صحابة وقضية الحسين (ع)
مقدمة
مسألة الصحابة أخذت بعداً عقائدياً كبيراً جداً، فالموقف من الصحابة هو إعلان للإنسان عن مذهبه وتوجهه، وإن كان الأساس لذلك كما نعتقد هو أمر سياسي مصلحي، فاُستخدمت العقيدة في مصلحة السياسة الفاسدة.
وهناك جوٌّ أوجده أعداءُ أهل البيت (عليهم السلام) يفيد بأنَّ الشيعة يبغضون الصحابة جميعا ومن دون استثناء، مع التصـوير بأنَّ هـذا البغض لأجل أنهم صحابة، وهذه أكذوبة
كبيرة في حق الشيعة، فصحبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي شرف وفخر وأمنية لكل مؤمن بالله تعالى، ونسوا أنّ أحبّ الناس للشيعة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) هو صحابي كبير وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)؟! ثمّ أليس سلمان وأبو ذر وعمار والمقداد -وهم شيعة- هم من الصحابة؟!
بل نحن نرى الأمر بالعكس، فكلما كان الصحابي محبوبا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) أكثر فإنّ المدعين لحبّ الصحابة يبغضونه أكثر، وكلمّا كان الصحابيّ مبغوضاً لله ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) كان عندهم عظيما كمعاوية وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد. وهناك انتقاء واضح للصحابة، بل مسألة عدالة كلِّ الصحابة إنما قيلت لتصحيح أعمال مجموعة منهم، ولذلك تنصرف كلمة الصحابة إلى فئة منهم لا إلى كلهم.
ونحن هنا نريدُ أن نذكر باختصار مواقف بعض الصحابة من قضية الإمام الحسين (عليه السلام)، سواء بالسلب أم بالإيجاب، والهدف هو بيان أنّ بعض الصحابة هم مع الحسين (عليه السلام) والشيعة تعظمهم، وأنَّ المدعين لحبِّ كلّ الصحابة يخالفون هؤلاء، بل وليس لهم ذكر حسن عندهم وكأنّهم مستثنون من القاعدة.
تعريف الصحابي
أمّا لغة: فالصاحب هو المعاشر، كما في لسان العرب، وفي المفردات: “الصاحب الملازم، ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، والمصاحبة تقتضي طول لبثه”.
وأما في الاصطلاح: فقد اختلفوا في معنى الصحابي من حيث اشتراط طول الصحبة والحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الغزو معه، ولكنّ الظاهر أن المشهور عندهم هو كفاية رؤيته (صلّى الله عليه وآله)، قال القرطبي في تفسيره: “والمعروف عن طريقة أهل الحديث أنَّ كلَّ مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه”(1).
وقال البخاري: “من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه”(2). وعن أحمد بن حنبل أن الصحابي هو: “كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوما أو ساعة أو رآه”(3).
الأطفال من الصحابة
اختلفوا أيضاً في الأطفال الذين رأوا النبي (صلّى الله عليه وآله) هل يدخلون في الصحابة أم لا، قال ابن حجر: “ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغا وهو مردود أيضا؛ لأنّه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة”(4)، وظاهر كلامه أنّ كون الإمام الحسن (عليه السلام) من الصحابة من المسلّمات. وقال أيضاً في ردّ كلام الواقدي باشتراط البلوغ: “هذا التعريف غير جامع، لأنّه يخرج بعض الصحابة ممن هم دون الحلم ورووا عنه كعبد الله بن عباس، وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين، وابن الزبير. قال العراقي: والتقييد بالبلوغ شاذ”(5).
الثورة الحسينية المقدسة
لا تحتاج ثورة الحسين (عليه السلام) إلى شهادة أحد من الصحابة لكي تكون شرعية إلهية، فيكفيها أنَّ قائدها هو الحسين (عليه السلام) الذي جمع بين قرباه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين كونه صحابياً حسب رأي بعض القوم في عدِّ الأطفال من الصحابة، والأهمُّ من ذلك أنَّه سيدُ شباب أهل الجنة، فلا يُعقل أن يكون منْ قاتَلَ الحسينَ (عليه السلام) على حقٍّ بينما يكون سيدُهم الذي قاتلوه على باطل والعياذ بالله.
فمن يعتقد من العلماء بشمول الصحبة حتى لغير البالغين، فعليه أن يتعامل مع ثورة الحسين (عليه السلام) (في أقل التقادير) على أنَّ قائدها هو صحابي عظيمٌ عند الله وعند رسوله (صلّى الله عليه وآله).
ونحن نقسم هنا مواقف الصحابة من ثورة الإمام (عليه السلام) إلى من وقف معه وأيّد ثورته، وإلى من تعاطف معه، فهنا قسمان:
القسم الأول:- المؤيدون لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) من الصحابة:
1- الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي:
ورد في طرق الفريقين أنَّ الصحابيّ الجليل أنس بن الحارث الكاهلي كان من ضمن شهداء كربلاء الذين كتبت لهم السعادة العظمى؛ إذ قدَّم نفسه الطاهرة لنصرة سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وقد روى بنفسه حديثاً سمعه من النبي (صلّى الله عليه وآله) يأمر فيه بنصرة الإمام الحسين (عليه السلام) لمن يدركه، فقد روى ابن عساكر بسنده عن أشعث بن سحيم عن أبيه قال: سمعت أنس بن الحارث يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ ابني ذا -يعني الحسين- يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره»، قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل مع الحسين”، وذكر هذا الحديث مجموعةٌ من المؤرخين(6)، والحديث واضح في دعوة المسلمين لنصرة الحسين (عليه السلام)، وقد امتثل الصحابي أنس هذا الأمر الإلهي فنال الشهادة.
