إلقاء النفس في التهلكة
ينبغي لنا، ونحن بصدد الحديث عن حركة الحسين وثورته، أن نتصدى للجواب عن بعض الأسئلة الرئيسية بهذا الصدد، ومن أهمها ما قد يرد على بعض الألسن، من أن الحسين ألقى نفسه في التهلكة، وإلقاء النفس في التهلكة حرام بنص القرآن.
وهذا الوجه لا يخص الأمام الحسين ، وان كان فيه أوضح باعتبار القرائن المتوفرة الواضحة التي تدل على مقتله لو سار في هذا الطريق، وعدم إمكان الحصول على الانتصار العسكري المباشر، ولكنها أيضاً شبهة موجودة بالنسبة للائمة الآخرين ، من حيث سيرهم في طريق الموت، في حين انهم يعلمون بحصوله، كما هو المبرهن عليه والوارد عندنا في حقهم، وقد حصلنا فكرة كافية عن إحاطة علومهم فيما سبق. إذن فهم يعلمون بحصول هذه الوفاة في هذا الطريق فلماذا ساروا فيه سواء كان المراد الأمام الحسين أم غيره من المعصومين. وهل السير في ذلك إلا السير في طريق التهلكة المحرمة بنص القرآن الكريم ؟.
ويمكن الجواب على ذلك بعدة وجوه نذكر أهمها :
الوجه الأول : أنه يمكن القول إن الآية الكريمة: [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] خاصة غير عامة. فإن خصوصها وعمومها إنما هو ناشئ من المخاطب فيها في قوله: ولا تلقوا. والمخاطب فيها غير محدد.
وأوضح المصاديق الأخرى من القرآن الكريم لذلك قوله تعالى: [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا] فإن المخاطب فيها غير محدد، وإذا لم يكن محددا لم يكن عمومها أكيداً، كما يفهم سائر الناس. وقد يستشكل: إن الظاهر هو العموم، وإن الضمير يعود إلى سائر المسلمين، بما فيهم الأئمة.
وجوابه : أن هذا صحيح لو خلي وطبعه، إلا أنه توجد في الآية التي نتحدث عنها قرائن صارفة عن الخطاب للمعصومين .
فإنه تعالى يقول: [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ومن الواضح أن الأمرين الأول والأخير : [أَنفِقُوا] و[أَحْسِنُوا] خاص بغير الأئمة ، بل بغير المعصومين وغير الراسخين في العلم عموما، لأن أمثال هذه المستويات العليا من الإدراك لا تحتاجه، وإنما يعتبر بالنسبة إليهم من توضيح الواضحات، بل يكون الخطاب بهذه الأمور قبيحا وحاشا لله وكلامه من القبح. إذن فالمخاطب غيرهم.
اذن، فقد وقع النهي عن التهلكة في سياق الخطاب لغيرهم ، فنعرف من وحدة السياق ــ وهي قرينة عرفية مبحوثة في علم [الأصول] ــ إن النهي عن التهلكة، غير شامل لهم أيضا، ومعه لا يمكن القول: بأن القرآن الكريم نص عليهم بعدم إلقاء النفس في التهلكة، كما يريد المستشكل أن يقول.
الوجه الثاني : أنه بعد أن ثبت أَن المعصومين مسدّدون بالإلهام من قبل الله سبحانه. إذن, يكون عندهم نوعان من التكاليف: ظاهرية وباطنية. أما الظاهرية فهي الموافقة لظاهر الشريعة والمعلنة بين الناس، وأما الباطنية فهي التعاليم التي يعرفونها بالإلهام، فإذا تعارض الأمران، الظاهري والباطني، كان الباطني أهم كما هو أخص أيضاً، فيتقيد إطلاق الآية الكريمة ــ لو تم ــ بغير هذا المورد، فلا يكون هذا المورد على المعصوم حراماً، بل يكون واجباً بمقتضى الإلهام الإلهي الثابت لديه. فيتقدم نحوه بخطوات ثابتة ممتثلاً أمر الله سبحانه، وراجياً ثوابه الجزيل ببذل النفس في هذا السبيل. وهذا الأمر لا يختلف فيه الإمام الحسين عن غيره من المعصومين.
الوجه الثالث : إنه من الممكن أن لا يراد من [التهلكة] المنهي عنها في الآية الكريمة, التهلكة الدنيوية، بمعنى تحمل الموت أو المصاعب العظيمة، كما يريد الناس أن يفهموا منها، بل يراد منها الهلاك المعنوي، وهو الكفر وإلقاء النفس في الباطل والعصيان والانحراف، وهو أمر منهي عنه بضرورة الدين.
وبتعبير آخر : إن المراد من التهلكة ليس هو التهلكة الدنيوية ، بل التهلكة الآخروية، وهو التسبيب إلى الوقوع في جهنم بالذنوب والباطل، ولا أقل من احتمال ذلك، بل من الواضح أن التعاليم الأخرى الموجودة في سياقها كما سمعناه فيما سبق، هي من الطاعات، أذن, فتكون قرينة محتملة، على أن المراد من هذا النهي : التحذير عن ترك الطاعات والوقوع في المعاصي.
