الكلمات
للكلمة أثرها مهما تعددت السياقات واختلفت وسيلتها، فلكل جيل قاموسه، ومع الجيل التالي تتغير المصطلحات؛ فما كان مألوفا قبل عقد ربما يصبح قديما الآن، وهو ما يحاول متخصصو التسويق إدراكه للوصول إلى جمهورهم المستهدف، فأثر الكلمة لا يقتصر فقط على العلاقات الإنسانية وعلوم التسويق بل يمتد ليشمل كل المجالات.
ويوضح هاشم الأسد، الباحث في التعليم والتسويق واللغويات، التقاطع بين اللغة والتسويق من خلال معرفة ألفاظ الفئة المستهدفة منه؛ كيف يتحدثون؟ والعبارات التي يستخدمونها بشكل أكبر واختيار أنسب الكلمات، وذلك من خلال إجراء أبحاث لفهم لغة الفئة المستهدفة.
نماذج متعددة يوضحها الباحث لهذا الأمر، منها نجاح شركة متخصصة في مبيعات ألبومات الصور تدعى “Popsa”، التي كانت مبيعاتها متراجعة، وبدأ مسؤولوها في دراسة هذا الأمر من خلال مراجعات المستخدمين على مواقع المتاجر الإلكترونية، واكتشفوا جملة دارجة وهي “5 دقائق”، فاستبدلوا إعلانهم من كيفية إنشاء “دفاتر الصور السريعة والسهلة” لتصبح “كيفية عمل دفاتر الصور في 5 دقائق”، وبناءا على هذا التغيير ارتفعت المبيعات 4 أضعاق.
النموذج الثاني لأثر الكلمة ودورها هو رحلة البحث عن هوية القاتل الأمريكي المتسلسل “يوني بومبر”، من أواخر السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات قُتل خلالها 3 أشخاص وأصيب 23 آخرين، ولم تنجح أجهزة الأمن الفيدرالي في فك لغزه وتحديد هويته، إلا بعد أن نشر بيانا مجهولا في صحيفة “واشنطن بوست” لشرح أيديولوجيته، وعندما قرأ ديف كاتشينسكي عبارة “المفكرين ذوي العقول الهادئة”، اكتشف أن شقيقه تيد هو القاتل، استنادا إلى رسالة سابقة له استخدم فيها نفس التعبير، وكان للتشابه اللغوي الفضل في قك لغز القضية التي استمرت 17 عامًا.
ويشير “الأسد” إلى أنه خلال فترة جائحة كورونا، كانت بعض المنظمات الصحية تقدم إرشادات مضللة وقاتلة بشأن كوفيد 19 نتيجة للتعريفات غير المفيدة لمصطلحين طبيين وهما “AEROSOL ” و”DROPLETS”، وكان كل منهما يشير إلى معنى مختلف بشأن انتقال فيروس كورونا؛ فكان التفسير الخاطئ يعتبر أن الفيروس لا ينتقل عبر الهواء ولكنه ينتقل بالتلامس فقط، رغم أن ذلك غير صحيح.
ويوضح أن المجالات التي تركز على الكلمة وتتأثر بأي تغيير فيها، مثل علم الجريمة والدبلوماسية، يمكن لكلمة أو ترجمة خاطئة أن تؤدي لأزمات، كما أن الترجمة الخاطئة في التسويق وعدم فهم ثقافة الدول تؤدي لمشكلات، وكذلك المحاماة إذ يمكن لكلمة واحدة أن تؤدي لأخطاء في القضايا أو التعامل معها.
اختلاف الكلمات بين الأجيال
ويرى “الأسد” أن اختلاف الكلمات بين الأجيال المتعاقبة أمر طبيعي والجميع يلمسه من خلال تعاملاته اليومية، وحتى الأعمال الفنية، فالأفلام السينمائية القديمة في الخمسينيات والستينيات تستخدم كلمات لم يعد ممكنا استخدمها الآن، مثل “دا شيء مدهش”، أو أو “عال”، كتعبير عن التقدم والنجاح في أمر ما، و”سعيدة” كتعبير عن التحية وغيرها، كذلك كلمات جديدة مثل “روش” التي يمكن أن يكون استخدامها مرتبطا بفئة عمرية معينة تراها فئة أخرى كلمة قديمة.