وقال في ترجمته البخاري في تاريخه الكبير: “أنس بن الحارث قتل مع الحسين بن علي، سمع النبي صلى الله عليه وسلم” وذكر غيره ذلك أيضاً”(7).
وقال ابن حجر في ردّ من أنكر كون أنس صحابياً: “وقد ذكره في الصحابة البغوي، وابن السكن وابن شاهين والدغولي وابن زبر والباوردي وابن منده وأبو نعيم وغيرهم”(8).
ومن طرقنا قال ابن نما في مثير الأحزان: “عن أشعث بن عثمان، عن أبيه، عن أنس بن أبي سحيم قال: “سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: «إنّ ابني هذا يقتل بأرض العراق، فمن أدركه منكم فلينصره » فحضر أنس مع الحسين كربلا وقتل معه”(9).
وذكره ابن شهرآشوب مرسلا عن “أنس بن الحارث قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: «إن ابني هذا -يعني الحسين- يقتل بأرض من العراق فمن أدركه منكم فلينصره». قال:” فقتل أنس مع الحسين (عليه السلام) وفيه حديث القارورة التي أعطى أم سلمة”(10).
وذُكر أنّه خرج في كربلاء وهو يرتجز قائلاً:
قد علمت كاهلنا وذودان
والخندفيون وقيس غيلان
بأنّ قومي آفة للأقران
يا قوم كونوا كأسود خفان
واستقبلوا القوم بضرب الان
آل علي شيعة الرحمن
وآل حرب شيعة
الشـيـطـان”(11).
فهذا الصحابي هو من الشيعة العظام الذين يوصمون بأنّهم روافض، ورأيُه هو وجوب الاشتراك في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والدفاع عنه كإمام معصوم.
2- الصحابي عبد الله بن يقطر(بقطر) الحميري:
وهو ترب الحسين (عليه السلام) أي أنه ولد معه وتربى، ولكن عرف بأنَّه رضيع الحسين (عليه السلام)، مع أنَّ أحدهما لم يرضع عند أمِّ الآخر، وكان يقطرُ والدُ عبد الله خادماً عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانت زوجته ميمونة في بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) فولدتْ عبدَ الله قبل ولادة فاطمةُ الحسينَ (عليه السلام) بثلاثة أيام، وكانت ميمونة حاضنة له، فلذا عرف عبد الله برضيع الحسين (عليه السلام)(12)، وهو من الصحابة الأطفال.
وكان عبد الله مع الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته المباركة، وكان سفيره إلى الكوفة وقد قتله عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، ولكن نقل ابن حجر في ترجمته عن الطبري أنَّه قُتل مع الحسين بن علي بكربلاء وكان رضيعه(13)، ولكن عند مراجعة تاريخ الطبري نرى أنّه ينقل عن مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف أن عبد الله قُتل في الكوفة، قال: “قال أبو مخنف: حدثني أبو علي الأنصاري عن بكر بن مصعب المزني قال: كان الحسين لا يمرّ بأهل ماء إلا اتبعوه حتى انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة(14) مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرّحَه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنّه قد أصيب فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية فسرّح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي، قال فصعد فلمَّا أشرف على الناس قال: أيّها الناس إنّي رسول الحسين ابن فاطمة بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدعي، فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر إلى الأرض فكسرت عظامه وبقى به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك ابن عمير اللخمي فذبحه، فلمّا عيب ذلك عليه، قال إنّما أردت أن أريحه”(15).
وقال الذهبي أنَّ عبيد الله بن زياد “ظفر برسول الحسين -وهو عبد الله بن بقطر- فقتله”(16).
وذكر ابن حبان أنّه “قتل في ذلك اليوم الخلق من أولاد المهاجرين والأنصار وقبض على عبد الله بن بقطر رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب في ذلك اليوم، وقيل حمل إلى الكوفة ثم رمي به من فوق القصر أو قيد فانكسرت رجله فقام إليه رجل من أهل الكوفة وضرب عنقه”(17).
وذكر ذلك ابن شهرآشوب أيضا فقال: “ومن أصحابه(الحسين عليه السلام): عبد الله بن يقطر رضيعه وكان رسوله رمي به من فوق القصر بالكوفة”(18).
وقال الشيخ المفيد أن الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلى الكوفة “أتاه خبر عبد الله بن يقطر، فأخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم: “بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر”(19).
ويجدر الالتفات إلى أن طريقة مقتل عبد الله بن يقطر وما ذكر من أنه سفير الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة، ذكر أيضاً في قيس بن مسهر الصيداوي(20)، ولعلّه كان للحسين (عليه السلام) أكثر من سفير للكوفة لأهميتها آنذاك، والله العالم.
