المشـي في الأربعين.. دروس أخلاقية عمليَّة
شفقنا العراق-تكشف زيارة أربعين الإمام الحسين «عليه السلام» عملياً عن مستوانا الأخلاقي ودرجته كما تعد زيارة أربعين الإمام الحسين «عليه السلام» من الدروس الأخلاقية العمليَّة التي تكون ملكاتٍ أخلاقيَّة. ففي زيارة الحسين «ع» مشياً على الأقدام عدة معطيات أخلاقية نذكرها إجمالا:
الصبر
إنَّ الصبر قيمة أخلاقية عالية أكَّدت عليها الآيات والروايات، وإليك جملة منها: أمَّا الآيات كما في قوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَـيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّـرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: ١٥٥ – ١٥٧).أمَّا الروایات فمنها ما عن أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ: «… الصَّبْرُ يُعْقِبُ خَيْراً، فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُوجَرُوا».
وعن حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: «الْجَنَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِالمَكَارِهِ وَالصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى المَكَارِهِ فِي الدُّنْيَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَجَهَنَّمُ مَحْفُوفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَمَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ لَذَّتَهَا وَشَهْوَتَهَا دَخَلَ النَّارَ».
وعن أَبِي سَيَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ، وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيَةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ المَلَكَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبِرِّ: دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَأَنَا دُونَهُ»، فتبيَّن أنَّ الصبر له قيمة معنوية عالية، وله أجر عظيم، وأثر بالغ في الدنيا والبرزخ والآخرة.
والمشـي في الأربعين وتحمّل عناء السفر ووعثائه وما يحدث من صعابٍ لهو من المصاديق الواضحة للصبر، وخصوصاً المشي من أماكن بعيدة مع كثرة الزحام والابتلاءات، فزيارة الأربعين تعطينا دروساً عملية في الصبر على ما نكره من تحمّل الأذى أو الجوع أو الألم أو غيرها، والصبر على ما نُحِبُّ من طاعات.
التواضع
إنَّ سمة التواضع من أهمّ سمات وفضائل المؤمن، وهي تقع في قبال رذيلة التكبّر، وقد وقع التواضع موضوعاً للمدح في العديد من الآيات والروايات. فمن الآيات قوله تعالى: ﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً﴾ (الفرقان: ٦٣)، وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحجر: ٨٨).
ومن الروايات نذكر رواية واحدة، في مستدرك الوسائل عن مِصْبَاحِ الشَّـرِيعَةِ، قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: «التَّوَاضُعُ أَصْلُ كُلِّ شَرَفٍ وَخَيْرٍ وَنَفِيسٍ، وَمَرْتَبَةٍ رَفِيعَةٍ، وَلَوْ كَانَ لِلتَّوَاضُعِ لُغَةٌ يَفْهَمُهَا الْخَلْقُ لَنَطَقَ عَنْ حَقَائِقِ مَا فِي مَخْفِيَّاتِ الْعَوَاقِبِ، وَالتَّوَاضُعُ مَا يَكُونُ لله وَفِي الله، وَمَا سِوَاهُ مَكْرٌ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لله شَرَّفَهُ اللهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ، وَلِأَهْلِ التَّوَاضُعِ سِيمَاءُ يَعْرِفُهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ مِنَ المَلَائِكَةِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ مِنَ الْعَارِفِينَ.
وفي المشـي إلى كربلاء يمرُّ الماشي بتمارين واضحة في التواضع والبساطة، فقد يبيت على فراش غير لائق، أو يمشـي في الطرق الوعرة، أو يخدم غيره من الزوّار، أو يبتدئ بالسلام على من يلاقيه، وهذه كلّها من علامات التواضع.
الإيثار
من الكمالات التي تكشف عن رقيِّ نفس الإنسان اتِّصافه بالإيثار، وهو «تقديم الطرف الآخر لمصلحته وتفضيله على النفس مراعاةً له وتقديمه بمادَّة – مال مثلاً – أو منفعة أو حقّ من الحقوق».
ومن الروايات، عن أبان بن تغلب، قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام فَعَرَضَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَانَ سَأَلَنِي الذَّهَابَ مَعَهُ فِي حَاجَةٍ، فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام وَأَذْهَبَ إِلَيْهِ، فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ إِذْ أَشَارَ إِلَيَّ أَيْضاً، فَرَآهُ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام فَقَالَ: «يَا أَبَانُ، إِيَّاكَ يُرِيدُ هَذَا؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَنْ هُوَ؟»، قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: «هُوَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبْ إِلَيْهِ»، قُلْتُ: فَأَقْطَعُ الطَّوَافَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ طَوَافَ الْفَرِيضَةِ؟
قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَقِّ المُؤْمِنِ عَلَى المُؤْمِنِ، فَقَالَ: «يَا أَبَانُ، دَعْهُ لَا تَرِدْهُ»، قُلْتُ: بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَانُ تُقَاسِمُهُ شَطْرَ مَالِكَ»، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَرَأَى مَا دَخَلَنِي، فَقَالَ: «يَا أَبَانُ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) قَدْ ذَكَرَ المُؤْثِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؟»، قُلْتُ: بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ: «أَمَّا إِذَا أَنْتَ قَاسَمْتَهُ فَلَمْ تُؤْثِرْهُ بَعْدُ إِنَّمَا أَنْتَ وَهُوَ سَوَاءٌ إِنَّمَا تُؤْثِرُهُ إِذَا أَنْتَ أَعْطَيْتَهُ مِنَ النِّصْفِ الْآخَرِ».
