كنا في سنوات الطفولة نشتَبك بالأيدى ونتخاصم ثم بعد ساعة أو أقل نلعب معًا وكأن شيئًا لم يكن! لماذا تختفي وتذهب قدرتنا على المسامحة عندما نكبر فلا نستطيع الانعتاق والتحرر من العداوات؟!

ينقل عن أحد الساسة الغربيين القدماء قوله: I will destroy my enemies by converting them to friends. إذا ترجمنا هذه الجملة فهي تقول: "سأدمر أعدائي بتحويلهم إلى أصدقاء". السؤال هو: أليس من الحكمة تحويل العدو إلى صديق والتخلص منه بأقل كلفة؟ بل تحويله إلى صديق إن استطعنا!


الأجمل من القول أعلاه ما قاله القرآن الكريم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. فلسفة عظيمة ووصفة صالحة لكل الأزمان وكل الناس! لا تردّ الإساءة بالإساءة، قابلها بالإحسان. هذا التعامل سيؤدي إلى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. يقول المفسرون: "ولي" هنا بمعنى الصديق. و(حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي، وإذا قيل لعرق جسم الإنسان (حميم) فذلك لحرارتِه، ولهذا السبب يطلق اسم "الحمّام" على أماكن الغسل، ويقال أيضًا للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص "حميم".

فلسفة رائعة نراها في حياتنا كل يوم! في الصباح أحلف أني أبغض فلانًا ولن أحبه أبدًا حتى أموت! ثم تنكشف لي طيبته ووجهه الجميل أو يصنع لي معروفًا يفاجئني به فإذا به في آخر النهار يسكن في قلبي ولا تزول محبته أبدًا! رأينا في سنوات الصبا والشباب كثيرًا من الأصدقاء ما طابت الصداقة ودامت إلا من بعد كلام جميل أو هدية صغيرة!


يقول القراء الكرام: هذا ليس سهلًا! كيف أنسى العداوة؟ ثم كيف أدفع بالتي هي أحسن؟ حقًّا إنه ليس بالأمر الهين وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان! ترون ذلك الرجل مفتول العضلات الذي يرفع أكثر من مائة كيلوغرام من الحديد؟ لم يرفعها في جلسة واحدة بل تدرب عليها مدة طويلة. كذلك بناء الأخلاق يحتاج إلى ترويض نفس ومدة طويلة!

ماذا نفعل مقابل الشرور والسيئات؟ إما أن نسعى للانتقام ونقابل الشرّ بالشرّ، لكمةً بلكمة وركلةً بركلة وتشتعل الدنيا من حولنا أو نسيطر على غضبنا وندوس شهوةَ الانتقام بأقدامنا وندفع السيئةَ بالحسنة ونحتسب أجرنا عند الله! من يدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا فتنقلب العداوة محبة والبغضاء مودة.

دعونا نكون واقعيين في هذا الزمن! أستبعد أن يكون لدينا "صفر" أعداء، مع ذلك نطمح أن يكون لدينا أقل عدد ممكن منهم وأكثر عدد ممكن من الأحباء والأصدقاء. أصدقاء من أجل صحتنا فالدِراسات الاجتماعيّة العديدة تبين أن العلاقات الإنسانية الطيبة من المرجح أن تحسن صحتنا وتطيل أعمارنا -بإذن الله- ولم يخطئ المتنبي إذ قال:

شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ
وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