتجاهًا ومذهبًا كلاميًّا له حضوره القوي في علم الكلام وتاريخه.
الأمر الثالث: مازج الاتجاه الفلسفي بين البرهان والحدس الصوفي في بعض مدارسه التي اعتنت بالمبحث العقائدي سواءً منها المدرسة الإشراقية أو مدرسة الحكمة المتعالية، بل وحتى تلك المدارس المنسوبة إلى المشائية. وهو ما شجّع على إطلاق اسم “الحكمة”، بدل “الفلسفة” على تلك المدارس.

لكن رغم تلك الملاحظات يمكن القول: إن الاتجاه الفلسفي قد أمّن حضورًا فاعلًا ومشهودًا للموضوعات العقائدية في عالم المفاهيم النظرية والرؤى والأيديولوجيات، مما وسّع دائرة المقرَّر العقائدي ليخرج من حدود الذات المذهبية إلى مساحة التخاطب التثاقفي بين الرؤى والمشاريع الفكرية، فصار للمبحث العقائدي الفلسفي سمة الأيديولوجيا العقائدية الخاصة. ورغم ما لهذا المصطلح من جاذبية (الحكمة) فإنه بطريقته في معالجة الموضوعات ووضع التسميات قد طرح تساؤلًا حول الفارق بينه وبين العرفان.

وهو ما أجاب عنه البعض بالقول: “يمكن أن نلاحظ شبهًا قريبًا بين العرفان والحكمة الإلهية، لأن موضوع الحكمة الإلهية هو (الموجود بما هو موجود)، والفرق بين الحكيم والعارف في ذلك، هو أن الحكيم يعتبر الموجود بما هو موجود مفهومًا كليًّا له مصاديق متعددة، بينما لم تطرح مسألة المفهوم في نظر العارف، فهو يعتقد بحقيقة واحدة هي ذات الحق تعالى[1]. وإذا كان هذا النص قد أوضح الصفة الخاصة بالمعالجة الفلسفية- الحكمية، فإن قوله: إن العارف يعتقد بحقيقة واحدة هي ذات الحق تعالى لا تضعنا أمام معرفة واضحة بالمجال الذي يُعنى فيه العرفان حينما يهتم بالعقيدة.. من هنا ستبقى الحاجة ملحّة لقراءة مميزات المعرفة العقائدية في العرفان الإسلامي وموقعها من الواقع التفاعلي للعلوم الإسلامية، كما ومن سمات الشخصية المسلمة، المنتمية عقائديًّا. وبمراجعة إجمالية لما يقال بصدد خصوصية البحث العرفاني فقد نلتقي بمن يقول: إن العرفان يتناول الوجود الحقيقي بما هو واحد مطلق ولا يعتني بالتكثرات التي يلحظها الذهن في مراتب الوجود والموجود. كما إن العرفان معني بمعرفة كمال القابلية التي تستقي قوامها من تمام الفيض، وتتمثل القابلية بتمامها المطلق في الإنسان الكامل المسمّى عندهم بالحقيقة المحمدية لترسم إثر ذلك مسار طلب الكمال ونيله عبر قوسي الصعود والنزول، الذي يبرز مقامات وأحوال وعوالم النفس والوجود، ومجاري الفيض والنعمة الإلهية.
ومن هذه القراءة تنكشف أمامنا مشاهد ومعاينات وانكشافات العارف لأصول التوحيد والأسماء ومنها العدل، والوحي، والنبوة، والإمامة، والمعاد. وإنما أسميناه بمشاهدات وانكشافات؛ لأن العارف فيها يتحدث عمّا اختبر وعاين ثم حدّث، ولا يعتمد على المقول إلا بمقدار ما يجلي المقول أمامه من مباشرة لملاقاة ومعاينة العينيات من الحقائق.
كما إننا قد نجد من يقول: إن العرفان هو رتبة من الرتب التي تلي إسلام العامة، وإيمان الخاصة لتكون بعد التمكّن منهما وبهما رتبة الإحسان، ثم رتبة الفناء، ثم رتبة البقاء؛ وهي مراتب تبدأ بتمثل حقيقة قول النبي (ص): “اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك”؛ إذ في ذلك تعميق في الوجدان المعنوي القلبي والروحي للحضور الإلهي.