3- شيخ الأنصار حبيب بن مظاهر(مظهر):
كان حبيب من تلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام) الكبار وأصحاب العلوم والمعارف، وكان شديد الحبّ والولاء لأهل البيت (عليه السلام)، وكتب الله له السعادة بالشهادة بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) رغم كبر سنه، ذكر السماوي عن ابن الكلبي أنّه كان صحابياً(21)، وذكره ابن حجر في الإصابة بلفظ حتيت بن مظهر، قال: “حتيت بن مظهر بن رئاب بن الأشتر بن جحوان بن فقعس الكندي ثم الفقعسي له إدراك، وعمّر حتى قتل مع الحسين بن علي، ذكره ابن الكلبي مع ابن عمه ربيعة بن حوط بن رئاب”(22).
وقوله “له إدراك” يثبت الصحبة بحسب المشهور بينهم من عدّ الرائي والمدرك للنبي (صلّى الله عليه وآله) في الصحابة.
4- الصحابي عبد الرحمن بن عبد رب(ربه) الأنصاري الخزرجي:
وهو من الصحابة ممن شهد لعلي (عليه السلام) بحديث الغدير عندما ناشدهم، وذُكر باسم عبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري، وحديث المناشدة ذكره كثير من أهل التاريخ بألفاظ متقاربة، وبعضهم ذكر أسماء من شهدوا لعلي (عليه السلام) منهم ابن الأثير وابن حجر، واللفظ للأول “عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ ما قال إلا قام، ولا يقوم إلا من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فقام بضعة عشر رجلا فيهم أبو أيوب الأنصاري…..، وعبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري، فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنّ الله (عزّ وجلّ) وليي، وأنا وليّ المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وأعن من أعانه”(23).
وفي تاريخ الطبري: “قال أبو مخنف، حدثني عمرو بن مرة الجملي، عن أبي صالح الحنفي عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري قال: كنت مع مولاي، فلمّا حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين، أمر الحسينُ بفسطاط فضرب، ثمّ أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة، قال: ثمّ دخل الحسين ذلك الفسطاط فتطلى بالنورة، قال: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبهما فازدحما أيهما يطلّ على أثره، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل، فقال له برير: والله لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون، والله إنّ بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم، قال: فلمّا فرغ الحسين دخلنا فأطلينا، قال: ثمّ إنّ الحسين ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، قال: فاقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا فلمّا رأيت القوم قد صرعوا أفلتُ وتركتهم”(24).
5- أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها):
لأمّ المؤمنين أمّ سلمة (رضي الله عنها) موقف مشرف تجاه قضية الحسين (عليه السلام)، وللأسف هذه المرأة المؤمنة قد أهمل القومُ أمرَها مع أنها آخر زوجات الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفاةً، وهي أفضلهن بعد السيدة خديجة (عليها السلام)، وربما سبب إهمالها هو موقفها من أهل البيت (عليهم السلام) إذ كانت موالية لهم، ونقل البغدادي عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر، عن أمِّ سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقتل حسين على رأس ستين من مهاجري»(25). وقد لعنت قتلةَ الحسين (عليه السلام) كما ذكر الهيثمي “عن شهر بن حوشب قال: سمعت أمَّ سلمة حين جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله (عزّ وجلّ)، غزوه ودلوه لعنهم الله. رواه الطبراني ورجاله موثقون”(26)، وذكرها ابن نما بلفظ آخر: “عن شهر بن حوشب قال: بينما أنا عند أم سلمة إذ دخلت صارخة تصرخ، وقالت: قتل الحسين، قالت أم سلمة: فعلوها ملأ الله قبورهم نارا، ووقعت مغشيا عليها”(27)، وهذا الكلام الذي قالته (رضي الله عنها) لو قاله أحد الشيعة لعيب عليه وقيل عنه أنّه لعّان. فما هو رأيهم في أمّ المؤمنين؟!
وذكرنا في مقالة سابقة(28) بعض الروايات المتعلقة بأمّ سلمة نذكر روايتين منها:
الأولى: قال القندوزي: “أخرج البغوي في معجمه، وأبو حاتم في صحيحه، وأحمد وابن أحمد، وعبد ابن حميد وابنه أحمد: عن أنس: إن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «استأذن ملكُ (القطر) ربَّه أن يزورني فأذن له»، وكان يوم أمّ سلمة، فقال(رسول اللهصلّى الله عليه وآله): «يا أم سلمة احفظي (علينا) الباب لا يدخل أحد»، فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين (فاقتحم) فوثب على حجر جده (صلّى الله عليه وآله) (ف) جعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يلثمه ويقبله. فقال الملك: «أتحبه»؟ قال: «نعم». قال: «إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريك المكان الذي يقتل به»، فأراه فجاءه بسهلة وتراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها. قال ثابت: كنّا نقول: إنّها كربلا. وزاد أبو حاتم: إنه (صلّى الله عليه وآله) شمّها وقال: ريح كربلا. والسهلة: رمل خشن، وفي رواية الملا وابن أحمد: قال (صلّى الله عليه وآله): «يا أمّ سلمة، فمتى صار دما فاعلمي أنّه قد قتل». قالت أمّ سلمة: فوضعته في قارورة فرأيته يوم قتل الحسين قد صار دما. وقالت: لما كانت ليلة قتله سمعت قائلا يقول:
أيها القاتلون جهلا حسينا
فابشروا بالعذاب والتذليل
قد لعنتم على لسان ابن داود
وموسى وحامل الإنجيل
فبكيت وفتحت القارورة فإذا صار دما”(29).