وإذا تم ذلك، لم يكن في الآية أي دليل على ما يريد الناس أو يميل إليه المستدل، بل تكون بعيدة عن ذلك كل البعد.
الوجه الرابع : إننا لو تنزلنا جدلاً عن الوجوه السابقة ، وقلنا بحرمة التهلكة. فإنها إنما تحرم ما دام صدق العنوان موجوداً، أو قل : إذا كان العرف يوافق على أنها تهلكة فعلاً. وأما إذا لم تكن كذلك, خرجت عن موضوع التهلكة فلم تصبح محرمة، ولا شك أن المفهوم عرفاً وعقلائياً إن التهلكة إنما تكون كذلك والصعوبة إنما تكون صعوبة، فيما إذا كانت بدون عوض أو بدل. فلو مر الإنسان بصعوبة بليغة من دون نتيجة صالحة لتعويضها كان ذلك [تهلكة]. وأما إذا كانت نتائجها حسنة فليست تهلكة بأي حال.
ونحن نرى الناس كلهم، تقريباً بل تحديداً، يضحون مختلف التضحيات في سبيل نتائج أفضل، سواء من ناحية الأرباح الاقتصادية أم المصالح الاجتماعية أم النتائج السياسية أم الثمرات العلمية أم أي حقل من حقول هذه الدنيا الوسيعة، فإنه يحتاج إلى تضحية قبل الوصول إلى النتائج. ومن الواضح أن هذه النتائج مادامت مستهدفة لم يعتبرها الناس تهلكة أو خسارة، بل يعتبرونها ربحا وفيرا، ورزقا كثيرا، لأنها مقدمات لها على أي حال. فإذا طبقنا ذلك على حركة الحسين ، أمكننا ملاحظتها مع نتائجها بكل تأكيد، سواء النتائج المطلوب تحقيقها منها في الدنيا أم المطلوب تحقيقها في الآخرة، فإنها نتائج كبيرة ومهمة جدا، ولعلنا في المستقبل القريب لهذا البحث سنحمل فكرة كافية عن ذلك. وليس من حقنا أصلا أن نلاحظ هذه الحركة منفصلة عن النتائج، خاصة بعد أن نعلم علم اليقين أن الحسين إنما أرادها لذلك، وأن الله سبحانه إنما أرادها منه لذلك، إذن فتسعيرها الواقعي واعطاؤها قيمتها الحقيقية، إنما تكون مع ملاحظة نتائجها لا محالة.
ومن الواضح عقلاً وعرفاً وعقلائياً، إننا إذا لا حظناها مع نتائجها لم تكن [التَّهْلُكَةِ] بأي حال، بل كانت تضحية بسيطة ــ مهما كانت مريرة ــ في سبيل نتائج عظيمة ومقامات عليا في الدنيا والآخرة، لا تخطر على بال, ولم يعرفها مخلوق، ويكون الأمر بالرغم من أهميته القصوى، بمنزلة التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة. وفي مثل ذلك لا يكون حق أحد الإرجاف بأنها [تَّهْلُكَةِ]، فإذا لم تكن تهلكة لم تكن مشمولة لحكم التحريم في الآية الكريمة.
الوجه الخامس : إنه لا يحتمل فقهاً وشرعاً في الدين الإسلامي، أن تكون كل تهلكة محرمة، بل الآية الكريمة إن وجد لها إطلاق وشمول، فهي مخصصة بكثير من الموارد، مما يجب فيه إلقاء النفس في المصاعب الشديدة أو القتل، أو يستحب كالجهاد بقسميه الهجومي والدفاعي، ومثل كلمة الحق عند سلطان جائر[[63]]، ومثل تسليم المجرم نفسه إلى القضاء الشرعي ليقام عليه الحد, الذي قد يؤدي به إلى الموت، كالرجم والجلد والقطع وغيرها. وكلها جزما من مصاديق التهلكة بالمعنى العام، ولكنها واجبة حيناً ومستحبةٌ أحياناً.
إذن، فليس كل تهلكة محرمة، فكما أصبحت الأمور المذكورة جائزة مستثناة من عموم الآية الكريمة، فلتكن ثورة الحسين كذلك. وما يمكن أن يكون دليلا على الاستثناء أحد ثلاثة أمور متصورة، أصبحت سببا لقناعة الأمام الحسين بحركته :
الأمر الأول : الإلهام الذي يأمره بالخروج في هذا السبيل أمرا وجوبياً.
الأمر الثاني : أنه تلقى الوجوب عن جده نبي الإسلام .
الأمر الثالث : أنه رأى مصلحة عامة واضحة الصحة وبعيدة المدى، بحيث يكون سلوك هذا السبيل من قبيل التضحية بالأمور الخاصة من أجل المصالح العامة.