ولا يسعنا هنا ونحن نذكر هذه القراءات للعرفان في عقائدياته إلا القول: إن مثل هذه المعرفة العقائدية العرفانية تمتاز ضمن ما تمتاز به بخاصيتين:
الخاصية الأولى: كونها معرفة فردية نخبوية، تشكل حتى في أكثر مسائل الانتماء الإسلامي – العقائدي، الذي يحمل صفة الانتشار، ليتواءم مع فطرة كل مولود من الناس.. قطيعة جماعة مخصوصة، بل قل فئة مخصوصة تخضع لتعاليم ورقابة وتدريب خاص ليؤهلها الاندماج بما اصطلح عليه أهل العرفان بالفطرة الثانية، والفطرة الثانية هنا لا تصلح حسب بعض المذاهب إلا بالانخلاع عن الفطرة الأولى؛ أي بعد حصول قطيعة في التكوين الداخلي للنفس يسمح لها تقبل واردات من أمور وحقائق تجري إليها. ومعيار حصول هذه الفطرة الثانية هو قبول كلمات السر في جوانية السر المستودع بما خفي داخل الروح وعمق الكيان.
وإلا فإن أي رفض لهذه الواردات أو لوارد منها إنما يعني أن القابلية لم تخلص نحو الفطرة الثانية العاصمة عن دخول الخطأ في ضوابط الحقيقة، بل وفي أصل معرفة الحقيقة – حسب قولهم-
ثم بعد ذلك تنحو المعرفة العرفانية في عقائدياتها منحى الاختبار والتجربة الفردية، بحيث إن العرفان معرفة تصلح لإحداث تغيير في ذات الفرد، الذي هو يحيا بما يعرف.. فإذا كانت المرحلة الأولى للمريدين تقوم على فصل مخصوص لفئة عن الجماعة، فإنه بالمرحلة أو المستوى الثاني وعزلة عقائدية للفرد عن الفئة، وإن تحت شعار أخذ العلم من الحي الذي هو الله، وهكذا فإن الأزمة الكبرى في أن نجعل هذا المطلق الكامل هو (الله الخاص بي)، فنفصل حقائق العقائد من دائرة الإنسانية إلى دائرة الفئة، ومن دائرة الفئة إلى دائرة الفرد، الذي يتحول عند قناعاته الإيمانية إلى محور فيه انطوى العالم الأكبر!!
ذلك أن الله بإجماع الكل ذات لا تُدرك، وما نحصل عليه بمقدار سعة القابلية أو القابل، وهو مورد الاختلاف أصلًا، فكيف نؤالف بين المختلف من خصوصيات الأفراد والفئات في معرفة الحقيقة الواحدة؟
هنا عاد الجامعون للعرفان والحكمة إلى مقولة: إن معيار صوابية أي كشف إنما تكون بالعودة إلى صاحب الكشف الأتم؛ أي الحقيقة المحمدية. وبذلك أرجعنا الطرح – المخرج، إلى حاضنة العام الذي تستسيغه كل فطرة، وكل مولود يولد على الفطرة (الدين) التي جعلها الله سبحانه فينا، ولكل منا؛ إذ بذلك يوحدنا على الدين القيِّم.
الخاصية الثانية: إنه وبسبب من السلوك الارتياضي الخاص تكوَّن مزاج عام – ساعد عليه الظلم والتنكيل، الذي طال أهل المعرفة عامة، وأهل الله خاصة – اتجه هذا المزاج نحو موقف سلبي حاد من الدنيا وأهلها. مما ساعد على طبع الرؤية الاعتقادية طابع السلبية من الدنيا وحيثياتها المرتبطة بالجسد والطبيعة والجماعة. حتى صارت الآخرة لذة وسعادة نقيضة لشؤون الدنيا وما يرتبط بها، بعد أن كانت الدنيا في الخطاب الديني مزرعة الآخرة والمعبر إليها.. وهنا أخذنا نتلمس في الصياغة المعرفية للعقائد خصائص هدم وقطيعة تتوجها رتبة الغياب عن الذات. وكأن الجهاد الأكبر على حقيقته هو نقضٌ للأرض وأهل الأرض وللذات ولذاتها. وصارت معرفة الرسول أو الإمام هي تلك المعرفة المرتبطة بصدوره الإشراقي عن الله سبحانه، وأنه مجرى الفيض، بعد أن كانت معرفة المعصوم بكماله، الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم؛ إذ يهديهم سبل الرشاد، ويقودهم في صراط العزة بإعمار الأرض على أسس من المعرفة بالزمان وأهله، وما يمر عليهم من تصرّمات في الآنات والآجال.