ويضيف أن الشباب يستخدمون كلمات محددة في قاموسهم ليكون لهم هويتهم الخاصة، فاللغة دائما في تغير مستمر، فأصحاب العشرينيات الآن يستخدمون كلمات بعينها، مضيفا أن الصغار يستخدمون بعض الكلمات التي لا يفهمها الكبار، وهو ما يدفع البعض للقول بأن اللغة “تخربت”، وهو أمر دائم التكرار في كل الحضارات والأوقات، فاللغة الفرنسية عبارة عن تطور للغة اللاتينية، لكن الناس وقتها كانوا يعتبرونها “تخريبا” للغة الأساسية.
ولهذا يعتمد دارسو اللغة والتسويق والدراسات على إعداد قائمة بكل الكلمات المتوقع استخدامها للوصول إلى فئة عمرية معنية، ودراسة الأمر لتحديد ما إذا كانت هذه اللغة مناسبة أم تستوجب إجراء تغيير عليها، لأن شخصين يمكن أن يتحدثا عن نفس الأمر لكن كل منهما يستخدم ألفاظ تخصه تختلف عن الآخر، حسبما يوضح هاشم الأسد، مضيفا أن المرادفات أيضا مهمة للوصول إلى نتائج دقيقة.
ويشير “الأسد” إلى أن هذا الأمر مهم في الحوار بين العلوم المختلفة، فمثلا الفيزياء والكيمياء كلاهما يهتم بالآخر ويجب التواصل بينهما لكن لكل مجال ألفاظه، والوصول إلى حديث مشترك بين فيزيائي وكيميائي يتطلب استخدام الكلمات بطريقة معينة ولغة مشتركة أو تشابه بينهما، مشددا على أنه لهذا السبب فالكلمات البحث العلمي والتسويق والأمور الدبلوماسية وغيرها.
التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
وباتت التكنولوجيا الحديثة تعتمد بشكل أكبر على الكلمات وتوظيفها بطريقة تؤدي لنتائج مستهدفة، وهو ما تقوم عليه أدوات الذكاء الاصطناعي، بينها شات جي بي تي، وغيرها من أدوات ” النموذج اللغوي الكبير” والتي تتميز بقدرتها على فهم وتوليد اللغة للأغراض العامة، فيوضح الأسد أن المستخدم يدخل كلمة وهذه النماذج تحاول تخمين وتوقع الكلمة التالية بناءا على قاعدة البيانات المخزنة به.
ويوضح أن هناك علم يعني بدراسة معنى الكلمة، وكذلك علوم اللغويات، فهناك فارق كبير اللغويات والقواعد، فالقواعد تعتمد على ما يجب قوله، لكن اللغويات تركز على ما يقوله الشخص بالفعل، لذلك يرون أنه لا يوجد صح أو خطأ في اللغة لكن المهم هو التفاهم بين الأشخاص، لذلك فاللغة العامية ليست خاطئة في اللغويات.
ومن الاتجاهات الجديدة لاستخدام الكلمات الآن هو الاستفادة من قواعد محركات البحث، من خلال تحقيق أكبر فهم عن الناس من خلال الكلمات التي يستخدمونها في عمليات البحث، مضيفا أن واحدة من الأمثلة على هذا الأمر هو ما قامت به واحدة من شركات البحث العلمي بالتعاون مع بحث Bing، والذي تم استخدامه لتحديد الأعراض التي تتنبأ بسرطان البنكرياس، حيث تم ترميز الأشخاص الذين أجروا عمليات بحث واضحة مثل “تم تشخيص إصابتهم بسرطان البنكرياس للتو”، وتبين أن من ينتهي بهم الأمر إلى التشخيص من المحتمل أن تكون لديهم الأعراض التالية: عسر الهضم يليه آلام في البطن أو آلام في الظهر يتبعها اصفرار الجلد، وهو ما اتضح من خلال عمليات بحثهم قبل تأكد إصابتهم بالمرض بنحو 6 أشهر.