الطعام في بلاد ما بين النهرين
لسنوات طويلة، ظلت ألواح صغيرة من الطين عن بلاد ما بين النهرين مغطاة بكتابات مسمارية مجهولة المعنى بالنسبة للعلماء، فلم يعرف أحد على وجه التحديد من أين أتت؛ ولم يفهم أحدا حقًا ما تقوله، واعتقد العلماء أن الألواح تحتوي على أدوية.
واكتشفت تلك الألواح في حفريات أثرية في الشرق الأوسط، منذ عام 1911، ولم يكتشف الباحث الفرنسي جان بوتيرو ما كانت تقوله إلا في أوائل الثمانينيات، ليوضح أن هذه الألواح كانت تتحدث عن العشاء لمدة 4000 عام تقريبًا في بلاد ما بين النهرين.
ألواح بابل القديمة وسر طعام بلاد ما بين النهرين
الألواح الأربعة، والتي تأتي الأكبر منها بحجم قطعة صابون كبيرة، والأصغر منها عبارة عن حفنة مستديرة من الطين، منقوش عليها مكونات ليست من الأدوية بل من الأطباق، والألواح الثلاثة الأكبر حجماً، يرجع تاريخها إلى عام 1730 قبل الميلاد على الأقل، وتحتوي في الغالب على أوصاف لأطباق الحساء؛ أما الأصغر منها، والتي تعود إلى فترة لاحقة، فتتحدث عن مرق.
وشكل وجودها في حد ذاتها تشكل لغزاً، ففي بلاد ما بين النهرين القديمة، نادراً ما كتب الناس عن تحضير الطعام، فمن بين مئات الآلاف من الوثائق المسمارية، تعد هذه الألواح الوحيدة التي تحتوي على وصفات غذائية، وهو ما لم يتمكن العلماء من تفسيره، فضلا عن أن الألواح مكونة من كلمات غامضة أحياناً بالنسبة للعلماء المعاصرين، فمع تحديد العلماء للمكونات لا تزال هويتها غير معروفة.وتحمل الألواح الأربعة الطينية، الافتراض الغريب الذي تحمله العديد من الوصفات، القديمة أو الحديثة، حيث يتوقع الكاتب أن القارئ يعرف بالفعل ما يهدف إليه، والتعليمات موجزة ومختصرة، بجانب أنها تتحدث عن كميات غير محدودة، ما يجعل من الصعب تخيل تجربة العشاء في بابل منذ زمن بعيد، أو كيف كان الطعام.
الوصفات العراقية
واستعان باحثون مؤرخة الطعام العراقية نوال نصر الله، مؤلفة كتاب الطبخ “ملذات من جنة عدن”، لتوضيح بعض التفاصيل، وقاموا بتحديث ترجمات الوصفات التي وضعها باستخدام فهم جديد لبعض الكلمات، وأجروا تجارب دقيقة، فغيروا المكونات واحدا تلو الآخر، فتوضح المؤرخة أن اليخنات والمرق يشكلان مجمل الوصفات، وهو ما لا يزال عنصرا أساسيا في الطعام العراقي الحديث، حيث يتم إعداد اليخنات من اللحوم والخضروات في المرق.
كما كانت اليخنة من السمات الرئيسية للطعام في العراق في العصور الوسطى، كما وصفها كتاب طبخ من القرن العاشر ترجمته نصر الله، وعندما طهت مجموعة البحث ترجماتها المحدثة والمختبرة لأربع من وصفات الأطباق، توصلت إلى شيء لابد وأن يذكرنا على الأقل بهذا التقليد القديم.
وتوصلت إلى كيفية إعداد أحد أنواع الحساء، فبالنسبة لحساء لحم الضأن المعروف باسم “توهو”، تحصل أولاً على الماء، ثم تحرق لحم الساق في الدهن، ثم تضاف الملح والبصل والجرجير والكزبرة وشالوت الفارسي والكمون والبنجر والماء، ثم يضاف الكراث والثوم المهروس والمزيد من الكزبرة للحصول على مذاق حار، ثم يضاف الكراث المصري. ويضفي عليه البنجر لوناً أحمراً.
ومن الأمثلة الشهيرة على الطعام الذي لم يكن شائعاً على مدى آلاف السنين صلصة السمك الرومانية “غاروم”، وهي صلصة عرفها أهل اليونان والرومان والبيزنطيون من أقدم أنواع الصلصات المسجلة، وتكون عادة مخمرة وقوية المذاق لكنها ليست جزءاً شائعاً من المطبخ الإيطالي الحديث.
كيف تغير الطعام؟
لكن بمرور الزمن والتغيرات والتبادلات التجارية ودخول أنواع من الخضروات مثل الطماطم والباذنجان والبطاطس التي جلبتها التجارة بين الأمريكيتين وأوروبا منذ القرن الخامس عشر من العالم الجديد، بات المطبخ العراقي الحديث ليس نسخة طبق الأصل مما كان يؤكل في بابل، ما يجعل الأمر وكأن الصلة بين الطعام والجغرافيا المحلية قد تبخرت.
ويشير الباحثون إلى أنه فيما يتعلق بهذه الوصفات القديمة، فكل موسم من مواسم التنقيب الأثري يحمل معه إمكانية اكتشاف نصوص جديدة، مما يلقي الضوء على الكلمات الغامضة التي تستخدم في وصف التوابل وغيرها من المكونات. ولم يتم نسخ أو نقل طريقة التفكير في بلاد ما بين النهرين كما حدث مع النصوص اليونانية. فقد سقطت من المعرفة البشرية في القرن الأول قبل الميلاد، لكن الطين حفظ تلك الوصفات لأنه موجود في التربة، ولا يمكن تدميره.