الثانية: روى الترمذي والطبراني والحاكم عن سلمى قالت: “دخلتُ على أمِّ سلمة وهي تبكي، فقلت ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: «شهدت قتل الحسين آنفا»”(30).
6- جابر بن عبد الله الأنصاري:
كان جابر الأنصاري صحابياً جليلاً روى روايات عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وعاش حتى زمن الإمام الباقر (عليه السلام)، وأبلغ سلام النبي (صلّى الله عليه وآله) للإمام (عليه السلام) كما هو مشهور، وكان ضريراً، وذكر بأنه أول من زار الحسين (عليه السلام)، وجاء في زيارته لقبر الإمام (عليه السلام)، أنّه خرّ على القبر مغشيا عليه، يقول غلامُه عطية العوفي: “فرششت عليه شيئا من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين ثلاثا، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثم قال: وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفرق بين بدنك ورأسك، (إلى أن قال)، والذي بعث محمدا بالحق (نبيا) لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال عطية: فقلت له: يا جابر كيف ولم نهبط واديا ولم نعل جبلا ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأوتمت أولادهم وأرملت أزواجهم؟ فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: من أحبّ قوما حشر معهم، ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين (عليه السلام) وأصحابه، خذني نحو أبيات كوفان. فلما صرنا في بعض الطريق قال (لي): يا عطيّة هل أوصيك وما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة ملاقيك: أحبب محب آل محمد (عليهم السلام) ما أحبهم، وابغض مبغض آل محمد ما أبغضهم، وإن كان صواما قواما، وارفق بمحب محمد وآل محمد، فإنّه إن تزل له قدم بكثرة ذنوبه ثبتت له أخرى بمحبتهم، فإنّ محبهم يعود إلى الجنة، ومبغضهم يعود إلى النار”(31).
فهذا صحابي آخر يؤيد هذه الثورة المقدسة، وفي وصيته لعطيّة دلائل على حقانية مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
7- الشهيد مسلم بن عوسجة:
وهو من شهداء كربلاء بلا شك ولا ريب، نقل السماوي في أبصار العين عن ابن سعد في طبقاته أنّ مسلما كان صحابياً، وذكر شمس الدين في أنصار الحسين (عليه السلام) أيضا أنه كان صحابياً، ولكنّي لم أجد ذلك، والله العالم(32).
8- الشهيد هاني بن عروة:
ولا شك أنّه من المؤيدين لثورة الإمام (عليه السلام)، وقد قتله ابن زياد (لعنه الله) بالكوفة لأنه آوى مسلم بن عقيل، وقد نقل أنّه قتل وهو ابن تسع وثمانين سنة، وروي أنه أدرك النبي (صلّى الله عليه وآله) وتشرف بصحبته(33).
9-الصحابي الجليل سليمان بن صُرَد:
سليمان بن صرَد الخزاعي أحد الصحابة العظام ولا شك في كونه من الصحابة فقد روى عنه أصحاب الصحاح الستة وغيرهم روايات مباشرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وصُرّح في بعضها بكونه من الصحابة فهو صحابي وأحد رجال الصحاح(34)، بل يظهر من عبارة في البخاري أنّ فعله حجة؛ حيث ذكر في “باب الكلام في الأذان” بعد ذكر العنوان مباشرة: “وتكلم سليمان بن صرد في أذانه”(35).
وقال الحاكم في المستدرك في ترجمة سليمان: “سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون وهو عبد العزى بن منقذ بن ربيعة ويكنى أبا مطرف، أسلم وصحب النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان اسمه يسار، فلمّا أسلم سماه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سليمان، وكانت له سنّ عالية وشرف في قومه، ونزل الكوفة حين نزلها المسلمون، وشهد مع أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) صفين، ثم إنّه خرج يطلب دم الحسين بن علي (رضي الله عنهما) وتحت رايته أربعة آلاف رجل، فقتل سليمان بن صرد في تلك الوقعة، وحمل رأسه إلى مروان بن الحكم، وكان سليمان يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنة”(36).
فهذا الصحابي الجليل، قاد ثورة التوابين وكان يرى بأنَّ التخلف عن نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) كان ذنباً عظيماً لا يكفّر عنه إلا بقتال قاتليه.
ونكتفي بهذا القدر من هذا القسم.
القسم الثاني:- المتعاطفون مع ثورة الإمام الحسين (عليه السلام):
نذكر هنا مجموعة من الصحابة الذين تعاطفوا مع الإمام (عليه السلام) وما حلّ عليه، ولكن لم يرق ذلك إلى حدّ النصرة والمشاركة معه في القتال، ونحن نرى بأنّ نصرة الإمام (عليه السلام) واجبة عينا، ولا يجوز التخلف عنها، كما دلّت الروايات على ذلك، وقد مرّ حديث أنس الكاهلي.
