التطبير بين الحجة الشرعية وثقافة العوام - 1
عبداللطيف الحرز
في ظل احتدام الصراع السياسي بين دول المنطقة , نجد التراث (الشيعي منه خصوصاً) تتهاوشه ايادٍ اثامة الغاية , فترديه في مستنقعات تأويلية واستعمالية غريبة عنه . ومن هذا الوضع الملتبس وصعود الطرق السهلة للقراءة اخذ جملة يطرحون انفسهم محققين ومؤلفين ومحللين , وكأن عملية الفكر الهجينة هذه توازي الطرق السريعة لباعة الاكل الجاهز, والتمثيل السينمائي والتلفزيوني الجاهز, والغناء الجاهز , والسلطة الجاهزة ,فالكل غني عن سؤال الشرعية وعن سؤال الخبرة والامكانية والتخصص!.
فرق كبير بين الايمان كشعور روحي وبين الايمان كتحزب وفؤيات . فرق بين العلم كادلة ومصادر وتأملات تدرك بالعقل وتطلب بالبرهان والدليل, وبين العلم كعناوين شخصية حيث يكفي ان تكون من آل الصدر فتكون زعيماً وقائداً. او من بيت الحكيم فتكون ثرياً , او ان يكون لقبك شيرازي كي تكون عالماً في جميع حقول المعرفة ولك مئات الكتب في شتى الفنون .العلم هنا ليس دليل وانما اسماء عوائل. والايمان هنا ليس علاقة مع الله وانما مصالح طبقية ,لإهل النجف التجارة وعلى اهل الناصرية والبصرة الشراء واللطم , هم يسكنون في الفنادق والمتاجر وغيرهم يفترشون الشوارع . لإيران المرجعية ولاهل العراق والخليج التقليد . دين واحد ومذهب واحد بالنسبة للعلاقة مع السماء ,لكنه طبقي مختلف بالنسبة للتطبيق على الارض.
وضمن هذا الخلط المُربك تعود قضية التطبير الى الواجهة مرة اخرى ,فنحن لانبحث كيف تطورت التكنولوجيا وكيف نساهم فيها وأي عقل انتجها : عقل التبعية ام عقل الابداع؟ عقل التطور ام عقل التقاليد ؟ عقل الواقع ام عقل الغيبيات ,عقل العلم ام عقل الاساطير؟. لذا تعج الفضاءيات وشبكات الانترنت بافكار لونها لون التشيع وفعلها فعل الهلوسة ,فلا هي للتشيع ابانت فكرة ولا هي في السلوك دفعت ضر ذبابة ! .
خصوصاً وان هناك اليوم من بات له حظوة واسم يُهاب على المنبر الحسيني امثال الشيخ عبدالحميد المهاجر . الذي يخلط بين ركن من اركان الدين منصوص عليه وهو ضرورة من الضروريات مثل الصلاة وبين مسئلة جزئية لا اقل هي مختلف عليها ولا تمثل لا اساساً مذهبياً ولا اسلاميا عاما مثل التطبير. فيقول ان الغرب يعيب على المسلم الصلاة فهل يترك الصلاة اذن لماذا تطالبوننا بترك التطبير لكونه يشوّه سمعة الاسلام ؟!