عليه، فلا غرابة أن صارت لغة العرفان تشابه في بعض مفاصلها السردية والاصطلاحية المنتجة للمعرفة العقائدية، لغة الأسطورة الرمزية التي تختبئ فيها المفاهيم داخل مغاليق السرد والإشارات. وهو ما عاد ليحاصر العقيدة الإيمانية فلا يفسح لها بالانتشار ولا يفسح للقلوب التي في صدور الناس أن تنشرح بما فيها من توتر فعّال على مستوى قيم الإيمان الاعتقادية الموجهة للسلوك والرؤى والأنظار.

الاعتقاد العرفاني، قيم الإيمان الإسلامي
بودّي، وعلى ضوء ما مرّ، أن أقدّم وجهة نظر أعترف قبل الخوض فيها أنها فرضية أطرحها للنقاش، مفادها: أن العرفان علم اعتبر بعض أصحابه وأركانه أن من العقائد ما هو للعامة، وهو الذي يُعنى فيه علم الكلام، وهو الذي كنت قد أسميته بالمقررات العقائدية المبنية على فهم البيان النصوصي.
ومن العقائد ما هو للخاصة، وهي التي تُعنى به الفلسفة – الحكمية القائمة على البرهان، والذي يعتمد لغة العقل المستخدم للأدوات المفاهيمية في صياغة وتبرير الرؤية والمعرفة العقائدية.
وهناك العقائد المخصوصة بخاصة الخاصة، وهي التي يُعنى فيها العرفان بالعيش مع وفي الحقائق الإلهية من الذات الإلهية وتجلياتها الأسمائية والصفاتية والأفعالية، وبالمظاهر المنعكسة على الأعيان الثابتة، وبالمظهر الأتم الذي هو حقيقة الإنسان الكامل للحقيقة المحمدية والمشيئة وما تسري من فيض يتولد منه مظهر التوحيد في عالم الكثرات التي هي آيات دالة للذات وعلى الذات الأحدية أو الواحدية.

وإني إذ أقر بصعوبة ما غلّفه العرفاء لحقيقة حضورية أو بديهية أصلًا.. أعتقد بنفس الوقت أن هذا الصعب المستغلق إنما يتناول أوضح الواضحات الوجدانية والفطرية عند الناس، والذي عبّر عنه شاه آبادي (بطلب الكمال) المزروع في وعي الحياة عند كل حي.
كما وإني أقر وأعترف أن في مضامين مباحث العرفان العقائدي حياة تضج بحيوية تقصر عنها كل مباحث الكلام في مقرراته، والفلسفة في براهينها، وهي حياة حيوية تستقي من طلب المثال الأعلى المركوز في حاق حقيقتنا، والذي تطلبه ذواتنا بمجاميعها من بدن وطبع ونفس وقلب وروح و(أنا) متماهية مع وحدانية تدفع حضور الإنسان على أرض من قيم إيمانية عبَّرت عنها حقائق العرفان وإن جانبتها لغته ورمزياته. مما يسمح لنا القول: إن كل معرفة إيمانية عقائدية خارج حقائق قيم العرفان هي معرفة عقائدية منقوصة، وأن وظيفة العرفان الفعلية هي الكشف عن قيم الاعتقاد الإيماني التي صدع بها نبي الوحي وأفاضتها روح العصمة قولًا وفعلًا وتقريرًا..