1- الصحابي عبد الله بن عباس:
لا شكّ بأنَّ ابن عباس معدود في جملة الصحابة وقد ولد قبل البعثة بثلاث سنين، وهو مقبول بشكل عام من الفريقين، وكان مصاحبا للخليفة الثاني، وسمي بحبر الأمة لكثرة علمه، وقد أخذ علمه من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وشهد معه صفين وقتال الخوارج بالنهروان، ولما أُخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية امتنع ابنُ عباس ومجموعة عن مبايعة يزيد، ولكنّه بايعه بعد هلاك معاوية هو وابنُ عمر كما نقل(37)، ولمّا عزم الإمام الحسين (عليه السلام) على الخروج من مكة قاصداً الكوفة، جاءه ابن عباس وقال له في حديث طويل: “لا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك فقال له حسين: وإني أستخير الله وأنظر ما يكون….، قال ابن عباس: إنَّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم بهذا البلد فإنَّك سيد أهل الحجاز، ولما عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج -وكان عبد الله بن الزبير ينتظر ذلك؛ لأنّه لم تكن له قيمة عند الناس مع وجود الإمام (عليه السلام)-، جاء ابنُ عباس لابن الزبير وقال له: قرت عينك يا ابن الزبير، ثم قال:
يا لــــك مــن قنبــرة بمعمر
خلا لكِ الجوّ فبيضي واصفري
ونقري ما شئت
أن تــنــقــــــــري
هذا حسين يخرج إلى العراق وعليك بالحجاز”(38).
ونرى بوضوح هنا أنَّ ابن عباس متعاطف كثيراً مع الإمام (عليه السلام) في قبال ابن الزبير.
ونقل عن ابن عباس عدة أحاديث متعلقة بواقعة كربلاء تدلّ على حقانية ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، والحديث الأول لعلّه هو السبب في إصرار ابن عباس وخوفه من خروج الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة؛ حيث كان يعلم بمقتل الإمام (عليه السلام)، فقد روى الخطيب البغدادي وابن حجر وابن عساكر عن ابن عباس قال: “أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم: «إني قد قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا، وسبعين ألفا»”(39)، وقد اعتبر ابنُ الجوزي هذا الحديث من الموضوعات، لوجود محمد بن شداد في أحد الأسانيد والقاسم بن إبراهيم في سند آخر، ولكنَّ الذهبي لم يتوقف فيهما وإنما قال: “هذا حديث نظيف الإسناد، منكر اللفظ”(40).
وعلى كل حال فإنَّ هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنَّ قضية الحسين (عليه السلام) لا تختلف عن قضايا الأنبياء، خصوصا وأنّ هذا الحديث هو وحي من الله تعالى، بل إنّ الله تعالى يغضب لقتل الحسين (عليه السلام) أعظم من غضبه لقتل نبي الله يحيى (عليه السلام).
حديث آخر رواه الهيثمي وابن كثير: عن ابن عباس، قال: كان الحسينُ جالسا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: أتحبه، فقال: وكيف لا أحبه وهو ثمرة فؤادي، فقال: أما إنّ أمتك ستقتله، ألا أريك من موضع قبره، فقبض قبضة فإذا تربة حمراء”. ثم قال الهيثمي: “رواه البزار ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف”(41). وحديث التربة الحمراء رويت عن أكثر من صحابي، وفي أكثر من موضع.
وحديث ثالث ينقله ابن عباس هو رؤية رآها بعد استشهاد الإمام (عليه السلام)، نقلها مجموعةٌ كبيرةٌ من المؤرخين والمحدثين، منهم أحمد بن حنبل والنيسابوري والهيثمي والطبراني، والحديث مسند إلى عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم نصف النهار، أشعث أغبر، بيده قارورة. فقلت ما هذه القارورة؟ قال: دمُ الحسين وأصحابه ما زلت ألتقطه منذ اليوم. فنظرنا فإذا هو في ذلك اليوم قتل”(42). قال النيسابوري: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”، وقال الهيثمي: “رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح”.
روايات صحيحة لا أدري كيف يتعامل معها القوم بفتور وعدم جدية، علينا أن نتدبر مضمون هذه الروايات.
2- الصحابي زيد بن أرقم:
روى الطبري وابن كثير وابن الأثير واللفظ للأول: “قال أبو مخنف… عن حميد بن مسلم قال:… دخلت(مجلس ابن زياد) فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة. فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له: أعلُ بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضح الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قال: فنهض فخرج فلمّا خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مرّ بنا وهو يقول: ملك عبدٌ عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن رضى بالذل”(43).
وقال ابن الجوزي: “فلمّا وصل رأس الحسين إلى ابن زياد جعل ينكث ثنيته بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم: والله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين”(44).
وذكر الطبراني: “لما أتي بن زياد برأس الحسين بن علي (رضي الله عنهما) فجعل ينقر بقضيب في يده في عينه وأنفه، قال له زيد: ارفع القضيب فلقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه”(45).
ونقل الهيثمي: “لما أصيب الحسين بن علي (رضي الله عنه) قام زيد بن أرقم على باب المسجد فقال: أفعلتموها أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إنّي أستودعكهما وصالح المؤمنين، فقيل لعبيد الله بن زياد: إن زيد بن أرقم قال كذا وكذا، قال: ذاك شيخ قد ذهب عقله”(46).