وفي الأربعین نجد مصاديق الإيثار واضحة، فإنَّ تقديم الآخرين على النفس من أعظم ما يقوم به السائر إلى الحسين والخادم في موكب الحسين، فيُقدِّم مصلحة الزائر على مصلحة نفسه، وراحة الزائر على راحة نفسه، ويُنفِق من ماله لكي لا ينفق الزائر من ماله، وهكذا، فيتعلَّم من الزيارة درساً عظيماً وهو الإيثار.
التضحية
إنَّ الماشي إلى زيارة الحسين يُقدِّم الجهد الجهيد والتضحية بماله أو بوقته أو بنفسه تضحية منه لأجل هذه الشعيرة وهذا الدين، وفي ذلك تمرين على التضحية لأجل المبادئ والقيم السامية، وقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك في دعائه لهم: «… اغْفِرْ لِي وَلِإِخْوَانِي وَزُوَّارِ قَبْرِ أَبِيَ الْحُسَيْنِ الَّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَشْخَصُوا أَبْدَانَهُمْ رَغْبَةً فِي بِرِّنَا وَرَجَاءً لِمَا عِنْدَكَ فِي صِلَتِنَا وَسُرُوراً أَدْخَلُوهُ عَلَى نَبِيِّكَ وَإِجَابَةً مِنْهُمْ لِأَمْرِنَا وَغَيْظاً أَدْخَلُوهُ عَلَى عَدُوِّنَا…، وَأَعْطِهِمْ أَفْضَلَ مَا أَمَّلُوا مِنْكَ فِي غُرْبَتِهِمْ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَمَا آثَرُونَا بِهِ عَلَى أَبْنَائِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وَقَرَابَاتِهِم».
العفَّة
من الصفات التي ركَّزت عليها الشـريعة صفة العفَّة في البطن والفرج، بل وصفت العفَّة بأنَّها من أفضل العبادات، وجاءت النصوص مبيِّنة لذلك فمن القرآن قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ (المؤمنون: ٥)، وقوله تعالى:﴿وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ﴾ (الأحزاب: ٣٥).
ومن الروایات ما عَنْ المُفَضَّلٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: «إِيَّاكَ وَالسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوَابَهُ وَخَافَ عِقَابَهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ». فإنَّ الزيارة فيها نحو من أنحاء الاختلاط، وهو وجود الزائرات والزائرين في مكان واحد، وهنا تبرز العفَّة في التعامل مع الجنس الآخر من خلال غضِّ البصـر وحفظ اللسان وحفظ اليد والفرج عن التعدّي.
الشجاعة
الزيارة تُعلِّم الإنسان الشجاعة في اتِّخاذ الموقف، والصبر على الخوف، وقوَّة الإقدام خصوصاً مع المنع للزيارة كما كان يحصل أيّام الطاغية. ففيها توطين للنفس على المواجهة والتعدّي للموت والقتل والسجن والتعذيب، وما هذا إلَّا صور رائعة من صور الشجاعة والإقدام في سبيل المبادئ والقيم الدينية.
الموالاة والبراءة
من المفاهيم العقائدية التي ركَّزها آل البيت عليهم السلام في نفوس أتباعهم مفهوم الولاء لأولياء الله تعالى والبراءة من أعداء الله تعالى، وهو أن تجعل حبَّك ومودَّتك وطاعتك لأولياء الله تعالى وبغضك وعصيانك لأعداء الله تعالى، وهذان المفهومان لهما تأثير على المستوى العقدي فلا إيمان حقيقياً إلَّا بهما، وعلى المستوى العملي فلا قبول، بل لا صحَّة للعمل – على خلاف – إلَّا بهما، وهذا ما أشارت له الكثير من الآيات والروايات.
ومن الروايات: عَنْ سَعِيدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: «مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْطِيَ فِي اللهِ، وَتَمْنَعَ فِي اللهِ»، وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام، قَالَ: «كُلُّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ عَلَى الدِّينِ وَلَمْ يُبْغِضْ عَلَى الدِّينِ فَلَا دِينَ لَهُ».