وإذا تم لنا، كما حصل فعلا مما قلناه، تأويل الآية بالشكل المعقول الذي يصرفها عن محل الكلام ومورد الأشكال، إذن، سوف لن يكون سير الحسين في هذا السبيل, وسير غيره من المعصومين في طريق موتهم، لا يكون أمراً محرماً، بل هو جائر يختاره برضاه وطيب نفسه من أجل رضاء الله عز وجل والنتائج المطلوبة في المستقبل, ولكننا مع ذلك نعرض في ما يلي الوجوه الأخرى لتفسير ذلك, مما قيل أو يمكن أن يقال في هذا الصدد:
الوجه الأول : النظر إلى المعصوم كقائد دنيوي. ومن المعلوم إن القائد الدنيوي قد لا يلتفت أو لا يتأكد من وقوعه في الموت في هذا الصدد الذي هو فيه، وإنما يأتيه سبب الموت على حين غرة, غير أن هذا الوجه غير تام لأكثر من جواب :
أولا : المنع عن النظر إليهم كقواد دنيويين، بعد كل الذي برهنا عليه من كونهم مسددين ملهمين من قبل الله سبحانه وتعالى.
ثانيا : إننا حتى لو نظرنا إلى التسبيب الطبيعي، فإنه كثيراً ما يكون من الراجح جداً حصول الموت في الطرق التي سلكها الأئمة في التسبيب لموتهم. وأوضح مصاديق ذلك حركة الحسين , إذ كان هو يعلم بموته، وكذلك عدد ممن ناقشه في سيره وأراد صرف رأيه عنه, كان ممن يرجح حصول مثل هذه الكارثة التي حصلت له. ومعه فمن سخف القول : إن الأمام لم يكن ملتفتاً إلى ذلك أو محتملاً له سلفاً, وإلا فقد أنزلناه إلى مرتبة وضيعة من التفكير.
الوجه الثاني : ما هو المشهور بين بعض المفكرين في الدين, من أن المعصوم وإن كان بحسب طبعه الأول معصوماً عن الخطأ والنسيان, إلا انه في تلك الواقعة، يعني حين يريد الله سبحانه التسبيب إلى موته, يجعله ناسياً أو جاهلاً بالنتائج, فيذهب في هذا الطريق وهو لا يعلم.
أقول : وهذا الوجه إنما قالوه، لكي يصبح المورد خارجاً عن حرمة إلقاء النفس في التهلكة, لأن هذا الإلقاء إنما يكون حراماً إذا كان عمدياً, وأما إذا كان عن جهل او نسيان، فلا يكون محرماً, لاستحالة تكليف الناسي والجاهل ما دام بهذه الصفة. والمفروض أن هذه الصفة تلازم المعصوم إلى حين تورطه في الحادث.
إلا أن هذا الوجه ــ أيضاً ــ ليس بصحيح، لأنه منقوض بما دلَّ من الروايات الواردة عنهم ، على علمهم بحصول الموت لدى السير في هذا الطريق قبل التورط فيه, كالذي ورد عن الحسين ، حين يقول :
[كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء, فيملأْنَ مني أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغْباً, لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم, رضا الله رضانا أهلَ البيت, نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين].
ثم قال في نفس الخطبة :
[ألا فمن كان باذلاً فينا مهجته, موطِّناً على لقاء الله نفسَه, فليرحلْ معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى] .
وكل ذلك واضح الدلالة في علمه ، بموته وموت كل أصحابه سلام الله عليهم أجمعين.
وكذلك الإمام الرضا ، حين مشى بطريق الموت فإنه قال فيما قال لأبي الصلت الهروي: [إن خرجت إليك وأنا مكشوف الرأس فكلمني, وأن خرجت إليك مقنع الرأس فلا تكلمني. فحين خرج إليه مقنع الرأس هابه أبو الصلت أن يتكلم معه[، مضافا إلى الرواية التي تقول :
[فقال له : إلى أين أنت ذاهب يا ابن رسول الله؟ فقال : إلى حيث أرسلتني]. إذن، فهو يعلم انه أرسله إلى الموت. ولم تكن إلى ذلك الحين دلالة طبيعية أو عرفية دالة على ذلك.
الوجه الثالث : إن المعصوم يعلم بتكليف شرعي من الله عز وجل بالإلهام أو بالرواية عن جده النبي. تكليفاً وجوبياً أو إستحبابياً بالسير في هذا الطريق، طريق الموت. فهو بذلك يؤدي امتثاله لذلك التكليف الوجوبي أو الإستحبابي قربةً إلى الله تعالى, ورجاءاً لرضاء الله سبحانه وثوابه, تماماً كالعبد المؤمن الاعتيادي حين يصلي أو يصوم أو يحج أو يتعبد عبادة واجبة أو مستحبة. وهذا أحسن الوجوه التي عرفناها للجواب على مثل هذا السؤال, على تقدير دلاله الآية الكريمة على حرمة التهلكة. وقد عرفنا فيما سبق عدم دلالتها على ذلك إطلاقاً.