ونقل ابن عساكر: عن القاسم الثقفي حدثني أنّه حضر عبيد الله بن زياد حين أتي برأس الحسين فجعل ينكت بقضيب ثناياه ويقول: إن كان لحسن الثغر، فقال له زيد بن أرقم: ارفع قضيبك، وطال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم موضعه فقال: إنّك شيخ قد خرفت فقام زيد يجر ثوبه(47).
وكل ما مرّ ذكر فيه أن هذه الواقعة حدثت في الكوفة مع ابن زياد، ولكنّ الصفدي ذكر أنّها وقعت في مجلس يزيد، فذكر أنّه: “حمل رأس الحسين إلى يزيد فوضعه في طست بين يديه وجعل ينكت ثناياه بقضيب في يده ويقول إن كان لحسن الثغر، فقال له زيد ابن أرقم: ارفع قضيبك فطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم موضعه، فقال: إنّك شيخ قد خرفت، فقام زيد يجر ثوبه”(48).
وما ذكره شبيه بما ذكره ابن عساكر إلا أن ابن عساكر ذكر ذلك مع ابن زياد. والله العالم.
وعلى كل حال فما هو المرجح عند المسلمين فعلُ ابن زياد أم الصحابي زيد بن أرقم؟ وأين محبي الصحابة، ألا يجدر بهم أن يقتدوا بفعل هذا الصحابي في التعاطف مع مأساة الإمام الحسين (عليه السلام)؟
3- الصحابي أنس بن مالك:
أنس خادم النبي (صلّى الله عليه وآله) كان له موقف أيضاً شبيه بموقف زيد بن أرقم، فقد روى عنه مجموعة من المؤرخين منهم الطبراني واللفظ له أنّه قال: “لما أتي برأس الحسين بن علي إلى عبيد الله بن زياد جعل ينكت بقضيب في يده ويقول: إن كان لحسن الثغر فقلت: والله لأسوءنك لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل موضع قضيبك من فيه. وعن حفصة بنت سيرين عن أنس قال: كنت عند بن زياد حين أتى برأس الحسين، فجعل يقول بقضيب في أنفه ما رأيت مثل هذا حسنا، فقلت: أما إنّه كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم”(49). قال الهيثمي بعد نقله الحديث “رواه البزار والطبراني بأسانيد ورجاله وثقوا”(50).
وذكره ابن كثير هكذا: “وذهبوا برأسه إلى عبيد الله بن زياد فوضعوه بين يديه، فجعل ينكت بقضيب في يده على ثناياه، وعنده أنس بن مالك جالس، فقال له: يا هذا، ارفع قضيبك، قد طال ما رأيت رسول الله يقبل هذه الثنايا”(51).
وفي كنز العمال وتاريخ الإسلام: “عن أنس قال: شهدت عبيد الله ابن زياد وأتي برأس الحسين فجعل ينكت بقضيب في يده: فقلت: أما! إنّه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم”(52).
4- الصحابي أبو برزة الأسلمي(53):
أبو برزة أحد صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، عاش لزمان واقعة الطف، ويبدو أنه كان يعيش في الشام، وكان في صفّ معاوية، قال ابن عساكر: “بلغني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن بشر الهروي، قال: قرأت في كتاب لعمرو بن بحر الجاحظ قال: قيل لأبي برزة الأسلمي: لم آثرت صاحب الشام(أي معاوية) على صاحب العراق(أي علي (عليه السلام)) قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأفطن لما في نفس عدوه، قال أبو عبد الله الهروي: دلّ هذا إن كان له أصل أنّ أبا برزة كان مع معاوية بالشام”(54).
مع أنّه نقَل حديثَ النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذمِّ الخوارج وكونهم شرّ الخليقة(55)، وهو يدلّ على أحقيّة الأمير (عليه السلام) الذي منعه الخوارجُ من الانتصار على معاوية.
بل نقل الخوارزمي في المناقب: “عن أبي برزة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) -ونحن جلوس ذات يوم-: والذي نفسي بيده، لا تزول قدمُ عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله فيما كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت، فقال له عمر: فما آية حبكم من بعدكم؟ قال: فوضع يده على رأس علي -وهو إلى جانبه- وقال: إن حبي من بعدي حب هذا”(56).
نعم ذكر الحافظ الأصفهاني(ت430) في كتابه (ذكر أخبار أصفهان): “عن عامر بن عقبة بن خالد بن عامر بن ثعلبة بن أبي برزة الأسلمي حدثني أبي حدثني أبي حدثني أبي حدثني أبي حدثني أبي أبو برزة الأسلمي، قال: لما كان يوم أحد وشج النبي(ص) وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة عن رأسه، خرّ مغشيّا عليه، فأخذت رأسه في حجري، فلمّا أفاق قال نضلة: قلت: نعم بأبي وأمي يا رسول الله، قال بارك الله فيك وفي دينك وعترتك من بعدك، قال ثعلبة: وشهد أبي مع علي بن أبي طالب المشاهد الجمل وصفين والنهروان”(57).