هذا ولنخلص أن خاصية البحث العقائدي العرفاني هي في كونه بحث في نظام القيم العقائدية. وما مبحث الأحدية إلا مبحث قيم الرؤية التوحيدية التي تنطلق من معرفة الولي والعيش في كنف القيم الولائية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ (سورة المائدة، الآية 55). ﴿ اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ (سورة البقرة، الآية 257).. هذا وقد عرّف أهل الفن الولاية أنها “حقيقة كلية وصفة إلهية، وشأن من الشؤون الذاتية، التي تقتضي الظهور ﴿وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (سورة الشورى، الآية 28)، ويظهر حكمها من جميع الأشياء، من الواجب والممكن، فهي رفيق الوجود، يدور معه حيثما دار”[2].
إن هذا التعريف يشي بمعنى القيمة (حقيقة كلية)، خاصة أن القيمة لا تنحصر بالحكم على الموضوع، بل قد تكون هي الواقع نفسه (شأن من الشؤون الذاتية). وهذه القيمة – الواقع يظهر حكمها في كل واقع، ويدل عليها كل واقع هو مظهر وآية تشير إليها – خاصة أن “الولاية بعدما كانت بمعنى القرب، فلها درجات متفاوتة ومراتب مختلفة بالكمال والنقص والشدة والضعف ويقال عليها بالتشكيك، حتى تنتهي إلى قربه تعالى بالأشياء ولا أقرب منه بها، مع كل شيء – أي بالمعية القيومية – لا بمقارنة”[3]، “فإذا خرج الوجود… وتنور بنور الإيمان ويظهر أحكامه ويغلب أوصافه، ويصير مظهرًا لصفات الجمال واللطف ويتصف بالولاية على تفاوت الدرجات واختلاف المراتب”.
فقيمة كل ولي هي ولايته التي تستقي من القيمة المطلقة الولاية الإلهية شأنيتها بما هي مرتبطة بذاك الإطلاق. لتتحدد سلسلة القيم الإيمانية والعقائدية على ضوء حضور الواقع والحقيقة وارتباطها بأصل كل حقيقة. وهو الأمر الذي يهدف العرفان بشقه العملي إلى الوصول إليه، والذي يتأول التعبير عنه في شقه النظري القابل – على أرضية دراسة القيم الإيمانية – أن يتسع لكل طالب ومنتمٍ. وإن بحسب جدِّه وجهده. فليس العارف من عرَف الله، بل من عاش قيم معرفة الله وارتبط بوجدانه وسلوكه، ورؤيته وجهاده بالولي المطلق، وبكل من تولى الولي المطلق، وبحسب ترقيهم في مدارج قيم القرب الوجودي والتألهي.. ومن هنا تكون قيم المعرفة العقائدية للرسول والإمام والارتباط بهما، بل والتأسي العقائدي المفضي إلى الأسوة العملية. وعلينا هنا التنبّه أن وضع المعرفة العرفانية على أرضية القيم لا يخرج المبحث العرفاني عن معرفة الذات كمحور للموضوع، بل هو يفك محاصرة الموضوع من الخصوصية ليتمكن من فتح أفق التداول عبر نظام القيم المنبث من الذات (موضوع المعرفة)، أو الذات (العارفة).
أخيرًا، إني وإن كنت أعتقد أن تقديم العقائد العرفانية يحتاج إلى جهد لا تسعه هذه الورقة. لكني أريد القول: إن الباحثين في العقائد الإسلامية مدعوون لرفد مباحثهم من منابع شتى منها: القراءة العرفانية، وليست أي قراءة لأي علم كافية وحدها لتحقيق هذا المرام.

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
[1] مرتضى المطهري، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، ترجمة الرفاعي، دار الكتاب الإسلامي، الصفحة 144.
[2] راجع: رشحات ولائية، المتن الخاص برسالة أحمد الآشتياني، الصفحة 9.
[3] مصدر سابق، الصفحة 10.