ومن الملاحظ ان البعض بات يعطي التطبير بعداً في الهوية المناطقية فمن لايطبر لايكون من اهالي كربلاء الحقيقين ! . او يكون التطبير شعار مرجعية بكاملها كما هو حال الشيرازية . ومن هذا المنطلق تجد اغلب الكتب والخطباء الذين يحثون رماد الوهم هم من هذه الفئة بالذات . ومن الكتب التي حاولت التفذلك الفقهي واعطاء شرعية للتطبير كتاب حسن الشيرازي ((الشعائر الحسينية)) الذي وصل فيه حد المغالاة بالتطبير الى القول ص 153من الكتاب المزبور :
{وموكب التطبير أقدر موكب على إعادة ثورة الحسين (عليه السلام) إلى الحياة، لأنّ فيها كل ما في الحرب: الطبول، والصنوج، والأبواق، والسيوف التي تقطر دماً، والرؤوس المخضبة، والأكفان الحمر }
هكذا تكون ثورة عالمية الابعاد قلبت عروش سلاطين وعلمت مختلف الطوائف الاسلامية وغير الاسلامية العديد من المفاهيم والقيم الانسانية (=انظر كتابنا: ((عاشوراء جرأة الحرية)) ص28) عبارة عن طبل وبوق, ولعب بتنكة السيوف وخرق من الاقمشة البيضاء . لايكون الفكر الحر ولا الارادة الايمانية الواعية ولا حتى السير على هدى تعاليم الامام الحسين ومدرسة اهل البيت ,قادر على احياء ثورة الحسين , وانما موكب التطبير بطبوله ومزاميره وخرقه هو الذي يعيد ثورة الحسين !! .و من اين يأتي هذا التقييم ؟! من رجل معمم يتسمى بالعلم ويتلقب به وتعرض له شاشات الفضاءيات شتى المحاضرات وتقام محافل كبرى لوفاته ,رجل يرتدي عمة رسول الله ولباس الحوزة العلمية , واذا به يُنزل ثورة الامام الحسين منزلة لم يتجرء في النطق بها حتى اكثر الوهابية والنواصب والتافهين من صعاليك المتثيقفين(حيث ان فعل "اقدر" هو للتفضيل) . ثم عن اي حرب بالسيف والطبلة يتحدث عنها هذا السيد؟ هل الحسين حرب ام سلام ؟ ففرق بين ثورة المبادئ وبين حرب القبائل . واين الحديث عن المعاصرة ومخاطبة الجيل الجديد ونحن نربط الحسين في اذهان الناس بموكب من الصراخ والاشكال البدائية القديمة؟ . وهل فعلاً يمكن تشبيه مجموعة من المراهقين والمفلسين من اي تعليم فقهي واسلامي بأيديهم قطعة حديدة وطبلة ,ينتظرون لقطات الصور من هذه الكاميرا او تلك بكتيبة حربية؟.هل خلّص التطبير بخيلاً من بخله , او خلّص جباناً من جبنه او مغروراً من قيود نرجسيته؟ . هل علم التطبير حكماً شرعياً او حرض شاباً على معرفة العقائد وقراءة تفسير القرآن ؟! . اذا لم يكن التطبير نافعاً لا في الاخلاق ولا في السلوك وتهذيب النفس ولا في تعلّم احكام الاسلام ,فكيف يتم ربطه بالحسين وهو رمز الاسلام الاول , كيف نربط ماهو ميت بما هو حي ,أنلصق أهوائنا النفسية بسيد شباب اهل الجنة , اهكذا علمنا اهل البيت احترامهم ام هكذا علمنا الاسلام أخذ الحكم الشرعي , ؟ كيف نقبل ان يكون التطبير سلوك يجسد ثورة الامام الحسين ,ونقلبه شعيرة بها تتحقق غاية الدين؟!. مع ذلك فالناس تقرأ وتدفع الاموال لمثل هذه المنابر والفضاءيات التي تقتل الحسين باسم الحسين وتشوّه التشيع باسم التشيع. والكل مسؤول امام الله سبحانه وبالتأكيد لاتكفي النية الحسنة مع وضوح المفسدة.
ومن الأمور التي تضحك الثكلى ان يقوم السيد محمد الفالي من خلال بعض كتاباته وبعض محاضراته بطرح أهمية التطبير بكونه آلية من آلية التمهيد للإمام المهدي من خلال تفسير عجيب غريب يقول ان التطبير يعلم القسوة والشجاعة للشباب وبالتالي فلا يخافون الحرب اذا ما ظهر الامام المهدي!.
وكأن الامام المهدي إمام تخلف لا تطور , إمام يعيد الحياة الى الوراء ولايدفع العقول الى الأمام , فهو يستخدم قطعة من حديد بوجه آخر تتطور للتكنولوجيا الحربية, وكأن ضرب الرأس بوسط حشد عاطفي يُنمي الشجاعة حقاً, في حين ان علم النفس يُثبت ان الشجاعة داخل طقس جماعي هي حماسة مؤقته تزول بزوال العارض , بينما الايمان الذي يريده الامام المهدي هو ايمان جوهري وصفة راسخة في النفس . وقوم ليس لهم شجاعة القضاء على الفساد الحكومي ومواجهة مؤامرة الدول الأجنبي فكيف نستكفي بشجاعة ضرب الرؤوس بالحديد ؟!
لكن ماذا نقول والثقافة الشعبية تعتمد على السماع وليس على القراءة , على المنبر وليس على الكتاب , على الإشاعة وشكل الملبس وحسن الصوت وليس على نوعية الدليل ومتانة البرهان.