وعلى كلّ حال فقد كان له موقف في مجلس الطاغية يزيد حينما كان ينكت رأس الحسين الشهيد (عليه السلام) مما حرّك مشاعره وضميره فاعترض على يزيد ذلك الفعل، فقد روى الطبري عن مقتل الحسين (عليه السلام): “ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه الحديث قال: فسمعت دور الحديث هندُ بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحت يزيد بن معاوية، فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله، قال: نعم فاعولي عليه، وحدي على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصريحة قريش، عجّل عليه ابنُ زياد فقتله قتله الله، ثمّ أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيب فهو ينكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحمام المري:
يفلقن هاما من رجال أحبة
إلينا وهم كانوا أعق وأظلما
قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين، أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجئ هذا يوم القيامة ومحمد صلى الله عليه وسلم شفيعه ثم قام فولى”(58).
ونقل ابن الأثير أنّه: “كان أبو برزة عند يزيد بن معاوية لما أتى برأس الحسين بن علي فرآه أبو برزة وهو ينكث ثغر الحسين بقضيب في يده، فقال: لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنّك يا يزيد تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجئ هذا ومحمد شفيعه، ثم قام فولى”(59).
وقال ابن الجوزي في المنتظم: “ولما جلس يزيد وضع الرأس بين يديه وجعل ينكث بالقضيب على فيه ويقول:
نفلق هاما من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال أبو برزة وكان حاضراً: ارفع قضيبك، فوالله لرأيت فاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على فيه يلثمه”(60). ونقل ابن شهر آشوب عن الطبري والبلاذري والكوفي هذه الحادثة، وجاء فيها: “فقال أبو برزة: ارفع قضيبك يا فاسق، فوالله رأيت شفتي رسول الله مكان قضيبك يقبله، فرفع وهو يتذمر مغضبا على الرجل”(61).
ولكنّ الذهبي بعد نقل الحادثة قال “وإنما المحفوظ أنّ ذلك كان عند عبيد الله”(62)، ولكن أكثر المصادر نقلت ذلك عن يزيد، والبيت الذي تمثل به شاهد على ذلك؛ إذ أنه لم ينسب حسب الظاهر إلا إلى يزيد.
ومواقف زيد بن أرقم وأنس بن مالك وأبو برزة مواقف مشرفة، وإن كانت دون ما هو مطلوب شرعاً من وجوب نصرة الإمام الحسين (عليهم السلام) مقابل الطاغية يزيد (لعنه الله).
5- الصحابي خالد بن عرفطة:
روى الطبراني: “عن عمارة بن يحيى بن خالد بن عرفطة قال: كنّا عند خالد ابن عرفطة يوم قتل الحسين بن علي (رضي الله عنهما) فقال لنا خالد: هذا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي”. ورواه الهيثمي ثم قال: “رواه الطبراني والبزّار ورجال الطبراني رجال الصحيح غير عمارة وعمارة وثقه ابن حبان”(63).
فخالد هنا يطبق حديث النبي (صلّى الله عليه وآله) على مقتل الحسين (عليه السلام) وأنّه كان امتحانا للأمة ولكنّ الأمّة لم تنجح فيه، وإخبار النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك يدلّ على أهميته، وقد تقدم ذلك أيضاً عن أنس الكاهلي وأم سلمة وابن عباس وغيرهم.
وخالد هذا قد حذّره النبي (صلّى الله عليه وآله) شخصياً من وقوع الفتن كما في مسند أحمد: “عن خالد بن عرفطة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد إنّها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل»”(64).
6- عبد الله بن عمر:
لعبد الله بن عمر موقف من قضية الإمام الحسين (عليه السلام) ربما يختلف قليلا عمّن ذكرنا، وربما يكون ذلك لموقفه السلبي من أهل البيت (عليهم السلام) والإيجابي مع بني أمية، فقد ذكر الطبري عن الواقدي “أن ابن الزبير والحسين لما دعيا إلى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إلى مكة، فلقيهما ابن عباس وابن عمر جاءيين من مكة، فسألاهما ما وراءكما، قالا: موت معاوية، والبيعة ليزيد، فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين، وأما ابن عمر فقدم فأقام أياما فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان فتقدم إلى الوليد بن عتبة فبايعه وبايعه ابن عباس”(65).
ونقل ابنُ نما “عن الشعبي عن عبد الله بن عمر، أنه كان بماء له فبلغه أن الحسين (عليه السلام) قد توجه إلى العراق فجاء إليه وأشار عليه بالطاعة والانقياد، وحذره من مشاققة أهل العناد، فقال: يا عبد الله أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا (عليه السلام) أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا، فلم يعجل الله عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام، ثم قال له: اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي”(66). وهنا يوجب الإمام (عليه السلام) على ابن عمر نصرته.
ونقل الهيثمي “عن الشعبي قال: إنما(عندما) أراد الحسين بن علي أن يخرج إلى أرض أراد أن يلقى ابن عمر فسأل عنه، فقيل له: إنّه في أرض له، فأتاه ليودعه، فقال له: إني أريد العراق، فقال: لا تفعل فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خُيرت بين أن أكون ملكا نبيا أو نبيا عبدا، فقيل لي: تواضع، فاخترت أن أكون نبيا عبدا، وإنّك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تخرج، قال: فأبى فودعه وقال: أستودعك الله من مقتول”(67). وهذا اتهام للإمام (عليه السلام) بأنه خرج لأجل الدنيا.
ولكن روى الصدوق في أماليه، أن ابن عمر لمّا سمع بخروج الإمام (عليه السلام) من مكة “قدم راحلته، وخرج خلفه مسرعا، فأدركه في بعض المنازل، فقال: أين تريد يا بن رسول الله؟ قال: العراق، قال: مهلا ارجع إلى حرم جدك. فأبى الحسين (عليه السلام) عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبد الله، اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقبله منك. فكشف الحسين (عليه السلام) عن سرته، فقبلها ابن عمر ثلاثا وبكى، وقال: أستودعك الله يا أبا عبد الله، فإنّك مقتول في وجهك هذا”(68).
وإن صحّ هذا الحديث فهو يدلّ على أنّ قضية الحسين (عليه السلام) كانت تأثّر في النفوس حتى قبل وقوعها، وأنّ كثيراً من الصحابة كانوا يعلمون بها لتواترها عن النبي (صلّى الله عليه وآله).
ولكن هذا التعاطف وحده لا يكفي بل تجب النصرة، بينما نرى ابن عمر قد ذهب لعكس ذلك، حيث وقف ضدّ حركة أهل المدينة في قتال الطاغية يزيد، فقد روى البخاري عن نافع قال: “لما خلع أهلُ المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشَمه وولده فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة»، وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يُبَايَعُ رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه”(69).
فالرواية تقول بأنّ أهل المدينة خلعوا يزيد ولا شك أنّ من ضمنهم بعض الصحابة وأبنائهم، ولكن ابن عمر كان متحمساً جداً للبقاء على بيعة يزيد مع أنّ يزيد في تلك الحال قد قام بجريمته المنكرة وهي قتل الحسين (عليه السلام).
أحد الصحابة وتحريض يزيد:
روى ابن عساكر: “عن أبي حمزة بن يزيد الحضرمي قال: رأيت امرأة من أجمل النساء وأعقلهن يقال لها ريا كان بنو أمية يكرمونها، (إلى أن قال حمزة) فقلت لها: أقرع ثناياه بالقضيب(أي أقرع يزيد ثنايا الحسين (عليه السلام) بالقضيب) كما يقولون قالت: أي والذي ذهب بنفسه وهو قادر على أن يغفر له لقد رأيته يقرع ثناياه بقضيب في يده ويقول أبياتا من شعر ابن الزبعري ولقد جاء رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد أمكنك الله من عدو الله وابن عدو أبيك، فاقتل هذا الغلام ينقطع هذا النسل؛ فإنّك لا ترى ما تحب وهم أحياء، آخر من ينازع فيه -يعني علي بن حسين بن علي- لقد رأيت ما لقي أبوك من أبيه، وما لقيت أنت منه، وقد رأيت ما صنع مسلم بن عقيل، فاقطع أصل هذا البيت، فإنّك إن قتلت هذا الغلام انقطع نسل الحسين خاصة، وإلا فالقوم ما بقي منهم أحد طالبك بهم وهم قوم ذوو مكر، والناس إليهم مائلون وخاصة غوغاء أهل العراق يقولون ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن علي وفاطمة اقتله فليس هو بأكرم من صاحب هذا الرأس، فقال لا قمت ولا قعدت، فإنّك ضعيف مهين بل أدعهم كلما طلع منهم طالع أخذته سيوف آل أبي سفيان قال: إنّي قد سميت الرجل الذي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا أسميه أبداً ولا أذكره”(70).
وهناك الكثير من الصحابة ممن نقلت لهم مواقف (إيجابية وسلبية) تجاه ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) يطول المقام بذكرها.
ثواب زيارة الحسين (عليه السلام) المنقولة عن عائشة
ونختم الحديث برواية عن عائشة يرويها ابن قولويه بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان الحسين بن علي في حجر النبي (صلّى الله عليه وآله) يلاعبه ويضاحكه، فقالت عائشة: يا رسول الله ما أشد إعجابك بهذا الصبي؟ فقال لها: «ويلك وكيف لا أحبه ولا أعجب به، وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني، أما إنّ أمتي ستقتله، فمن زاره بعد وفاته كتب الله حجة من حججي»، قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟ قال: «نعم وحجتين من حججي»، قالت: يا رسول الله حجتين من حججك؟ قال: «نعم، وأربعة»، قال: «فلم تزل تزاده ويزيد ويضعفه حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول الله (صلّى الله عليه وآله)بأعمارها»(71).
خاتمة
أنّ هناك من الصحابة عظماء تعظمهم الشيعة لا لكونهم صحابة -وإن كان ذلك شرف لهم- بل لأنّهم وقفوا مع الحقّ ونصروه، وقسم كبير من الصحابة هم من الشيعة الذين يرون إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، فمن يصف الشيعة بأوصاف قبيحة فإنّه يصف بذلك مجموعة من الصحابة الذين يرون بأنهم كلهم عدول، وأنّه بأيهم اقتديتم اهتديتم. ونسأل الله الهداية في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.